في اللحظة التي يقف فيها أبناء هذا الجيل متسائلين عن الهويات الأساسية التي ينطلقون منها ويخاطبون بها عالمهم وينظرون إليه، وبعدما باتت البشرية تتعامل بريبة مع الهويات والسرديات الكبرى، يكون من العبث تنحية فكرة النوع عن المشهد. فأنت عندما تعرف نفسك من حيث أنك إنسان، يتضمن تصورك عن هذا الإنسان كونه ذكرًا أو أنثى. أي أن تعريف النوع (الجنس Gender) من حيث أنه مكون أساسي في تصور المرء عن نفسه كإنسان، ضرورة ينبني عليها ما بعدها.

من ثمَّ، يكون الحديث عن الحركة التي وضعت للدفاع عن نوع معين، وفهم قضاياه، والنظر في تاريخها ونظرياتها وآثارها ونقدها شيء رئيسي، لتتبع هذا الخلل في تعريف الهويات الأساسية التي يعانيها جيلنا. النسوية، أو النسويات بالأحرى، هي التيار الأهم الذي تناول مسألة النوع بأبعادها المختلفة، وكان لها تأثير ضخم على الصورة الذهنية الحالية عن الأنثى وأدوارها، وكذا عن الرجل باعتباره النوع الوحيد المقابل لها في الجنس البشري. فلماذا وُجدت هذه الحركات أصلا؟


الموجة الأولى: حركات تحرير المرأة

ببروز عصر النهضة الأوروبى، وبداية الحديث عن الدول القومية والديموقراطيات، ثم تمكين الأقليات والمستضعفين داخل هذه الديموقراطيات، ورسم خريطة التمثيل السياسي والحقوقي في الدول المحدثة، ظهرت حركات التحرر ودعم الأقليات. يمكن اعتبار النسويات في طورها الأول إحدى هذه الحركات، وتقوم على دعم تمكين المرأة وضمان حقوقها في النظام الديموقراطي.

كان أول خطاب نسوي صريح يحمل أفكار النسويات -دعونا نسميها هنا «حركات تحرير المرأة»- أو تمكينها هو ما أنتجه مؤتمر سينكافولتر عام 1848 في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو الذي حضره 300 شخص، من بينهم 40 رجلا. تضمنت المطالب في هذه المرحلة: حق الترشيح والتصويت للمرأة، حق الملكية الخاصة (الاستقلال بالملكية عن الرجل)، ونحو ذلك من الحقوق القانونية. جاء خطاب سينكافولتر خاليًا من البعد التنظيري والأيديولوجي، بل هو عبارة عن مجموعة من المطالب القانونية والتعديلات الدستورية.

في 1920، جاء التعديل الدستوري الأول بأمريكا، وسمح للمرأة بالتصويت في الانتخابات، فيما كان حصول مثيلاتهن من النساء فى الدول الأوروبية على مثل هذا الحق على مدار السنوات التالية أو قبلها: في نيوزيلاندا حصلت المرأة على حق التصويت عام 1893. وبعض النساء في هذه الدول احتجن لشن حملات عنيفة للحصول على مثل هذا الحق، مثلما فعلت النساء الإنجليزيات.


الموجة الثانية: مرحلة القداسة الأنثوية

بحصول النساء على حق التصويت وضبط بعض القوانين الخاصة بالملكيات والحقوق العامة، ظهر خطر فناء الحركة النسائية؛ إذ أنها لم ترتكز ابتداء على أيديولوجية تسعى إلى نشرها، بل كانت أفكارها هي مجموعة من الأهداف التي تم تحقيقها في معظم الدول. كان هذا قبل ظهور كتاب «اللغز الأنثوي The Feminine Mystique» لبيتى فريدان عام 1963 [تُرجِم الكتاب إلى العربية عام 2014 بواسطة عبد الله فيصل، وصدر عن دار الرحبة – دمشق]، الذي أذن ببداية الموجة الثانية من الحركة النسائية -هنا يمكن تسميتها بالنسوية Feminism-.

الأساس النظري الذي قامت عليه هذه الموجة هو: المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة في كل شيء، ويمكن اعتبار حتمية الصراع بين الرجل والمرأة هو اللازم لهذه النظرية. يصف الكتاب أوضاع النساء فى العالم ويصفها بأنها «المشكلة التي لا يمكن تسميتها»، أي أن النساء يعانين حالة شعورية من القهر والإحباط الدائم نتاج التميز الذكوري وقهر المرأة.

صحيح نادت النسويات فى هذه المرحلة بعدد من الحقوق تمحورت حول هذه النظرية الأساسية مثل: الحق فى حرية الإجهاض (حصلت عليه المرأة فى أمريكا عام 1965)، تجريم التميز القائم على الجنس في العمل (حصلت عليه المرأة الأمريكية عام 1964)، حق المساواة فى الأجور (شرع في أمريكا عام 1963). تظهر في تلك المرحلة حالة عامة من المناداة بالمساواة بين الرجال والنساء في كل الحقوق والواجبات.

لكن بتتبع عمل الحركات النسوية في هذا الوقت، ستقف على عدد من النقاط والسمات العامة لهذه الفترة، والقيم المؤسسة للنسويات. تؤمن النسويات في طورها الثانى بتمايز الأنثى، لا بتساويها مع الرجل، حتى سميت هذه المرحلة بمرحلة «التمحور حول الأنثى»، وقد كان لهذه الفكرة مع ذلك أثر إيجابي، وهو إدخال «دراسات النوع» ضمن الدراسات الإنسانية والاجتماعية، فبدل دراسة الظواهر باعتبار آثارها متساوية على الرجال والنساء، بدأ التفريق في الآثار والاحتياجات بين الرجال والنساء.

عانت النسويات من تشتت وفرقة، فلم تُجمع غالبًا على موقف موحد من القضايا المختلفة، وبدأ هنا نقد النسويات بعضها لبعض وظهور الصراعات الداخلية. كما تطورت النظريات النسوية طبقًا للنظام والمجتمع الذي نشأت فيه؛ ففي النظم الإشتراكية كان التركيز على قيم العدالة الاجتماعية باعتبارها أساس حل مشكلة المرأة، بينما كان صراعها مختلفًا في الليبراليات ما بين توافق في قيم الحرية والمساواة، وخروج عن الليبرالية فيما يخص مبدأ العام والخاص. وصار موقفها من عدة قضايا مختلفًا في الدول التي تحكمها أصوليات دينية كالدول الإسلامية.

على كلٍ، ثمَّ قيم مؤسسة لهذه المرحلة من حياة النسويات، برغم ذلك التشتت من أبرزها:

أولا: العام والخاص

بخلاف الليبرالية التي جعلت السياسة شأنًا عامًا يختص بالقضايا العامة والمشتركة. جعلت النسوية العام يدخل في كل ما هو خاص. أي أن السياسة تختص بالحقوق والحريات العامة، وبترتيب الأسر والحقوق الخاصة كذلك. ومن خلال هذا المفهوم، تم تناول عمل المرأة باعتباره شأنًا سياسيًا، وتم تناول التعارض بين عمل المرأة والأمومة باعتباره قضية عامة تضع النظم الاجتماعية سبلا لحل التضارب بينهما.

وبهذا تم تعميم الحياة الخاصة بعدم مراعاة للفروق الفردية بين أسرة وأسرة، ورُسِم نمط للحياة بحجة ضمان حقوق المرأة. وستشهد الموجة الثالثة حديثًا عن دور النسويات في تفتيت الأسر.

ثانيًا: الأبوية

هنا تقوم النسوية بالأساس على وضع مسلمة أن المجتمات يسيطر عليها الرجال، كما يسيطر الأب على الأسرة، وهم أصحاب القرارات والتوجيهات، وبالتالي يمارسون العسف والقهر على النساء اللاتي يتم اعتبارهن طبقة أدنى.

تقوم النسويات على هدم الأبوية، وبالتالي هدم الأدوار المعدة مسبقًا للمرأة باعتبارها فحسب أمًا وربة منزل، وتحييدها عن العمل العام. وتتبع فكرة الأبوية وتحيل إليها أغلب مشكلات النساء بالعالم.

ثالثًا: الفصل بين الجنس والنوع

نظرًا لأن التغافل عن فكرة الاختلاف البيولوجى بين الرجل والمرأة شيء مستحيل، كان لا بد من إيجاد صياغة توافقية بين كون المرأة مختلفة بيولوجيًا عن الرجل، وكونها مساوية له. هنا ظهرت فكرة التفريق بين النوع والجنس، الجنس هو شيء خاص لابد ألا يتدخل في تحديد الأدوار، ولا يتصل بشيء من وجود الشخص في المجال العام. الجنس تحدده الأعضاء التناسلية وهيئة الجسم، ويتعلق بالحمل والولادة والإرضاع، ولا يتعدى هذه الرحلة، حتى لا يُملي على المرأة كونها أمًا أو يحصرها في دور الأمومة. بل على المجتمع أن يشاركها هذا الدور.

أما النوع فهو مفهوم أكثر تطورًا. فالنسوية تسعى لإيجاد «الشخصية الإنسانية» في المجتمع التي لا تختص بكونها رجلا أو إمرأة في أي شيء، بل تقتصر على كونها إنسانًا.

هنا تظهر إشكالية كبيرة، كون فكرة الاختلاف بين الجنسين لا يمكن تخطيها بحال، ولا يمكن الوصول للشخصية الإنسانية هذه، لأن الصفات الجسدية تحدد قدرات وتقدم أدوارًا على أدوار، ويتخطى عملها فكرة اختلاف طفيف في البنية أو عمليات كالحمل والولادة، بل تدخل في تكوين نفسي وذهني مختلف. وقد بدأت بالفعل تظهر النسويات المؤيدة للاختلاف التي تبني أطروحتها بالأساس على كون المرأة مختلفة عن الرجل، ومتمايزة عنه، ويجب استغلال نقاط تمايزها، والاعتماد عليها.

رابعًا: المساواة والاختلاف

كون فكرة النوع والجنس قد أوجدت تيارات مختلفة في النسويات، تُظهر هذه الحالة وجود قطبين في الموجة الثانية للعمل النسوي:

القطب الأول وصاحب النظرية المؤسسة، أصحاب (المساواة). فكرة أن الرجل والمرأة متساويين في كل شيء. وبالتالي يجب مساواتهم في الحقوق والواجبات والأدوار والأجور، وليس ثمة تمايز.

أما القطب الثاني فيدعم فكرة الاختلاف بين الرجل والمرأة، ولكن طبقًا لأساس أن المرأة أفضل وصاحبة قدرات أعلى وبالتالي يجب التركيز على نقاط قوتها واستغلالها.


الموجة الثالثة: الارتداد من النسوية

تواجه الأفكار النسوية مشكلتين أساسيتين الآن: أولا كون المساعي والأهداف التي كانت قد وضعتها قد تحققت أو في طريقها للتحقق في معظم البلدان. فلما كانت النسويات تعمل على الجانب التشريعي والتقنين لفرض حرية المرأة وحقوقها، فقد حازت النساء على حقوق كالتصويت والترشيح والاقتراع والعمل والإجهاض. وبالتالي، لم يعد هناك حاجة لوجودها كحركات على الأرض.

المشكلة الثانية، كون أفكار النسويات العالمية تعرضت لاهتزازات عنيفة وانشقاقات داخلها، فبين فكرة المساواة والاختلاف، النوع والجنس والاختلاف بين ما مثلته النسوية من قيم فى الأقطار المختلفة، كمعاداتها للدين فى الدول ذات الأصوليات الدينية، وللاشتراكية في الأنظمة الاشتراكية وغيرها.

أضف إلى ذلك الارتداد الذي حدث في المجتمعات الغربية نفسها على أفكار النسويات وما أحدثته في المجتمع، فأرجع إلى النسويات مشكلة التفكك الأسري وتأخر الزواج والأمهات غير المتزوجات وتزايد الجريمة وغيرها من المشكلات، ورغم كل المساعي التي حاولت النسويات بها الوصول لتمكين ومساواة تامة للمرأة، صارت العديد من النساء بالعالم يعانين من مشكلة نقص راوتبهم في مقابل ارتفاع عدد ساعات العمل فى مقابل رواتب الرجال. وبعض المجتمعات صارت تعانى حالة انسحاب للذكور من المجال العام مقابل النزعة الصراعية التي تنزل بها المرأة للمجال العام، وبسبب عدم توفر فرص ومجالات تختص بالرجال.