لا تزال تؤرق إشكالية الدين في المجتمع الحديث كل المجتمعات اليوم، بما فيها تلك المجتمعات التي اعتقدت أنها أنجزت الحداثة والعلمنة على صعيدها الداخلي، وخاصة في تلك المجتمعات التي حُدِّثت على غير منوال المجتمعات الغربية؛ ما يدعوه البعض بـ «الحداثة الهجينة» أو الناقصة غير المكتملة، أو ما يراه البعض الآخر باعتباره تلفيقًا وحَيْدة تاريخية هي التي تسبب كل ما تعيشه مجتمعاتنا العربية والإسلامية منذ قرنين من اضطرابات داخلية سياسية واجتماعية واقتصادية.

والحال أن التضارب في طبيعة «علمنة» هذه المجتمعات العربية والإسلامية إنما يتأتى من تضارب المشارب التفسيرية التي ينطلق منها المفسرون للشرط العربي الحديث، خاصة في ضوء المكانة التي يحتلها الإسلام وعلاقته بالحداثة والعلمنة والدور المنوط به في إحداث ذلك.

بيد أن حقل قراءة التاريخ لطالما كان حقلا متضاربًا ومتنازعًا إلى نفسه. فالنظرية التي تفسر الدين في المجتمع الحديث تخضع هي بدورها إلى تحيزات هذه القراءة أو تلك، موجِّهة مسار التاريخي إلى ما تريد، وقارئة الشرط البشري برُمته إما كعملية إتمام للتقدم وإنجاز له، وبالتالي، إذا استشهدنا بتشارلز تايلر في «عصر علماني»[1]، تقرأ التاريخ كعملية انحدار للديني وتكشُّف العلماني باعتباره حقيقة للإنساني برمته، وإما كتضارب للقوى الدينية والعلمانية منذ مستهل التاريخ إلى العصر الحديث، بله ما بعد الحديث ما دمنا نعيش في أفق ما بعد حداثي أيًّا ما كان معنى «الما بعد» ههنا.

دعونا نعترف بادئ ذي بدء أن أسئلة الديني والعلماني أسئلة متحيزة إلا قليلا، ولا تنبع من تجربة سوسيولوجية وأنثربولوجية لممارستهما، وإنما تأتي من التحليقات الفلسفية للنظريات عموما، وهي تلك النظريات التي تقولب التاريخ وتقرأه وفقًا لأيديولوجيّة التقدم. ومن ثمَّ، يغدو التاريخ سيرًا لتحقيق نظرية العلمنة، إذا استطعنا أن نتحدث عن نظرية لها، وتحقيقًا لغايات حددها الشرط الحديث نفسه كغايات بشرية مسبقة، وما التاريخ إلا سير إليها. ولا نخطئ إذا قلنا إن الحداثة نفسها اختلقت التاريخ، وقسمته، وحددت مهامه من قبل لتقرأه كوحدة متجانسة تسعى إلى غاية بعينها. إذ يُنظَر للحداثة كانتصار، لأن الثنائيات توجه مخيالنا قبلا لقراءتها في ضوء «ظلامية» ما، وفي معترك تنازع مع قوى قديمة وقوى أنوارية.

غير أننا لا بد لنا من إعادة التفكير في تاريخ الحداثة نفسها، تلك الحداثة التي لا يمكن أن تُنجَز، بتعبير هابرماس. لكننا ننظر، على عكس هابرماس، إلى عدم ناجزيتها كانشطار وكتجارب متعددة، وأن الصيغة المتربولية لها التي تُصدَّر إلى الخارج هي تاريخية ومحددة ومؤطرة، ولا تتحول مفاهيمها من الميتربول الغربي إلى الأطراف دون تحوير [2]، لأن هذه المفاهيم -العلمانية، التقدم، الديمقراطية، إلخ- ليست شيئًا نهائيًّا، بل تُسيَّق وفقًا للشرط التاريخي الذي تستقر فيه، كما إنها غير كونية بتاتًا، وبالتالي فمعيشها تاريخي، والذين يتحدثون عن علمانية مكتملة (الغرب)، وأخرى ناقصة (الشرق)، إنما تحدوهم نظرية العلمنة التي سأستفيض في تبيان موقفها من التاريخ.


نظرية العلمنة والتاريخ

يتساءل جوزيه كازانوفا «من الذي ما زال يؤمن بأسطورة العلمنة؟»[3]. قد يبدو سؤال كازانوفا حادًّا، إلا أنه حقيقي عندما ندرك الفهومات التي تتعاطى مع التاريخ كسيرورة أحادية. وتتمثل إعادة التفكير في العلمنة في مقاربتها كشيء قائم في الممارسات والأعمال والسياسات التي نسميها «علمانية»، لا بالاعتماد على النظرية وحدها. وكما هو معلوم، تعمل نظرية العلمنة التقليدية عملها في تشطير العلماني والديني. فلا العلمانية ولا صنوها، الدين، بمفاهيم جاهزة. إنها مفاهيم يُعاد تشكيلها وتُرسم كل حين. ففي حين كان الدين عاملا من عوامل انبثاق العلمانية في دول غربية، كان هو نفسه المقصيّ في علمانية أخرى. وإنني لا أرمي بذلك للقول بـ«علمانيات متعددة»، وإنما للفت الأنظار لقيمة الممارسة في تشكيل المفهوم والنظرية.

يوضح طلال أسد في أبحاثه عن العلماني والديني أن هناك نزاعات جوهرانية تُلقي بتعريفات نهائية على العلماني والديني -كمقولتين-، ويشير أسد إلى كيف أن عزو أي تعريف نهائي إلى كل منهما هو تفويت مبكر للنقاش حول ماهيتهما المُشكَّلة تاريخيًّا. ومن ثم، ومن خلال ما أسماه بطرافة «أنثربولوجيا العلمانية»، يحاول أسد أن يسبر ماهية العلماني والتساؤل عما يكون. ومن هنا، يتبع نهجًا جينالوجيًّا ليعرف كيف استقى «العلماني» مصادره، وأصبح يسم ممارسات معينة، الأمر الذي سيؤهل ما سيسمى لاحقًا بـ«نظرية العلمنة» أن تكون، وستصبح فيما بعد، على يد العلمانيين التقليديين -وهم هؤلاء الذين يحولون العلمانية إلى عقيدة وأيديولوجيا وقوة يقرأون التاريخ من خلالها- نظرية للتاريخ.

إن الرؤية الخطية للتاريخ، بوصفه تاريخ تقدم في سبيل الاستنارة، هي ما طبعت «نظرية العلمنة» بسردية التقدم هذه، ومن ثم جعلت من المبادئ العلمانية مبادئ كونية وعالمية.

ومن هذا المنطلق، يمكن للمرء أن ينتقل إلى من ينصِّبون العلمنة ليس كعملية تاريخية، وإنما كنظرية للتاريخ. بقول آخر، تغدو العلمانية سردية كبرى (grand narrative)، إذا استعرنا من عزمي بشارة [4]، يُقرأ التاريخ البشري من خلالها على أنه تقدم في سبيل العلمنة، وتقدم في سبيل العلم، والاستنارة. وبهذا تنتقل العلمانية -وفقًا لنظرية العلمنة- من كونها نتاج سياق معيَّن، تاريخي و«ديني» وسياسي-اقتصادي، إلى كونها هدفًا يسير إليه التاريخ البشري، ويُقسم التاريخ بناء على عصور تراتبية؛ كالعصور الأسطورية ومن ثم الدينية ومن ثم العصور «العلمية»، أي العلمانية بمعنى آخر.

تعمل نظرية العلمنة على إنتاج ما أسماه تشارلز تايلر «قصص الحذف»[5] (subtraction stories)، أي إنها تحذف من التاريخ وتشذب كي تنشئ سرديتها عن هذا التاريخ. و«قصص الحذف» هذه هي التي تجعل من تعريف العلمانية معنى سلبيًّا دائمًا، وتمنحها الغياب الدائم. وكما يقول السوسيولوجي كاريغ كالهون (Craig Calhoun) بأنه «غالبًا ما تُقارَب العلمانية كضرب من الغياب»، أي كضرب من غياب الدين، و«السحر عن العالم» -بمفهوم ماكس فيبر-، والأساطير، وغياب كل شرط متعالٍ عن الوجود البشري. ولذلك يرى أن هذه النظرة «مضللة»، ولا بد من مقاربة العلمانية كشيء واقعي، كشيء ملموس، بدلا مما توحي به نظرية العلمنة من كون العلمانية أسطورة.

إن الرؤية الخطية للتاريخ، بوصفه تاريخ تقدم في سبيل الاستنارة، هي ما طبعت «نظرية العلمنة» بسردية التقدم هذه، ومن ثم جعلت من المبادئ العلمانية مبادئ كونية وعالمية لا يناهضها إلا المحلي والخصوصي. والحال أن سيرورة العلمنة لا تتوقف على الأجندة السياسية للدولة فحسب، وإنما تنشئ نمط «تذوّتٍ» جديد، أي إنها تعيد إنتاج الذوات وفقًا لسرديتها، ووفقًا لرؤيتها للتاريخ، وللدولة. ومن هنا، فهي تُقصي ذواتًا لأجل أخرى، بل وتعرف هذه الذوات من منطلق رؤيتها هي.

إن تحديد العلمنة كضرب من ضروب «إزالة السحر عن العالم» لهو أمر مضلل. لأن هذا الرأي يصور العلمنة كتاريخ انتصار، في حين يصور تاريخ الدين كتاريخ انحدار؛ انحدار في النظرية والممارسة، مقابل تصاعد في العلمنة وبزوغ الذوات العلمانية. وهذا القول يعني، فيما يعنيه، أن العلمنة عملية محايدة، تزيل «السحر» حتى تكشف عن «الحقيقة»، حقيقة الطبيعة الإنسانية، وحقيقة الدين الذي «يُسحرن» العالم.

ولعل هذا ما حدا بطلال أسد لأن يقول: «تقتضي [العلمانية] ضمنًا مفاهيم جديدة لـ (الدين)، و (الإيتيقا)، و (السياسة)، وتقتضي ترابطًا حتميًّا جديدًا بينهم»[6]، مما يعني أن للعلمانية تعريفها للدين، أو يمكن لنا القول إنها أعادت إنتاج الدين، وعملية إعادة الإنتاج أتاحت لمبادئها وأسسها المتعالية أن تقوم. وهذا فضلا عن أن العلمانية قد تم مأسستها سياسيًّا في التاريخ الغربي الحديث، وهي أصلا يُعاد إنتاجها ضمن عملية المأسسة الدائمة لها. ومن ثم، فمأسستها سياسيًّا لم يكن بغرض تهدئة الصراعات الدينية في المجتمعات الغربية، لأنها هي نفسها قد تكون -وبالفعل قد كانت- «حمّالة الإقصاء القاسي» كما يقول طلال، وهذا ملاحظ تاريخيًّا في إعادة إنتاجها للذوات وإقصائها لذواتٍ أخرى لا ترى ما تراه العلمانية، أو في التجربة الكولونيالية للغرب الحديث.

ترتكز «محمود» إلى ماركس وطلال أسد لإثبات أن الدول العلمانية لم تلغِ الدين، وإنما خصخصته وعمقته اجتماعيًّا على خلاف زعمها المعهود.

في كتابها الأخير الذي أنهيتُ ترجمته بعنوان «الاختلاف الديني في عصر علماني»[7]، تحاجج صبا محمود، بفهم طريف، أن العلمانية السياسية ليست هي مبدأ حيادية الدولة، وإنما هي إعادة تنظيم الدولة للحياة الدينية على عكس ما يُشاع عنها. ومن ثم، تنظر كيف تحول السياسات العلمانية الدينَ، وكيف يتواشج الديني والعلماني معًا بموجب الدولة الحديثة، وهذا يتجلى في نقاشها المثمر للغاية حول قوانين الأسرة الإسلامية والقبطية، وكيف يتضافر الدين والجنسانية sexuality والجنوسة gender والعلمانوية في هذه القوانين التي تنتج إرباكًا شديدًا في حالة الأقليات بالدول القومية العلمانية الحديثة.

رتكز «محمود» إلى ماركس وطلال أسد لإثبات أن الدول العلمانية لم تلغِ الدين، وإنما خصخصته وعمقته اجتماعيًّا على خلاف زعمها المعهود.وترتكز «محمود» إلى ماركس وطلال أسد لإثبات أن الدول العلمانية لم تلغِ الدين، وإنما خصخصته وعمقته اجتماعيًّا على خلاف زعمها المعهود. وبالفعل، منذ المقدمة تشير محمود إلى ماركس بمقالته المعنونة «حول المسألة اليهودية» التي يرد فيها على باور الذي يمثل قمة المثالية الهيغلية. ولعل من الطريف أن يترافق ماركس وطلال أسد في هذا الكتاب: الأول يقول باستحكام الدين في الدولة الليبرالية، والثاني يقول إن الدين نفسه هو مفهوم علماني. لكن، وإن كان ماركس يقول بذلك ليحدد الدين باعتباره «اعتقادًا»، فإنّ طلال أسد يقول إن مفهمة الدين conceptualizing religion كـ «اعتقاد» هو نفسه تصور حداثوي ينظر إلى الدين في أبعاده المثالية دون استثمار مادية الدين الخاصة [8]. لذلك، بحسب أسد، علينا أن ننظر إلى العلمانية فيما وراء مبدإ حيادية الدولة تجاه الدين (أي كمنظِّمة للدين في الحياة الاجتماعية للمجتمعات والجماعات البشرية) كما فعلت محمود في كتابها وتحدت بالفعل نظرية العلمنة، وأن ننظر للدين فيما وراء الاعتقاد (أي كممارسة خطابية ومادية).

تعلمنا كل تلك الأبحاث الجليلة عن العلماني والديني أن ثمة مشكلة أخرى كامنة في نظرية العلمنة، إذ إن العلمانية نفسها نتاج سياق «ديني»، وهذا أمر مهم لا بد من تفحصه. فهي ليست نتاج صراع الكنيسة والدولة مما أدى إلى «عزو ما لقيصر لقيصر وما لله لله» فهذا أحد معانيها (وهو المعنى الأول، كما حدده تايلر في «عصر علماني»)، إنما هي أيضًا نتجت وتطورت في سياق ديني مسيحي-يهودي هو من أعطاها فعاليتها التاريخية. فـ«ما يجعل كثيرًا من الجدل المعاصر تافهًا هو أنه لا أحد من الجانبين يدرك أن العلمانية ظاهرة دينية، وأنها تتولد مباشرة من التقليد اليهودي-المسيحي كما تتطور في البروتستانتية … والدين، من ناحية أخرى، غالبًا ما يكون أكثر نفوذًا حيث هو أقل عيانًا»، كما يقول مارك س. تايلر في كتابه «بعد الإله» (after god).

إن العلمانية هي نتاج ممارسات وفعاليات واحتكاك بالتاريخ، هذه الممارسات هي الأنثربولوجيا التي تشكل مادتها، فلا يمكن استكناه معناها في نسق مغلق أو نظرية، لأن المهم هو «كيف» عِيشت وتُعاش العلمانية وكيف عمل العلماني وكيف رأت التاريخَ نظرية العلمنة، لا «ما» هي العلمانية كماهية منطقية نهائية. وهذا مهم لاستشكاف سياقات العلمانية المحيطة بها وكيف أعادت إنتاج ذوات المواطنين وإنتاج الدين من جديد خاصة في نسخته البروتستانتية التي يراد تعميمها عالميًّا كأمر كوني، لتغدو العلمانية من كونها بنت سياقٍ معين، إلى «نهاية للتاريخ»، وتصبح «شرطًا» لا يمكن تفاديه.


المجتمع ما بعد العلماني: هابرماس وعودة الدين

يمكننا، بإيجاز، القول إن «ما بعد العلماني» هو مصطلح صكه يورغن هابرماس، ويشير إلى طبيعة المجتمعات والمعرفة اليوم، بحيث تخلصت من فكرة الصراع بين الديني والعلماني، وإقصاء الأول، وإنما نحن في نمط جديد «ما بعد علماني» للدياني فيه القدر نفسه من الحجاج والمساءلة التي للعلماني. والحال أن كثيرًا من الباحثين يعدون ذلك طفرة في تفكير هابرماس الأخير، وتحول كبير في نظرته؛ فقد عُدّ إلى وقت قريب منافحًا علمانيًّا، لكنه فاجأ متلقيه وقرّاءه بنظرته للمجتمعات ما بعد العلمانية، وانتقاده للمجتمعات الحديثة التي أدلجت العلمانية لقمع أفراد ينتمون إلى تصورات غيبية. لنمضِ إلى موضعة رؤية هابرماس للمجتمع ما بعد العلماني، وأسسه النظرية لها، ثم التعريج عليها.

ترجع أهمية هابرماس في تشخيصه للمجتمع الحديث في كون هابرماس أحد نواطير الحداثة والواقفين على أبوابها والحامين لحدودها [9]. لذا؛ فإن تشخيصه يكون بمثابة فحص دقيق لما آل إليه المجتمع الحديث، إضافة إلى وفاء هابرماس لتعريفه الحداثوي وأوروبي النزعة الذي وضعه منذ هجمات تقليد كامل من الفلاسفة على الحداثة، حيث عرّف الحداثة حينها بأنها مشروع لم يكتمل؛ أي مشروع مفتوح وعى بذاته منذ لحظة هيغل، وما زالت صلاحيته النظرية متاحة. فيأتي نقد هابرماس وفاء لتعريفه؛ فالحداثة مستأنفة وليست أيديولوجية، إنما هي أفق عصر دخلت فيه الأزمنة الحديثة وتأخذ هذه الحداثة مناحيَ عدة وتتطور داخليًّا.

في حواره مع تشارلز تايلر، أشار هابرماس إلى أن الحداثة قد أفرغت مفهوم «السياسي» من أبعاده الميتافيزيقية أو الأسطورية كما في القديم، بحيث صار السياسي يمتلك حقه من أجندات اجتماعية وليس من إملاء غيبي [10]. إن مفهوم السياسي صار مفهومًا اجتماعيًّا وليس مفهومًا يستمد سلطانه من أي قوى ما بعد اجتماعية؛ فـ «تحت الظروف المتغيرة تمامًا في الحقبة الحديثة، فقدت المفاهيم الغربية عن (السياسي)، التي وجدت التعبير الجلي عنها في الفلسفة الإغريقية واللاهوت السياسي، (حيّزها في الحياة)»[11]. ويعتبر هابرماس أن هذا أكبر مكسب لمشروع الحداثة؛ بحيث أفلت مشروع الدولة من صيغته الميتافيزيقية كما في العصر الوسيط، ليغدو مشروعًا اجتماعيًّا للجميع.

ليس مهمًّا بالنسبة إلى هابرماس، وذلك كما في حوار سابق مع البابا بندكتس في 2004م، أن تكون الأسس ما قبل السياسية أو الرؤية الأنطولوجية للدولة متجاوزة أو دينية [12]، ما يهمه بالأساس هو قدرة المجال العام -وهو المصطلح الذي عمل عليه منذ أعماله الجامعية- على توفير نقاش عقلي وحجاجي للجميع؛ أي قدرة المواطنين على النقاش فيما يهم المشترك والقضايا العمومية للمواطنين، وأيضًا قدرة الديمقراطية على صناعة «السيادة» بتصورات مجتمعية، لا بتصورات ما بعد اجتماعية، ميتافيزيقية (ومن هنا يأتي خلافه مع كارل شيميت في تنظيره لـ «السيادي»).

والحال أن تصوير هابرماس هذا إنما يبدو حياديًّا وأكثر نقاءً مما كانت عليه الأمور، فإن الدولة لم تقف عند كونها مجرد آلة لتسيير الأوضاع، بقدر ما فرضت أيديولوجيا علمانية على الفضاء العمومي؛ أي حولت المكسب الأساس للحداثة إلى أيديولوجية تنافح عنها، بل وتقصي وتهمش وتصنع لاجئيها [13]. يعي ذلك هابرماس؛ كون الدولة الحداثية قد وعدت وبشرت بخلاص ما دنيوي وعلماني، ووظفت حياديتها -كما يحب أن يطلق عليها هابرماس، كونه علمانيًّا بالأساس- عن رؤية العالم لتُصدره إلى المجال العمومي وتفرضه كأفق للنقاش، ولا يكون النقاش خارج هذه الرؤية الدنيوية أو التي يَسِمونها بـ «المحايدة». إلا أن ثمة افتنانًا لدى هابرماس بحيادية الدولة وسلطتها، حتى إنه في دعوته لعودة الدين بوصفه «تصورًا عقائديًّا عن العالم» مرة أخرى للمجال العام -كما سيأتي معنا- يُطالب الدين بأن يتخلى عن سلطته لأجل حيادية سلطة الدولة؛ فـ «على الدين أن يستغني عن هذا الحق، والحق في احتكار التأويل وتنظيم الحياة الشامل؛ نظرًا لشروط علمانية العلم ومحايدة سلطة الدولة والحرية الدينية الشاملة»[14].

ما أزمة المجتمعات الحديثة إذن في تشخيص هابرماس؟

ينبغي أن نتعامل مع هابرماس بريبة نوعًا ما، فهو لا ينتمي إلى تقليد النقد الجذري للدولة الحديثة كما مع تقليد كامل ينظر للدولة كأداة للهيمنة، بل هو يعمل ضمن أفق الحداثة المؤمن بالدولة كنموذج حديث ومكتسب لا يمكن التفريط فيه. إلا أنه يضع يده على مأزق الحداثة وما فعلته بمجتمعاتها؛ تحويل الحيادية لأيديولوجيا، وإفراغ المجال العام من المتدينين والذين يمتلكون رؤى معيارية ودينية، وغلق قنوات التواصل في المجتمع المدني بين الأفراد العلمانيين والمتدينين بحقهما في الوجود والتواصل والحوار.

إذا كان الدياني [15] يمتلك رؤى معيارية عن الشأن السياسي عامة، نظرًا للحمولة الدينية التي يحملها، وللتصورات اللاهوتية التي تشكل مخياله، فإنه كان منبوذًا ومُطاردًا في فضاءات المجتمع العلماني الحديث نظرًا لأسطورة «محايدة السياسي» وعلمانيته.

ماذا يعمل إذن الدياني في فضاء «مُفرغ» من أية معيارية في حواره مع أفراد لا ينتمون إلى تصوراته؟ يقترح هابرماس حلًّا أراه مأزومًا، وينتمي بالأساس لفلسفته التواصلية، وهو ترجمة الأفكار الدينية من قبل الدياني إلى لغة «طبيعية» قابلة لأن تتداول مع الجميع وأن يفهمها الجميع؛ أي إعادة «تلسين المقدس».

إن الرؤى الدينية التي يحملها الدياني، حسب هابرماس، ينبغي أن يُعاد «تكلُّمها» وترجمتها دلاليًّا في المجال العام ضمن لغة طبيعية -هل هناك لغة طبيعية؟- علمانية يمكن لكل فرد أن يفهمها عقلانيًّا. فإذا كان المجال العام فضاء تواصليًّا بالأساس، فيجب توحيد اللغة المستخدَمة من أجل عدم وقوع لبس اجتماعي تجاه فهم لغة القضايا العامة والمشتركة.

ويمكننا صياغة أكثر بعدا لحل هابرماس، وهي: علمنة الأفكار داخل الفضاء العام دلاليًّا. وهنا نلاحظ وعي هابرماس –ولو كان متخفيًا- بأن اللغة هي تصورات عن العالم وليست مجرد حروف وأصوات، بل إن نقل الدلالة من اللاهوتي إلى العلماني الطبيعي ليس ترجمة وإنما انتقال تصوري ورؤيوي. وبذلك، يغدو الديانيون والعلمانيون على قدم واحدة في نقاش مفتوح بلا أي إملاء معياري عليه. يتضح، إذن، قلق وريبة هابرماس من عودة الديني، رغم اعترافه بأزمة الحداثة تجاهه. لكن هذا القلق تفسره لنا حداثوية هابرماس الجامحة، وأنه مفكر محافظ على الحداثة وتقاليدها ولا يريد أية زعزعة لها، اللهم إذا كان في سبيل إصلاحها.

هل تخلص هابرماس من التقليد الحداثي؟

وباستعراضه لأزمة المجتمع الحديث، ثم تقديمه للنموذج التواصلي في الفضاء العام، يكون هابرماس على طريق تدشين ما سماه «المجتمعات ما بعد العلمانية». فماذا تكون هذه المجتمعات ما بعد العلمانية، أو هل تخلص هابرماس من التقليد الحداثي؟

في الحقيقة، إن هابرماس يضع رؤيته للمجتمعات ما بعد العلمانية في ضوء الحداثة نفسها، كما بيَّنا عاليه، إلا أنه يبتكر صيغة جديدة لمجتمعات أكثر مرونة في التعاطي مع الديني، وذلك بعد أفول وهم الحداثة المبشر باختفاء الديني، بجوار انقراض التصور القائل بلاعقلانيّة الدين وعقلانيّة العلمانية.

إن المجتمعات ما بعد العلمانية هي المجتمعات القادرة على التخلص من الأزمة الحداثية بفتح المجال العام لكل الأفراد للدخول في نقاش يخص الجميع. لا يتوقف الأمر بمجرد فتح المجال العام، بله والاعتراف بالأفراد المتدينين كنسيج موجود في المجتمع ولا يمكن هدره. فالمجتمع ما بعد العلماني مجتمع متغير ودائم الحوار، وليس ذا صبغة أيديولوجية واحدة، بل من خلال التواصل تتجدد مضامينه القِيميّة.

المجتمع ما بعد العلماني هو مجتمع الحجة الأكثر صحة؛ أي مَن يقدم حجة أقوى على نقاش عمومي مُثار، فإنه يكون صاحب المزية المعيارية سياسيًّا. وبالتالي، فالفضاء العمومي فضاء حجج، ويأتي الجميع إليه حاملا حججه، مع الاتفاق الضمني والمسبق إلى أن هناك مسائل لا يمكن أن نتفق عليها جميعًا [16].

لكن علينا التأكيد على أمر هام: إن المجتمعات ما بعد العلمانية التي يدعو إليها هابرماس، ليست هي المجتمعات غير العلمانية، بل إن هابرماس يحافظ على التقليد العلماني، ولكنه يبتغي من المجتمعات ما بعد العلمانية القيام بفتح المجال العام وانسحاب الدولة لثكناتها التي تُعنى بحفظ الحقوق والحرية (الوهم الحداثوي الكبير كما سأوضح). إن المجال العام هو ملك للمجتمع وليس ملكًا للدولة، فالدياني والعلماني يجلسان في هذا المجال متناقشيْن دون أي تدخل من الدولة رمزيًّا أو سلطويًّا. وأيضًا، علينا التأكيد أن هابرماس يرى علمانية هذا المجال العام المسبقة، ولهذا اقترح الترجمة الدلالية للمضامين الدينية بداخله.

بيد أن هذا الموقف الهابرماسي من الدين، واقتراحه لتلسين المقدس، يمكن فهمه في ضوء تفريق هابرماس بين الدين والمعرفة، فالدين عند خروجه للمجال العام عليه أن يصير معرفة عقلانية وذلك من خلال المضامين والأدلة العقلانية التي يصدرها أتباعه، الديانيون. إلا أنه «بالرغم من كونه مفكرًا رئيسًا في حقل التمييز بين الدين/العقل المعرفي، فإنّه -بكل تأكيد- لا يشارك في الشك السياسي في الدين الذي غالبًا ما يلازم هذ الموقف»[17].


تعريج على «ما بعد العلماني»

ثمة افتنان لدى هابرماس بحيادية الدولة، حتى إنه في دعوته لعودة الدين للمجال العام يُطالب الدين بأن يتخلى عن سلطته لأجل حيادية سلطة الدولة.

لنعد مرة أخرى إلى صبا محمود في الاختلاف الديني لننظر في مصطلح «ما بعد العلماني». لكن دعونا نقول بدءًا إن هابرماس لم يخرج بذلك إلا في صعود ما سُمي بـ «عودة الدين»، وهو الذي كان يُظن اختفاؤه منذ مقدم الحداثة ومع سيرورتها. لكن هذا آتٍ من تصور حداثوي للحداثة باعتبارها متمايزة عن الدين، وكأن الدين اختفى وعاد فجأة. في حين أن الدين بقي، وكما وضحت في مطلع هذه الورقة، فإنه عُلمِن، وأن سيرورة الديني والعلماني ليست متمايزة في العصر الحديث، وإنما مترافقة [18].

إن هابرماس لم يخرج بمصطلح «ما بعد العلماني» إلا في صعود ما سُمي بـ «عودة الدين»، لكن هذا آتٍ من تصور حداثوي للحداثة باعتبارها متمايزة عن الدين.

إن تصور هابرماس، بحسب «محمود»، يرجعنا إلى قصص الحذف التي ذكرناها في مطلع الورقة عند تايلر، وبالتالي يتغافل عن الاعتماد البيني بين الدين والعلمانية في السيرورة الحديثة، وكأنّها سيرورة تمايز وانقسام. إن النبرة الزمنية لما بعد العلماني توحي بحس بالمفاجأة بعودة الدين، وكأنه اختفى، وما هو يجعل الشرط الحديث غامضًا بالنسبة إلينا في فهم طبيعة سيرورته وتطوره وفهم ما آل إليه.

وتنبهنا «محمود» إلى أن «هذا الفهم الهزيل للعلمانوية (باعتبارها اختفاء للدين) لا يَعتبر لقالبها وشكلها الدائمين، وللتدابير الاجتماعية والسياسية التي تولدها، وللالتزامات الأخلاقية/الإيتيقية التي تُطبعنها (normalizes). بهذا المعنى المهم، ليست العلمانوية مجرد تعبير آخر عن الحداثة؛ إنها إشارة على الظواهر، والمؤسسات، والممارسات الاجتماعية التي يكون بها الفارق بين العلماني والديني فارقًا ملحوظًا بصورة متكررة وغالبًا ما يكون محل نزاع»[19]، كما تقول في كتابها.

ناهيك عن ذلك، فإن حل هابرماس لقضية الدين بما أسميتُه «تلسين المقدس» يضعنا في إشكاليات عديدة. فهل توجد لغة طبيعية، مشتركة، عقلانية؟ أليس في هذا الحل الهابرماسي هو افتراض ضمني بلا عمومية الدين، وعدم امتلاكه -كلغة- لحيازة مضامين تصلح للعيش الحديث؟

وثمة مسألة تشير إليها جوديث بتلر بذكاء شديد، إنها مسألة تناول «الدين» باعتباره خارج «الحياة العامة»، وباعتبار أن الحياة العامة منفصلة عنه، فتقول: «عندما نبدأ بالسؤال عن ’الدين‘ في الحياة العامة، فإننا نجازف ببساطة بملء مقولة ’الدين‘ بمجموعة متنوعة من الأديان المحددة، بينما مجال ’الحياة العامّة‘ يبقى على نحو ما مستقرًّا، مغلقًا، وخارج الدين. إذا كان دخول الدين إلى الحياة العامة مشكلة؛ فذلك يعني أننا نفترض مسبقًا إطارًا ظل فيه الدين خارج الحياة العامة، ونحن نسأل عن الطريقة التي يدخل بها إليها وإن كان مقدرًا له أن يدخل إليها بطريقة مبررة ومضمونة. ولكن إذا كان هذا هو افتراض الجدال، فيبدو أن علينا السؤال أولًا كيف أصبح الدين خاصًَّا وهل نجحت المحاولة لجعل الدين خاصًّا على الإطلاق؟»[20].

وهنا، تُبدي بتلر نقدًا، ولو مضمرًا، لسردية العلمنة الحديثة عن ثنائية الخاص والعام، وعن العقلية المهووسة بالفصل التي لا تسائل هذه المسلمات.


[1] Charles Taylor, A Secular Age, 2007.

[2] انظر: تيموثي ميتشل، «دراستان حول التراث والحداثة»، دار شرقيات، الدراسة الثانية تحديدًا.

[3] كازانوفا، «الأديان العامّة في العالَم الحديث»، المنظمة العربية للترجمة، ص 25.[4] انظر: عزمي بشارة، «الدين والعلمانيّة في سياق تاريخيّ»، الجزء الأول من الجزء الثاني، ص ١٧٩، المركز العربيّ للأبحاث والدراسات.[5] – لاطّلاع كافٍ على أطروحة تشارلز تايلر، انظر ترجمتنا لهذه الدراسة المهمّة عنه وعن طلال أسد المنشورة على موقع مركز نماء للأبحاث والدراسات.

[6] Talal Asad, Formations of the secular, p 5.

[7] تصدر ترجمتنا له عمّا قريب عن مركز نماء للأبحاث والدراسات.[8] انظر: طلال أسد، «جينالوجيا الدين»، ترجمة محمد عصفور، دار المدار الإسلاميّ.[9] يمكننا القول إنّ هابرماس هو الفيلسوف الذي قدّم حجاجًا قويًّا لاستمراريّة الحداثة أمام دعوات تجاوزها أو نقضها أو إهدار مكاسبها. ولم يكن نقاش هابرماس فقط ضدّ ما يسمّى «ما بعد الحداثة»، وإنّما ضدّ كلّ نزعات الخروج على الحداثة بدايةً من السورياليّة ونزعات الرومانتيكيّة ضد الحداثة. فما يقدّمه هابرماس هو جدل نظري وفلسفي عميق، وليس مجرّد مماحكات مفتونة بالحداثة. في هذا الصّدد لا بدّ من الرّجوع لنصّه الهام: «الحداثة مشروع لم يكتمل»، ترجمة الفيلسوف التونسي: فتحي المسكيني، مجلّة تبيُّن، العدد الأول، 2012م.[10] «قوة الدين في المجال العام»، حوار بين هابرماس وتايلور وجوديث بتلر وكورونيل ويست، ترجمة: فالح رحيم، دار التنوير، 2014، ص 46.[11] المصدر نفسه، والصفحة ذاتها.[12] «جدلية العلمنة والدين»، حوار بين هابرماس والبابا بندكتس، ترجمة: حميد لشهب، دار جداول 2013م.[13] لا بد من الرجوع هاهنا إلى حنا أرندت بخصوص الدولة الحديثة و«اللاجئين»، حيث ترى أن الدولة القومية الحديثة، لأسباب بنيوية، تنتج أعدادًا كبيرة من اللاجئين ويجب أن تنتجهم من أجل إدامة تجانس الأمة التي تريد تمثيلها. بكلماتٍ أخرى، من أجل دعم النزعة القومية للدولة القومية. را: نقل جوديث بتلر في مداخلتها الممتازة بالكتاب المذكور آنفًا عن أرندت في كتابها: «أسس التوتاليتارية»، ص 125.[14] جدلية العلمنة، مصدر سابق، ص 60.[15] نستعير هذا المفهوم الجميل من معجم الفيلسوف طه عبد الرحمن، الذي وضعه في مقابل العلماني. را: «روح الدين؛ من ضيق العلمانية إلى سَعة الائتمانية»، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية.[16] بول ريكور، «الانتقاد والاعتقاد»، دار توبقال.[17] هذه العبارة لتشارلز تايلر في: «قوة الدين»…، مصدر سابق.[18] انظر ترجمتنا لدراسة كازانوفا «إعادة التفكير في العلمنة»، فهي تناقش هذه المسألة بعمق، وهي منشورة على مركز نماء للأبحاث والدراسات.

[19] Saba Mahmood, Religious Difference in a Secular Age: A Minority Report, P 23. (الترجمة لي)

[20] جوديث بتلر، «هل اليهودية هي الصهيونية؟ أو، أرندت ونقد الدولة القومية»، في «تفكيك الصهيونية»، ص ٥٧-٥٨، ترجمة عدنان حسن، منتدى العلاقات العربية والدولية.