امش يا هاني، لا تتوقف عن المشي، لو توقفت تتجمّد وتنتهي. امشِ بسرعة كالمطارد، هاربًا من الحكايات كلها، القديمة والجديدة، الحكايات نفسها التي تلاحقها الآن على هذه السطور. في النهار، ترسم صورك القديمة بأكبر قدرٍ ممكنٍ من الصدق، وفي الليل تمحوها، متخيلاً نفسك شخصية أخرى، غريبة عنك، فتحاول أن تتصرف وكأنّك ذلك الغريب. رجل طبيعي تمامًا، مثل هؤلاء جميعًا. أهم طبيعيون حقًا؟ ماذا يُخفون وراء تلك الوجوه والجماجم؟ مّن هو الشخص الطبيعي أساسًا، كيف يكون؟ هل أولئك الذين عذبونا وأهانونا طبيعيون؟

يجلس «هاني» في غرفة العنكبوت، ويكتب حكايته، وينتقل بنا بطريقة هشة من خيط إلى آخر، ويحكي حين انقطع الصوت، وعاوده الخروج، وحين طلق زوجته، وذكرياته مع رأفت حبيبه الأول، وبحثه عن فارس الأحلام الذي ضيع عمره في حب، وفي حب من تركه وعرض عليه شريكه، والعلاقات الطائشة التي مر بها، وزنزانته في مزرعة طرة.

يوجد فوق المكتب الدفتر الجديد الذي يدون فيه حكاياته، يستقر فوق الحكايات الأخرى الهاربة في درج المكتب، حين يكتب عن كريم سعدون الحلبي، وراحة الزنزانة والبراز الجاف والعرق، وفحولة عبد العزيز، ومساعدات «البرنس» وخوفه عليه، وقصته مع شيرين، وحبه لبدرية الصغيرة، وحسنة، والفنانة بدرية.

«في غرفة العنكبوت»، للروائي المصري «محمد عبد النبي»، والمرشحة على القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، هي بمثابة سيرة واقعية لشخص شهد أحداث «الكوين بوت»، وخرج منها لا يعرف من يكون، لكنه يجلس وسط الخيوط ويمزقها لعله يعرف، ويتذكر كل العناكب في حياته.


العنكبوت

عنكبوت أسود هائل، لا أدري من أين انبعث فجأة متوجهًا نحوي، ومن خلفه يدب اثنان آخران، ثم ‏خمسة، ثم لم أعد قادرًا على عدّ جيش العناكب الجرّار، ولا أدري أين أختبئ منه، حتى شعرتُ بأوّل واحد ‏منها يصعد على بدني العاري فصرختُ دونما صوت، وأفقتُ على منظر الوجوه المذعورة للمحبوسين معي

جاء ظهور العنكبوت في الرواية في مشاهد محددة وغير مترابطة، مشاهد تشبه فيما بينها بيت العنكبوت الهش، يستدعيه في بعض المواضع للمواساة، أو للبعد عن الخوف والانتحار، أو يأتي كإشارة لبداية جديدة، أو للتحذير، وكأنه الصديق الصدوق والوحيد الحقيقي في حياة هاني الهشة وفي قصته الغريبة عن المجتمع، ولعله يبرز من خلاله كيف خلقه الله بميوله للرجال.

اقرأ أيضا:موت صغير: عن حياة إمام المتصوفة «ابن عربي»

كان الظهور الأول للعنكبوت في غرفة الزنزانة، عنكبوت أسود هائل،خلفه أتى بجيش من العناكب يواسيه في محنته، في بعض الأحيان كان يستيقظ من نومه فزعًا، وهو يفكر في الانتحار ولكن العنكبوت يمنعه، كأنه يقول أنا هنا يا صديقي، أنت لست وحدك! عد إليَّ مسرعًا كلما شعرت بالوحدة خارج العش، وكلما مزقت الذكريات قلبك.

عندئذٍ ظهر صديقي الوحيد، عنكبوتي الأسود الصغير الذي التقيتُ به يوم خروجي من السيجن في هذه ‏الغرفة ذاتها قبل أسابيع، أخذ يتسلق أصابعي ببساطة ومودة ودون خوف، وكأنه يوقف يدي ويحاول ‏منعي، ويهمس لي اهدأ وأفكّر مرة أخرى. تراجعت وظللتُ أرنو إليه يسعى فوق رسغي وكفي، ثم عدتُ ‏للكتابة وأنا أتخيل نفسي عنكبوتًا أخرس ينسج من حوله بيته الواهن عسى ألا يضيع. أنسج خيوط الحكاية وأكتب لنفسك عني، حين سجنتني في درج الكومودينو، كيف خرج الفرخ الصغير المشعر من البيضة، أعمى العينين لا يقدر على الحركة، لكنه يبحث عن الدم. كيف هرب من سجنه وظل ساكنًا في ركن الدولاب يراقب ما يدور حوله في هدوء.

اللغة وأدواتها

جاءت اللغة في الرواية خليطا ما بين العامية والفصحى وتميل في بعض الأحيان إلى العامية الفصيحة، لغة مختلطة، ربما تعبر عن الواقع الاجتماعي للأبطال الذين لا يهتم أي منهم بأي ثقافة غير ثقافة إشباع الجسد، والجري وراء فارس الأحلام، ولكنها لغة غير معبرة عن خصوصية مجتمع الشواذ، فلا يعبر عنهم من خلال النص إلا بكلمة «الحبايب»، كأن الكاتب يريد أن يرسل لنا رسالة واضحة مفادها أن هؤلاء جميعًا مثل البقية لا اختلاف بينهم وبين مجتمعهم، فهم في نهاية المطاف بشر.

كما غلبت تقنية الراوي العليم على النص، إذ تمكن هاني محفوظ من خلال السرد في التعبير عن الوصف الخارجي للشخصيات والأحداث والتعليق على الأبطال بطريقة مكشوفة ومعبرة عن انحيازه لأصحاب الحكاية، ويظهر هذا من خلال تطور القص داخل النص.

كما استخدم الكاتب تقنية الحلم، والذي أقتصر على أحلام النوم، إذ يهرب هاني بهذه الأحلام من واقعه المرير الذي يدمره ويغوص بنا إلى داخل شخصيته العادية، فتارة يحلم بالعناكب التي تطارده، وتارة يرى نفسه طالبا متأخرا عن موعد امتحان أو جالسا في لجنة الامتحان يحدق في ورقة لا يعرف كلمة واحدة منها، وإذا عرف الأجوبة الصحيحة يجد قلمه فارغا من الحبر، وتارة يحلم بأمه جالسة في سبوعه بين النساء، وهناك من يحمل اللفة التي يزف بها، ويجري على نفسه ويفتحها ولا يجد سوى القماط الذي يحتوي على القماط.


تداخل النصوص

كنت أصحو أحيانًا بعد منتصف الليل بكثير مذعورًا، ربما بعد حُلم من أحلام العناكب، أو حلمي الآخر الذي أتأخر فيه عن موعد امتحان مهمٍّ. فأتنفس بنهم، واقفًا أمام النافذة المفتوحة. كنتُ أعرف عندئذٍ أنني أريدُ شخصًا ما يضمني إليه، حتى أذوب وأتلاشى تمامًا في حضنه. أحيانًا أتذكر أبي، وأقرأ له الفاتحة، ثم لا أدري لماذا أجدني ألعن أمي وخالتي والطبيب النفسي، وجميع الآخرين، وأفكر في أن الموت هو الحل الوحيد الممكن والمنطقي لكل ما أحمله فوق رأسي من خراء، وأمشي به بين الناس متظاهرًا بأنني طبيعي.

تعددت أشكال تداخل النصوص في الرواية، إذ نرى التناص الديني، والتناص الفني، والتناص مع الواقع اليومي والتاريخ. يظهر التناص الديني من خلال استدعاء الكاتب لآيات الذكر الحكيم، مثل ما نرى في قراءة كريم سعدون لآيات سورة يس حين على رأس هاني، حيث يستحضر الكاتب من خلال شخصية «كريم» النص القرآني بصورة مباشرة ويقتبس من القرآن كذلك قصة قوم لوط التي ذكروا بها وبما نزل عليهم من عذاب، والأثر الصوفي الذي بدا جليًا في حديث كريم إلى الله، يقول هاني:

كان كريم يكلم الله طوال الوقت، من صغره، وسواء في سره أو بصوتٍ مسموع. كان حوارًا من طرف واحد، غير أنه سرعان ما اكتشف سُبلا كثيرة يستطيع الله أن يهمس له بالأسرار عبرها، جملة يقولها أحد العابرين في الطريق، فيستشف هو منها رسالة خفية موجهةً إليه، أو أوّل شيء يجده في التليفزيون بمجرد أن يفتحه، أو حتى شقشقة عصفور تبدو كإجابة على سؤال طرحه في سرّه. وأحب أن ينصت إلى صوت الله في كل ذلك، رغم أنه كان يعرف أنه ملعون؛ لأنه يفعل فعلة قوم لوطٍ، لكنه يعود ليواسي نفسه قائلا إن الله هو من خلقه هكذا، وربما يكون في ذلك حكمة لن يفهمها مهما حاول، وربما يعينه على التوبة ذات يوم.

كما ظهر التناص مع الغناء بقوة، فذكر أغاني لأم كلثوم، وفيروز، وعايدة الشاعر، ووردة، وليلى مراد، وأغاني لعمرو دياب، وغيرهم. أما الوعي الشعبي فنرى ملامحه في كلام أمه قبل أن توافيها المنية، وفي رائحة البخور الجميلة التي راحت تشمها «كأن جنينة وردة طايرة في الجو يا ولاد»، ويظهر أيضا في نداءات أم كريم على بضاعتها وهي تسير في حواري خورست: «ورور يا جرجير، أحلى من الموز يا فجل، بنزهير يا ليمون، يا خس يا مليجي يا أحلى من الشهد».

اقرأ أيضا:«السبيليات»: من سيرة المرأة والحرب

لعل حادثة «الكوين بوت» هي الحادثة الأشهر في عالم المثليين، ففي عام 2001،قامت السلطات المصرية باحتجاز العشرات من داخل الملهى الليلي العائم والمعروف بمركب «الملكة ناريمان» أو «الكوين بوت»، وقدموا إلى المحاكمة بمحكمة أم الدولة العليا بتهمة الفجور، وتحت مظلة قانون الطوارئ. أثارت المحاكمة جدلا واسعا وشهدت اهتماما من منظمات حقوق الإنسان، ووسائل الإعلام الدولية.

ويتمثل التناص التاريخي في ذكر تفاصيل واقعة الكوين بوت أو مركب الملكة ناريمان، والتي أثار ضجة هائلة في بداية الألفية الجديدة، حيث كانت حدثًا مدويًا وجارحًا في ظل مجتمع شرقي، يرفض هذه الظاهرة ويعتبر أن المثلية الجنسية دخيلة على مجتمعه.