كان إنشاء الخط الحديدي الحجازي إحدى أمنياتي منذ زمن بعيد، وقد بدأت هذه الأمنية بالتحقق

كلمات قالها السلطان عبد الحميد الثاني في مذكراته السياسية بعد ست سنوات من البدء في المشروع، لكن في ذلك التاريخ (الأول من سبتمبر/أيلول 1906) كان القطار قد بدأ فعليًا في نقل الركاب وشحن البضائع، عندما وصل إلى محطة (معان) انطلاقًا من (دمشق) ومرورًا بـ (عمّان)، ثم واصل المشروع تقدمه في السنوات التالية إلى محطات مدائن صالح والمدينة المنورة.

لم يكن عبد الحميد من سلاطين ذوي الأحلام الشخصية أو المظهرية، فقد كان رجلاً عمليًا، يحمل أعباء دولة وأمة، وتركة ثقيلة آلت إليه، وقد رافق عمه عبد العزيز في رحلتيه إلى مصر وإلى أوروبا في شبابه، واطلع على المنشآت المظهرية التي أقامها الخديو إسماعيل فأغرقت مصر في الديون، وأعجبته بعض دول أوروبا في تقدمها العلمي والاقتصادي والعسكري.

السلطان عبد الحميد الثاني
السلطان عبد الحميد الثاني

بالإضافة إلى أعماله التجارية قبل توليه السلطنة، والتي أكسبته ثروة هائلة كان يقرض منها الكثير لبقية الأمراء المسرفين من الأسرة العثمانية، كل ذلك جعل لديه وعيًا بأهمية المشروعات العملاقة التي تنفع الأمة في عدة مجالات، فكان مشروع سكة حديد الحجاز هو (عمود الخيمة) في إستراتيجية (الجامعة الإسلامية).

ففي مثل هذا الشهر (مايو/آيار) منذ 117 سنة أعطي السلطان عبد الحميد أوامره بالبدء في إنجاز مشروع خط سكة حديد الحجاز، وتحديدًا في 2 مايو/آيار 1900م . وبعد سنوات من العمل الشاق، ومجابهة المعوقات الداخلية والخارجية، البشرية والفنية والطبيعية والمالية وصل الخط إلى المدينة المنورة، واحتفل بتشغيله عند انتهاء مرحلته الأولى في 1 سبتمبر / أيلول 1908م. فازدادت أعداد الحجاج والزوار القادمين إلى المدينتين المقدستين بالحجاز إلى 300 ألف حاج، بعد أن كانت لا تتجاوز 80 ألفًا قبل إنشاء الخط الحديدي؛ فقد اختصر هذا الخط المدة الزمنية اللازمة لطريق الحج من ثلاثة أشهر لتصبح ثلاثة أيام تقريبًا.


حلم قديم متجدد

لم تكن فكرة إنشاء خط حديدي يربط مركز الدولة بأطرافها – لاسيما الحجاز- فكرة وليدة عهد السلطان عبد الحميد، لكنها كانت فكرة سابقة؛ إذ تعددت آراء المؤرخين في أسبقيتها وفيمن قدمها، وفق الأخبار المتعددة الواردة حولها، وربما يكون أقدم من تقدم بمخطط للمشروع هو المهندس الأمريكي الدكتور زيمبل للربط بين العاصمة إستانبول وبين المدينة المنورة، وكان ذلك في سنة 1864م، لكنه كان عرضًا استثماريًا من جانب ذلك المهندس الأمريكي، وبالتالي لم تتمكن الدولة من قبوله بسبب تكلفته الباهظة، ثم تعددت بعد ذلك خطط المشروعات المماثلة، ففي عام 1880م -كما يذكر محمد كرد علي في خطط الشام- تقدم وزير الأشغال العثماني بالمشروع، وقد كانت الأحوال المالية أيضًا عائقًا دون التنفيذ.

وقد دخل المشروع بالفعل ضمن خطة الدولة العثمانية، لكن تنفيذه كان في انتظار توفير مصادر مالية له -وفق رأي المؤرخ التركي الدكتور مكين هولاكو- وكان على السلطان عبد الحميد أن ينتظر عشرين سنة؛ حتى يتقدم إليه مرة أخرى عزت عابد باشا بخطة تفصيلية للمشروع أقل كثيرًا في التكلفة مما قُدم سابقًا، كما أرفق بخطته شرحًا بالفوائد الجمة التي ستعود على الدولة من النواحي الأمنية والسياسية والدينية والخدمية والاقتصادية وغيرها.

نفق السكة الحديد عند داريا بالقرب من دمشق
نفق السكة الحديد عند داريا بالقرب من دمشق

وبمجرد أن تغلب السلطان على مشكلة الديون العثمانية بضبط موارد ومصارف الدولة وتقليص نفقات القصر، وتمكن بذلك من سداد 90% من هذه الديون البالغة 300 مليون ليرة عثمانية، استطاع حينها العودة إلى حلمه القديم، وتنفيذ المشروع الذي عده بعض المؤرخين أكبر مشروع استثماري في الدولة العثمانية؛ بل وصفوا عهد السلطان عبد الحميد بأنه عهد إنشاء السكك الحديدية وتشغيلها.


نكون أو لا نكون.. التحدي الحضاري

لقد أثبت الخط الحديدي الحجازي أن بلادنا لم تفقد قابليتها للتطور، وأنه يمكننا إحباط محاولات إنكلترا المتكررة في عرقلة أي عمل نقوم به لخدمة بلدنا وأمتنا، سيتم إن شاء الله مد هذا الخط.

تلك بعض كلمات السلطان في مذكراته. ورغم المعوقات التي واجهت المشروع هذه المرة أيضًا، وكانت كفيلة بوأده في مهده كما حدث سابقًا؛ فإن التحدي هذه المرة كان تحديًا أعمق وأكبر بكثير، كان تحديًا لأمة ودولة.

كانت المشروعات السابقة للسكك الحديدية قد أوكلتها الدولة العثمانية إلى دول أخرى ومستثمرين أجانب في أغلب الأحيان، لكن الديون وفوائدها التي أوشكت الدولة على التخلص منها كانت تهدد بالظهور من جديد لإدخال الدولة في دوامتها لتحرمها من ثمرة ذلك المشروع، كما أنه مشروع له حساسيته الخاصة؛ إذ أحد أهدافه الكبرى هو تيسير نقل الحجاج، وتمتد خطوطه عبر المدينتين المقدستين في الحجاز؛ بالإضافة إلى كونه الركيزة الأساسية للمشروع النهضوي الحميدي المعروف بـ (الجامعة الإسلامية).

وبالفعل نجح المشروع عبر دعايته ودعوته لمسلمي العالم كله -بجميع مذاهبهم ودولهم وقدراتهم المالية– للتبرع للمشروع ومساندته، واعتباره مشروعًا إسلاميًا وحدويًا، يبرز مدى أهمية الدين وشعائره في توحيد مشاعرهم، ومدى سلطة ونفوذ سلاح (الخلافة الإسلامية) في إيقاظ هذه الروح التي تمثل دافع النهضة وحافزها.

وهو ما أدرك المؤرخون الغربيون المعاصرون خطره، ومنهم البريطاني «أرنولد توينبي» أحد ألد أعداء التاريخ العثماني، فيقول: «إن السلطان عبد الحميد كان يهدف من سياسته الإسلامية إلى تجميع مسلمي العالم تحت راية واحدة، وهذا لا يعني إلا هجمة مضادة يقوم بها المسلمون ضد العالم الغربي التي استهدفت عالم المسلمين».

إرداة سلطانية بمنح امتياز سكة حديد الحجاز إلى المهندس يوسف إلياس أفندي
إرادة سلطانية بمنح امتياز سكة حديد الحجاز المهندس يوسف إلياس أفندي

افتتح السلطان قائمة المتبرعين بمبلغ خمسين ألف ذهب عثماني من ماله الخاص، مع مائة ألف ذهب عثماني من صندوق المنافع، كما تم طباعة أوراق تذكارية من طوابع وشهادات تكريم، وميداليات للمتبرعين، كما اقتطعت من مرتبات موظفي الدولة العثمانية بضع ليرات كمساهمة في المشروع، والمدهش أننا لم نجد شكوى واحدة من أحدهم لهذا التبرع الإجباري، لكن الأكثر دهشة أن التبرعات جاءت من مناطق ودول وقارات بعيدة يغلب عليها الفقر، وتتباين في توجهها الأيديولوجي، وبعضها واقع تحت استعمار معادٍ للدولة العثمانية، وغير ذلك، فقد جاءت التبرعات من إيران والسودان والهند والجزائر ومصر، وجاءت من الوزراء وكبار رجال الدولة والولاة، وفي مصر تشكلت لجنة للدعاية للمشروع برئاسة أحمد باشا المنشاوي، وساهمت بعض الصحف المصرية في الدعاية للمشروع بحماس شديد مثل جريدة المؤيد وجريدة اللواء؛ حتى المعارضون لحكم السلطان عبد الحميد أيدوا المشروع، وشاركوا في حملة الدعاية له، ونجد المصلح الشهير الشيخ محمد رشيد رضا صاحب اقتراح فرض ضريبة سنوية على كل مسلم في الدولة العثمانية كإعانة للمشروع، وقد تباحث في هذا المقترح مع مختار باشا، لكن السلطان بدأ بالتبرع التطوعي، ثم لاحقًا فرض ضريبة بالفعل تبدأ من خمسة قروش سنويًا.

وتحفيزًا للجنود العاملين في المنطقة والمشاركين في أعمال المشروع، كانوا يُمنحون راتبًا شهريًا، ويُصرفون من الخدمة قبل سنة من موعد نهاية فترة تجنيدهم.

وعلى صفحات مجلة المنار أيضًا نجد مقترحًا آخر لـ (رفيق بك العظم) بمد هذا الخط الحديدي إلى اليمن، وعمل شبكة خطوط للسكك الحديدية داخل هذا القطر النائي، ويسوق في ذلك أسبابًا سياسية وأمنية واقتصادية، يقول: «إصلاح مرفأ الحديدة ، وجعله مرسى أمينًا للسفن، ومد خط حديدي من الحديدة إلى صنعاء، ثم تعميم السكة الحديدية في البلاد بالتدريج بقدر ما يمكن مالية الحكومة، لأن سهولة المواصلات ضروري لبلاد متباعدة الأرجاء يراد إصلاحها وتكثير موارد الثروة الزراعية والتجارية فيها، ولاسيما وأن بلاد اليمن فيها كثير من المعادن والكنوز الأرضية التي لا يتيسر استخراجها والعمل فيها إلا بسهولة المواصلات»، وثمة مقترحات أخرى له ولغيره بتعميم السكك الحديدية في الجزيرة العربية كلها.

مقترح بمد خط قطار الحجاز إلى اليمن
مقترح بمد خط قطار الحجاز إلى اليمن

وقد لقيت المقترحات بهذا الشأن اهتمام السلطان، وهو ما نجده حتى في وثائق الأرشيف البريطاني؛ ففي تقرير سري بريطاني مقدم من قنصل مارسين إلى سير أوكونور سفير بريطانيا في الآستانة نجد معلومات حول مقترح لمد مشروع الخط الحديدي الحجازي إلى اليمن.

وثمة وثيقة عثمانية أخرى تفيد بالبدء في الإجراءات التنفيذية بعد موافقة السلطان، ومجلس «المبعوثان». ومن خلال تقرير الخبير العالمي في بناء الخطوط الحديدية المهندس الألماني أوتوفرن كولشتاين، نجد معلومات حول الدراسات التمهيدية لعمل خط فرعي بين جدة ومكة.


المشروع بلغة الأرقام

لم ينتظر المسئولون أن ينتهي العمل تمامًا من إنشاء الخط ليبدءوا في تشغيله؛ بل كانت المحطة أو المرحلة التي ينتهي إنشاؤها يبدأ مباشرة استخدامها في نقل الركاب والبضائع، وقد أسهم ذلك في زيادة استثمارات المشروع ماديًا ومعنويًا.

ورغم تكاليفه الضخمة التي بلغت في الفترة من 1900 – 1908 نحو (3,919,696) ثلاثة ملايين وتسعمائة وتسعة عشر ألفًا، وستمائة وستة وتسعين ليرة عثمانية، وقد بلغت أطوال الخطوط نحو (1464) ألف وأربعمائة أربعة وستين كيلومترا، ثم زادت أطوال الخطوط الحديدية بعد إنشاء خطوط فرعية امتدت بين بيروت ودمشق، وحمص، وحيفا، والقدس؛ بالإضافة إلى خطوط رياق وحلب، وبذلك تم الربط بين العاصمة إستانبول وبين الحجاز، وبين ولايات الدولة العثمانية في منطقة الشام (وهي حاليًا سوريا والأردن ولبنان وفلسطين)، ووصل طول الخطوط إلى (5792) خمسة آلاف وسبعمائة واثنين وتسعين كيلومترا، وبالتالي زادت التكاليف إلى (4,558,000) أربعة ملايين وخمسمائة وثمانية وخمسون ألف ليرة عثمانية.

حفل افتتاح قطار الحجاز العثماني
حفل افتتاح قطار الحجاز العثماني

وبالطبع لم يتوقف الأمر عند ذلك، فبعد خلع السلطان عبد الحميد، وتولي جماعة الاتحاد والترقي لمقاليد الحكم في البلاد، استمر العمل في المشروع، ولكن بحماسة أقل ومعدلات أبطأ، ثم جاءت الحرب العالمية الأولى لتزداد أهمية المشروع في نقل الجنود والمعدات العسكرية وربط الأجزاء البعيدة بالعاصمة، ومواجهة الأطماع البريطانية المتزايدة، لكن زادت أيضًا المعوقات والتكاليف؛ لاسيما بعد خديعة لورانس وخيانة الشريف حسين، ومؤامرة اتفاقية سايكس/ بيكو، والتلاعب بورقة القومية، ومداعبة حلم الاستقلال، فقامت الثورة العربية في بعض أنحاء الجزيرة العربية، وكان التركيز مكثفًا ضد مشروع سكة حديد الحجاز؛ ليتم تخريب الكثير من خطوطه ومنشآته، ويتوقف حتى الآن؛ رغم أن بعض أجزائه ظلت تعمل بعناية الدول التي أعلنت انتدابها على أنحاء الشام بعد معاهدة سيفر في أغسطس/آب 1920.

ثم تجددت محاولات تجديد الخط واستغلاله في عام 1960، ثم في عام 2001، وأخيرا في 2012 عندما أعلن حاكم عربي تبرعه مبلغ مليار دولار لإعادة إحياء المشروع. لكن لم تزل الأجواء السياسية والعقبات الفنية تحول دون إحياء المشروع واستثماراته.

وبالعودة إلى الحديث عن الاستثمارات وأرقام التكلفة والأرباح، ننقل من الوثائق الأرقام التالية:

* بلغت موارد الخط قبل الحرب العالمية الأولى بعد تنزيل كل النفقات مبلغ (32,768) ليرة عثمانية ذهبية؛ أي أنه حقق فائضًا في ميزانيته وأرباحًا، مع الوضع في الاعتبار أنه تم تشغيله اقتصاديًا لمدة ست سنوات فقط قبل الحرب.

* بل كانت موارده في زيادة مستمرة منذ بداية تشغيله؛ حيث بلغت الإيرادات سنة 1908 مبلغ (174,512 ) ليرة عثمانية، وبلغت سنة 1909 (188,692) ليرة عثمانية، ثم قفزت في سنة 1910 إلى ( 260,890 ) ليرة عثمانية.

* أما بالنسبة لنقل البضائع فقد تم نقل ( 91,626,316 ) طنا من المواد الغذائية على الخط في سنة 1909، لترتفع بعدها الكميات المنقولة في العام التالي 1910 إلى ( 112,007,112 ) طنا من المواد الصناعية والغذائية.

خط سكة حديد الحجاز الذي أنشئ على امتداد نهرى بردى دمشق
خط سكة حديد الحجاز الذي أنشئ على امتداد نهرى بردى دمشق

وليس أدل على مدى أهمية الخط في نقل البضائع مما كتبه الشيخ محمد عارف الدمشقي إمام الشافعية في الشام، في رسالته المسماة (السعادة النامية الأبدية في السكة الحجازية الحديدية) التي كتبها دفاعًا عن المشروع، ومبينًا فوائده، ضد اعتراضات كثير من المعترضين على إقامته، ومنهم الصدر الأعظم سعيد باشا، يقول السيد محمد عارف: «أراضي الحجاز من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة كلها قابلة لزراعة الحبوب والبقول والبطيخ والقثاء والخيار وما أشبهها، ولغرس الأشجار المختلفة الأثمار؛ كالعنب والنخيل والرمان والتين والجوز والموز والسفرجل والليمون والأترج بجميع أنواعه وما أشبهها، وأنه لا يؤخذ لمكة منها إلا من وادي فاطمة ووادي الليمون، والباقي يبقى في أرضه وأنه يفسد بطول مدة النقل، وأما التمر وما ماثله مما لا يفسد بالنقل في الأرض القريبة منها لا من البعيد، ومع هذا فإن أثمانها لا تفي بمصارفها، ولذا اقتصروا منها على غرس ما يكفيهم، والمياه الموجودة عندهم لا ينتفعون بها الآن حق الانتفاع، فإذا مُد الخط الحديدي من أرضهم أو في جوارهم؛ يسهل عليهم النقل، فلا تفسد المحصولات، وبالضرورة تكون الأجرة أرخص من أجرة النقل على الجمال، فيربحون ويزيدون حينئذ من الزرع والغرس والتجارة، وكذا في جوار المدينة».

* بينما الازدهار الاقتصادي والعمراني والسكاني الذي لحق بمدن وموانئ المدينة المنورة ودمشق وحيفا وغيرها فقد كان نقلة نوعية بمعنى الكلمة.

* بالإضافة إلى أن الخط فتح الباب أمام إدارته للتنقيب عن الثروة المعدنية، وسرعان ما تعاقدت في مطلع سنة 1908 مع الجيولوجيين الألمان للقيام بالمهمة؛ إذ كانت مطامع ألمانيا تنحصر في النواحي الاقتصادية، بعكس فرنسا وبريطانيا وغيرهما.

القطار العثماني في محطة حيفا

وجدير بالذكر أن الثروات المعدنية حتى في جنوب الجزيرة العربية كانت قد لقيت اهتمامًا بالغًا من الإدارة العثمانية، وثمة تقرير خاص وسري في مكتبة السلطان عبد الحميد كتبه الطبيب العثماني (إسماعيل بن إبراهيم) مُدير المحجر الصحّي في اليمن حول هذه المسألة، يبين مدى اهتمام السّلطان بكل جزء في دولته، ويبين كذلك عقليته الاقتصادية وتفكيره المستقبلي المميز وهو تقرير كبير يقع في 157 صفحة، ويحمل عنوان: «يمن ولايت جليلة سنك أحوال فنيه سي».

وأما النواحي الفنية والمعمارية التي صاحبت إنشاء الخط الحديدي، وكانت ضمن المشروع، فهي مئات المنشآت من الجسور والأنفاق والمباني على امتداد مسار الخط ومراكز لصيانة المقطورات، منها (2666) جسرا حجريا، وجسور للمشاة، وسبعة جسور حديدية، وتسعة أنفاق، و(96) محطة، وسبعة أحواض، و(37) صهريج مياه، ومستشفى في كل من تبوك ومعان، وورشة في مدن: حيفا، درعا، معان، ثم مسبك وورشة أنابيب في حيفا، بالإضافة إلى المخازن على طول الخط.

والجدير بالذكر أنه تم مد خطوط تلغراف بجوار الخط، وأنشأت كذلك مكاتب بريد على امتداد محطاته، وبلغ عدد العمال غير المهرة حوالي ( 7500 ) عامل في عام 1907، غير المهندسين من الأجانب والعثمانيين، والمثير أن هؤلاء اكتسبوا من الخبرة والمهارة ما جعلهم ينفردن مع الفنيين المصريين والعراقيين بإتمام المهمة من محطة الأخضر وحتى المدينة المنورة دون اشتراك أي أجنبي لحرمة دخولهم إلى البقاع المقدسة، والأكثر إثارة في ذلك أن معدلات الإنشاء في هذه المرحلة الأخيرة التي انفرد بها المسلمون في العمل كانت أسرع كثيرًا، وأوفر إنتاجًا وتنفيذًا، كما كان المشروع كله أقل تكلفة مالية من كل العروض السابقة.

وقد خصصت إحدى عربات القطار في الخط الحجازي للعبادة والصلاة أثناء سير القطار، كما تم تعيين إمام ليؤم المصلين فيه، وقيل إن حركة القطار وتوقفاته كانت منظمة حسب أوقات الصلوات الخمس.


طريق الحرير العربي!

القطار العثماني في محطة حيفا
القطار العثماني في محطة حيفا

تقوم طرق المواصلات ووسائل الاتصالات في الدولة بنفس الدور الذي تقوم به الشرايين والأوردة والخلايا العصبية في جسم الإنسان، وإذا أدرك الحكام هذه الحقيقة وعملوا بمقتضاها؛ فسرعان ما يجدون آثارها على النمو العمراني والاقتصادي والاجتماعي، وإيجابية تأثيرها على النواحي السياسية والعسكرية والوطنية، وغيرها من الفوائد الجمة التي تتنامى وتتضح مع مرور الوقت ودوران عجلة هذه المواصلات.

ذلك ما أدركه السلطان العثماني العبقري عبد الحميد الثاني ( 1876 – 1909م) في فترة باكرة من تاريخ تطور طرق المواصلات في العالم؛ ليصبح مشروعه العملاق (سكة حديد الحجاز ) واحدًا من رواد هذه المشروعات.

ولعل دليلنا المعاصر على ذلك هو محطة لندن التي استقبلت منذ أسابيع قليلة الرحلة الأولى لقطار طريق الحرير؛ ذلك الطريق التاريخي المنطلق من الصين إلى قلب أوروبا مارًا بالعديد من الدول والحضارات؛ حاملا معه بضائع وثقافات؛ لذا فقد قامت عدة محاولات لإعادة إحياء هذا الطريق؛ بل إكماله إلى أقصى مدن القارة العجوز؛ حتى شواطئ المحيط.

ولعل إحياء هذا الطريق يثير مخاوفنا لاسيما في مصر؛ إذ يذكرنا باكتشاف البرتغاليين لطريق رأس الرجاء الصالح الذي يدور حول القارة السمراء في طريقه من الهند وإليها؛ متجنبًا الطريق التقليدي عبر البحر الأحمر ومصر ومماليكها، فينهار الاقتصادي المملوكي، وينهار معه اقتصاد إمارة جنوة (جنوب إيطاليا) المعتمد على الضرائب وتجار الترانزيت والخدمات التي يقدمها لرواد الطريق القديم وتجارة التوابل، وهو يشبه الدور الذي تقوم به الآن قناة السويس في مصر، وليس لنا إلا مواجهة هذا الواقع الكارثي، وإيجاد البدائل؛ بدلاً من إيجاد مبررات وتفسيرات متعسفة بأننا لن نتأثر ، وليست الليلة كالبارحة.

المراجع
  1. وثائق الأرشيف العثماني .
  2. متين هولاكو : الخط الحديدي الحجازي .. المشروع العملاق للسلطان عبد الحميد الثاني، ترجمة : محمد صواش ، دار النيل ، 2011م.
  3. محمد حرب : السلطان عبد الحميد الثاني .. آخر السلاطين العثمانيين الكبار، دار القلم ، دمشق ، 1996م .
  4. السيد محمد الدقن : سكة حديد الحجاز الحميدية ، دراسة وثائقية ، 1985م.
  5. عبد الحميد الثاني : مذكراتي السياسية، 1891 – 1908م، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1406هـ .
  6. محمد رشيد رضا : مجلة المنار .
  7. Robin Bidwell, The affairs of Arabia 1905 – 1906, 2 Vol, 7 parts, A foreign office confidential print, London, 1971.