من الخطأ التام بالنسبة لبريطانيا أن تتخلص من أسلحتها النووية، فقد كان ذلك جزءا حيويا من أمننا ودفاعنا الوطني على مدى أكثر من نصف قرن، ومن المستحيل أن نؤكد أن أي مخاطر كبرى لن تظهر خلال السنوات الثلاثين أو الأربعين المقبلة، وتهدد أمننا ونمط عيشنا

جاءت هذه الكلمات في خطاب رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، بمجلس العموم في يوليو/تموز الماضي، عقب موافقته على تطوير وتجديد نظام الردع النووي. ويأتي هذا التصويت في مرحلة فارقة من تاريخ المملكة المتحدة عقب تأييد خروجها من الاتحاد الأوروبي، وذلك لعدة أسباب، أهمها البحث عن دور عالمي قيادي إلى جانب تراجع الالتزام الأمريكي بأمن الحلفاء، وما يقابله من زيادة التدخلات الروسية.


الاستعداد البريطاني للخروج يحتاج إلى «الردع النووي»

اختار البريطانيون في يونيو/حزيران الماضي التصويت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، ما شكل ضربة قاصمة لحكومة ديفيد كاميرون، التي فضلت البقاء كغيرها من باقي دول الاتحاد إلى جانب الولايات المتحدة، وكان للتهديدات الأمنية مثل الإرهاب والهجرة دور كبير في هذا التصويت المزلزل، إضافة إلى تنامي النزعة القومية لدى الكثيرين ممن يبحثون عن هويتهم البريطانية وعن دور أكبر لبلادهم.

وعقب نجاح كفة المناصرين للخروج قدم كاميرون استقالته، وتولت تيريزا ماي قيادة الحكومة، لترتب عملية الخروج من الاتحاد، ولتبحث عن دور جديد لبلدها وسط اضطرابات دولية تعصف بالجميع، فالتدخل الروسي في أوكرانيا وعدم مساعدة الولايات المتحدة لدولة أوروبية تعتبر حليفة أو على الأقل شريكة في هذه المحنة أثار مخاوف الكثيرين من دور واشنطن المستقبلي في الالتزام بأمن حلفائها.

وفي المقابل، ونظرا لقوة الدور البريطاني في منظومة الاتحاد، أثار خروجها مخاوف أوروبية من إضعاف المنظومة الأمنية للاتحاد، فهي إحدى الدول النووية إلى جانب فرنسا، كذلك أصاب الهلع الناتو من جراء الصدمة التي ستضعف الحلف، فقد تتجه لتخفيف التزاماتها أيضا تجاه الحلف، فبريطانيا لم تتخلص من العبء الأوروبي لتتحمل متاعب الناتو.

اقرأ أيضا: بريطانيا العظمى والبحث عن أدوار جديدة بعد البريكسيت

وسينعكس التوجه البريطاني سواء لخروجها من الاتحاد أو تطوير ترسانتها النووية بشكل كبير على سعي الاتحاد الأوروبي لإنشاء منظومة نووية؛ لأنه لن يكون هناك أمان أو اعتماد على مظلتي لندن وواشنطن، وتبقى فرنسا التي لن تكون كافية بمفردها في مواجهة الترسانة الروسية، وسيعجل بذلك فوز ترامب، فالاتحاد يبحث الآن في إنشاء جيش موحد إلى جانب المظلة النووية.

ويؤكد هذه المخاوف ما كشفته الألمانية من أن انتخاب ترامب أثار شكوك الناتو وألمانيا حول استمرار المظلة النووية الأمريكية من أجل حماية أوروبا، لمواجهة أي عدوان روسي محتمل وكآلية للردع، ولهذا بدأت العواصم الأوروبية تناقش إمكانية إقامة مظلة ردع نووية خاصة، لحمايتها ومنعا للاستغلال الأمريكي، الذي بدا واضحا في تصريحات ترامب بأن على الجميع أن يدفعوا مقابل حماية بلاده لهم، وفي حال إنشاء المظلة الأوروبية فستمولها ألمانيا وستقودها فرنسا.


الدوافع البريطانية لتطوير النووي

أثار تطوير وتجديد نظام الردع النووي في بريطانيا الكثير من الخلافات منذ سنوات، لتكلفته الباهظة، إضافة إلى عدم وجود تهديدات كبرى في السابق على الأمن البريطاني، ولكن مع التغيرات المتتالية وغير المتوقعة أسرع البرلمان إلى الموافقة على تجديد نظام الردع النووي بعد أيام من التصويت على الخروج من الاتحاد الأوربي.

وجاءت مصادقة مجلس العموم على تجديد نظام الردع النووي، وعلى استبدال غواصات البلاد النووية الأربع «ترايدنت» بكلفة لا تقل عن 41 مليار جنيه إسترليني، بدعم من المحافظين والعمال، لتعكس التخوفات الأمنية والعسكرية الشديدة لدى بريطانيا، سواء من الإرهاب أو الدور الروسي المتنامي، وقد حظي القرار بموافقة 472 نائبا مقابل 117، وأيد أكثر من 70% من نواب حزب العمال قرار حكومة المحافظين، على الرغم من معارضة زعيم الحزب جيرمي كوربن لتجديد البرنامج النووي.

اقرأ أيضا: توماس فريدمان: ما الذي يخيفكم من رئاسة ترامب؟

ولم يمر هذا التصويت دون أن يثير الكثير من الجدل، فقد عارضه مجموعة كبيرة من البريطانيين، وأكدت الحملة المؤيدة لنزع السلاح النووي أن برنامج «ترايدنت» سيكلف 205 مليارات إسترليني، وليس أقل من ذلك كما زعمت الحكومة، في حين حددت وكالة رويترز من قبل التكلفة الإجمالية لتجديد والإبقاء على نظام بديل لـ«ترايدنت» بأكثر من 167 مليار إسترليني على مدى 32 عاما.

ولم تتأخر المملكة كثيرا في بدء العمل في هذا البرنامج، حيث أعلنت وزارة الدفاع البريطانية في 1 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي بدء أعمال البناء في الغواصات النووية باستثمارات جديدة تبلغ قيمتها نحو 1.3 مليار إسترليني، وذلك وفاء من الحكومة بالتزاماتها في الحفاظ على برنامج «ترايدنت» للردع المستمر في البحر.


أمريكا تتخلى عن الجميع

على بريطانيا تجديد نظام الأسلحة النووية «ترايدنت» إذا أرادت الحفاظ على دورها الضخم في الشئون العالمية

بهذه الكلمات دعا وزير الدفاع الأمريكي أشتون كارتر، في فبراير/شباط الماضي، المسئولين البريطانيين إلى زيادة القدرات العسكرية لبلادهم وخاصة السلاح النووي، وبهذا أرادت الولايات المتحدة التمهيد لتحمل الأوروبيين ومنهم بريطانيا عبئا أكبر في المسئوليات الأمنية لمواجهة روسيا.

وكانت هذه الدعوة في فترة أوباما الذي أكدت إدارته الالتزام بأمن أوروبا، على الرغم من استيائه من وجود ما يعرف بـ«الراكبين مجانا» من الدول الأوروبية، التي تستغل بلاده في الدفاع عنها، فما بالنا بعد (كابوس) وصول دونالد ترامب إلى السلطة، الذي ذكر كثيرا خلال حملته الانتخابية خفض الالتزام الأمريكي في الدفاع عن حلفائها، إضافة إلى رؤيته للتقارب مع روسيا.

وسيعزز وصول ترامب إلى سدة الحكم من الرؤية البريطانية في تعزيز قوتها العسكرية سواء التقليدية أو النووية، إضافة إلى البحث عن شركاء آخرين، وهذا ما يتمثل في تعزيز الشراكات، ومحاولة تعزيز الوجود في مناطق نفوذ قديم، والبحث عن أماكن جديدة، من أجل كسب حلفاء يمكنهم مساعدتها أو على الأقل استخدام أراضيها أو أموالهم في ذلك، وهذا يتضح في التوجه البريطاني نحو الشرق الأوسط، وخاصة دول الخليج التي تيقنت هي الأخرى من التخلي الأمريكي.

اقرأ أيضا: قمة خليجية لبحث البركسيت بحضور بريطانيا

ويؤكد ذلك مشاركة تيريزا ماي في الدورة الـ37 لمجلس التعاون الخليجي، إضافة إلى عقدها قمة خليجية بريطانية، لمحاولة إنتاج صياغة جديدة من الشراكة الأمنية بين الجانبين، والتي عبرت عنها ماي بأن أمن الخليج من أمن بريطانيا وأنها على استعداد لمواجهة إيران في سوريا واليمن مع الخليج، وسبق ذلك تعزيز وجودها العسكري في المنطقة مرة أخرى مستخدمة مصطلح «شرق السويس»، وذلك خلال تدشينها قاعدة عسكرية جديدة في البحرين.


الردع النووي لمن؟

الناتو يكلفنا كثيرا، نحن بهذه الصورة نحمي أوروبا، لم يعد بإمكاننا تحمل ذلك، لذلك يجب إعادة النظر بهذا، إبقاء الناتو ولكن بتحمل نفقات أقل

أكدت تيريزا ماي، خلال خطابها في البرلمان أثناء مناقشة تجديد نظام الردع النووي، أنها لا تمانع في توجيه ضربة نووية قد تؤدي إلى مقتل مائة ألف مدني، وذلك حتى يعلم أعداء بريطانيا أنها مستعدة لاستخدام السلاح النووي إذا ما تعرضت لأي تهديد، وحددت مصادر المخاطر النووية على بريطانيا من روسيا وكوريا الشمالية.

ويتضح من هذه العقيدة الجديدة لماي ولأي إدارة بريطانية مقبلة أن الخيار النووي والتهديد به سيبقى مطروحا بقوة لاحقا لمواجهة هذه السيولة الدولية وإعادة صياغة التوازنات، التي تبحث فيها بريطانيا عن دور لها لتستغل التخوف من موسكو في توسيع هذا الدور، بل إنها ستطرح نفسها كمظلة نووية لآخرين، بدلا من الحليف الأمريكي الذي أصبح في طريقه إلى التخلي عنهم، وبدأت ماي هذا التوجه من الخليج، وستسعى إلى مده في مناطق أخرى.

ولهذا لن يكون تجديد برنامج الردع النووي البريطاني موضوعا فقط لروسيا، فبالطبع أرادت أن تعزز الضمانة الأكيدة لأمنها بهذا السلاح، إلى جانب مساعدتها في رؤيتها لدورها الجديد في العالم، الذي أتى بتشجيع سابق من واشنطن سواء لتراجع التزاماتها تجاه حلفائها أو بحثها عن شريك قوي لها يساعدها في مد استمرار نفوذها الآخذ في التراجع، وهذا ما أوضحته تصريحات وزير الدفاع الأمريكي المذكورة سابقا.

ويتضح من هذا أن هناك إصرارا بريطانيا على تعزيز القدرات النووية، على الرغم من امتلاكها ترسانة، وإن كانت أقل بكثير من روسيا، وتتمثل في 215 رأسا نوويا تحملها الغواصات النووية الأربع «ترايدنت» مقارنة بالروسية والمقدرة بأكثر من 7 آلاف رأس نووي، ولهذا من المتوقع أن سباق التسلح النووي سيعود من جديد مدفوعا بالتغيرات الأمريكية، والمساعي الروسية، إضافة إلى الرغبة في البحث عن أدوار قيادية جديدة.