وأخذوا في الرمّاحة والبندقة المتواصلة المتتابعة مثل الرعود على طريقة الإفرنج، وذلك من قُبيل الفجر إلى الضحوة، ولما انقضى ذلك رجعوا داخلين إلى المدينة في كَبكة عظيمة حتى زحموا الطُّرق بخيولهم مِن كل ناحية، وداسوا أشخاصًا مِن الناس بخيولهم بل وحميرا أيضًا، وأُشيع أن الباشا قصده إحصاء العسكر وترتيبهم على النظام الجديد، وأوضاع الإفرنج، ويلبّسهم الملابس المقمّطة ويُغيِّر شكلهم.

الجبرتي متحدثًا عن محاولة محمد علي الأولى في 1815م لتكوين الجيش الحديث.


لم يعرف المصريون التجنيد

لم يعرف المصريون نظام التجنيد الإجباري في طوال تاريخهم منذ الفتح الإسلامي لمصر حتى القرن التاسع عشر الميلادي، فقد كان المتعارف عليه في نظام الجندية في الفترة الإسلامية المبكرة التطوع وقت الحروب ثم العودة إلى الديار في وقت السلم، أو ما كان يُطلق عليه في بعض الأوقات نظام الصوائف والشواتي بخروج حملات عسكرية في فصلي الصيف والشتاء، وفي فترة لاحقة اعتمد العباسيون على شراء الفتيان الأتراك وتربيتهم في مساكن عسكرية مستقلة ليكونوا نواة لجيش مستقل بعيد عن نزاعات العرب والفرس كما فعل المعتصم العباسي حين بنى مدينة «سر من رأى» (سامراء) لتكون مدينة عسكرية وعاصمة له.

ثم استفاد من الفكرة كل من استقل عن العباسيين ومنهم أحمد بن طولون في مصر، ثم كان الجيش الفاطمي الذي حل على أنقاض دولة الاخشيدين أخلاطًا من القبائل المغربية «البربر»، ثم جاء الأيوبيون وكان جل جيشهم من العنصر الكردي، ثم تفتق ذهن الصالح أيوب على الاعتماد على الأتراك الذين كانوا يسكنون وسط آسيا، وجلبهم، وتربيتهم تربية عسكرية صارمة بجوار العنصر الكردي في الجيش فكانوا النواة الأولى لجيش المماليك فيما بعد، والذي استمر لمدة قرنين ونصف، ومن بعدهم جاء العثمانيون بجيوشهم المكونة من العناصر الرومية والتركية وعلى رأسهم فرقة الانكشارية، وتمكن المماليك في مصر من إعادة لملمة قواهم في ظل الدولة العثمانية، وظلوا العنصر العسكري الأقوى في عصر العثمانيين في مصر، حتى لاقوا هزيمة منكرة أمام جيش نابليون في معركة الأهرام في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، لكن لم يكن ليُقضى عليهم بصورة نهائية.

وهكذا عاشت مصر اثني عشر قرنًا لا تعرف نظام تجنيد أبنائها تجنيدًا إجباريًا، بل على العكس، فقد كان المصريون ممنوعين قانونًا في العهد العثماني من حمل السلاح [1]، وحين انجلى الفرنسيون عن مصر في 1801م، واتفق كبارها على تأييد محمد علي وارتقائه للسلطة في 1805م، كان غرضه الاستفادة من تجارب الفرنسيين والأوروبيين في نظام العسكرية الجديد، وكان محمد علي شديد الإجلال والإكبار لنابليون وتجربته العسكرية، حتى اعتاد متملقوه في حياته على «إقناعه بأنه نابليون ثان»، كما أمر فيما بعد بترجمة سيرة نابليون إلى التركية وطبعها في مطابع بولاق الأميرية [2].

على أن محمد علي رأى ضرورة مواجهة الخطر الأساسي على حكمه وعرشه، بالقضاء على العنصر العسكري الأقوى في البلاد لمدة خمسة قرون متوالية وهم المماليك، والذين لن يقبلوا به سيدًا كامل السيادة عليهم كما دأبوا مع الولاة العثمانيين سابقًا؛ لذا عزم على استئصال شأفتهم، ونجح في ذلك بالفعل في مذبحة القلعة الشهيرة سنة 1811م.


الباشا يبحثُ عن بديل

ولقد راح يبحث عن بديل عسكري يعتمد عليه في بناء جيشه، ولم يجد إلا القوة الألبانية «الأرناؤوط» التي جاءت مع الحملة العثمانية الداعمة لثورة مصر في مواجهة الفرنسيين وكان منهم. لقد علم محمد علي الصعوبة التي سيواجهها بُغية إخضاع الألبان لنظام الجندية الجديد، وفي عام 1815م أمرهم بالالتزام بالقوانين والضوابط والتدريبات العسكرية الجديدة، لكن الألبان كانوا مرتزقة، كثيري الشغب والتقلب والنهب، خضعوا بادئ الأمر إلى التدريب «في الرمّاحة والبندقة المتواصلة المتتابعة مثل الرعود على طريقة الإفرنج»[3]، لكنهم لم يتقبلوا ذلك، وقرروا فيما بينهم خلعه وقتله، غير أن أخبار المؤامرة جاءته من أحد أتباعه، فهرب من قصره في الأزبكية إلى القلعة وتحصّن بها، الأمر الذي جعل الألبان يعيثون فسادًا في أسواق وحوانيت أهل القاهرة [4].

أيقن الباشا صعوبة الاعتماد على الألبان، وقرر أن يتخلص منهم بإشراكهم في حربه ضد السعوديين والوهابيين في الجزيرة العربية وبإرسالهم في حملاته إلى السودان.

أيقن الباشا صعوبة الاعتماد على الألبان، وقرر أن يتخلص منهم بإشراكهم في حربه ضد السعوديين والوهابيين في الجزيرة العربية وبإرسالهم في حملاته إلى السودان، ونجح في ذلك فعلا، ثم قرر أن يستعين بالسودان لسهولة تقبلهم للأوامر، وفي صيف 1820م أرسل الباشا حملتين إلى السودان، إحداهما بقيادة ابنه إسماعيل باشا والأخرى بقيادة زوج ابنته محمد بك الدفتردار، وكان لهذه الحملات أهدافها السياسية والاقتصادية، أما هدفها العسكري فكان اصطياد أكبر عدد ممكن من سكانه وإرسالهم إلى مصر لتتكون منهم هيئة الجند في الجيش الجديد الذي كان الباشا يُزمع إقامته [5].

أصابت حملة السودان بعض الصعوبات الشديدة التي نتجت أصلاً عن سوء قيادة ولده إسماعيل باشا، حتى لاقي في نهاية المطاف حتفه على يد ملك شندي في السودان، أما العبيد السودان الذين وصلوا إلى مصر في العام التالي 1821م فقد مات العشرات منهم، نظرًا لقسوة الطريق وصعوبته، بل الأخطر من ذلك أن الجنود الأتراك والألبان الموالين لمحمد علي كانوا قد أصيبوا ببعض الأمراض في السودان، وسئموا من المكوث بها لحرارة جوها.


18 فبراير/شباط 1822 تاريخ لا يُنسى

لذا؛ ففي 18 فبراير 1822م أرسل الباشا إلى واليه على مديرية جرجا أحمد باشا طاهر خطابًا جاء فيه:

من الواضح أننا نُرسل قواتنا بقيادة أبنائنا إلى السودان ليجلبوا لنا السود لنستخدمهم في حملة الحجاز وخدمات أخرى مماثلة … إلا أنه لما كان الأتراك من جنسنا ويجب أن يظلوا قريبين منا طول الوقت، ولا يُرسلوا إلى هذه المناطق البعيدة، أصبح من الضروري جمع عدد من الجنود من الصعيد، ولذلك وجدنا أنه من المناسب أن تجنّد حوالي أربعة آلاف رجل من هذه المديريات[6].

كانت تلك الجموع اليائسة تُجمع وتُوضع في أيديهم الأغلال يتبعهم أقاربهم من النساء والأطفال إلى مكان الفرز، وهكذا لم يكن التجنيد يسير على نظام معين أو ترتيب للأسماء، بل إن القوة الغاشمة هي وحدها التي تلقى بالجنود في أحضان الجيش.

كان الباشا قد استعان بجهود ضابط من ضباط الدولة النابليونية الفرنسية جاء إلى مصر مقدمًا خدماته إلى الوالي؛ ذلك هو الجنرال سيف الذي سيصبح فيما بعد سُليمان باشا الفرنساوي، فقد عهد إليه محمد علي في 1820م أن يكوّن النواة الأولى للجيش الحديث، وخصص له مدرسة لذلك الغرض في أسوان تكون بعيدة عن القاهر ليتلافى ما أحدثه الألبان من دسائس ومؤامرات، وأرسل محمد علي خمسمائة من قواته الأتراك ليكونوا من أوائل المتخرجين من هذه المدرسة، وقد لاقى سيف صعوبات شديدة في تعليم هؤلاء على نظام الجندية الأوربية الحديثة حتى كاد أن يُقتل من بعض هؤلاء الجنود [7].

لقد استخدم محمد علي طرقًا بربرية ووحشية في جمع المجندين المصريين، فكان يكلف مدير كل مديرية بجمع العدد المطلوب، وهذا بدوره يوزّع العدد على القرى الكائنة في اختصاصه فيقوم العُمد والمشايخ بمعاونة الجنود بالانقضاض على القرى فجأة، فلا يلبث أهلوها فجأة أن يروا أبناء تلك القرى وقد سيقوا – وهم مصفّدون بالأغلال كالمجرمين – إلى عاصمة المديرية دون تمييز بين العجائز أو الأصحاء أو المرضى أو ذوي العاهات أو الصبية، وكانت تلك الجموع اليائسة تجمع وتُوضع في أيديهم الأغلال يتبعهم أقاربهم من النساء والأطفال إلى مكان الفرز، وهكذا لم يكن التجنيد يسير على نظام معين أو ترتيب للأسماء، بل إن القوة الغاشمة هي وحدها التي تلقى بالجنود في أحضان الجيش، وهي في وضع من أشد ما عُرف عسفًا ووحشية، وفي بعض الأحيان كانوا يقبضون على المارّة أو الزوّار لإدخالهم في زمرة المجندين إلى غير ذلك من أعمال الغش والاحتيال والرشوة والانتقام من الخصوم [8].

شُكلت هيئة عليا أشرفت على تقسيم الجنود إلى 5 «أورطات» (كتائب)، وأنواع التدريبات، ومدى قوتها وجدّتها، وألّفت من محمد علي وابنه إبراهيم ومحمد لاظ أوغلي ناظر الجهادية فيما بعد، والضابط الفرنسي سيف وطاهر باشا مدير مديرية جرجا، كانت النواة الأولى أربعة آلاف مصري من الفلاحين، لكن بعد عام واحد فقط اجتاحت موجات التجنيد البلاد، وبعد أقل من عام كان 30 ألفًا من الفلاحين يتدربون بالفعل في المعسكر الجديد الذي أُقيم في بني عدي القريبة من منفلوط في مصر الوسطى [9]. ومنذ ذلك التاريخ 1822م أصبح التجنيد في مصر تجنيدًا إجباريًا.


[1] Uriel Heyd, studies in old ottoman criminal law p.261. نقلا عن كل رجال الباشا.[2] خالد فهمي: كل رجال الباشا، طبعة دار الشروق، ص136.[3] الجبرتي: عجائب الآثار في التراجم والأخبار، طبعة دار الجيل، 3/481.[4] عبد الرحمن الرافعي: عصر محمد علي، دار المعارف، الطبعة الخامسة، ص323.[5] خالد فهمي: كل رجال الباشا ص146.[6] خطاب مؤرخ في 25 جمادى الأول سنة 1237هـ ، نقلا عن خالد فهمي ص149.[7] كلوت بك: لمحة عامة إلى مصر 2/319.[8] محمد محمود السروجي: الجيش المصري في القرن التاسع عشر، دار المعارف، ص61.[9] خالد فهمي: السابق ص154.