محتوى مترجم
المصدر
London Reveiw of Books
التاريخ
2007/11/15
الكاتب
سلافوي جيجك

واحد من أوضح الدروس في العقود الأخيرة هو أن الرأسمالية لا يمكن تدميرها. «ماركس» قارنها بمصاصي الدماء، واحدة من أشد نقاط المقارنة بروزًا تتضح حين نتذكر أن مصاص الدماء يحيا دومًا من جديد بعد تعرضه للطعن حتى الموت، وحتى محاولة «ماو»، في الثورة الثقافية، للقضاء على آثار الرأسمالية، انتهى بها المطاف إلى عودتها المظفرة.

في انتصار الرأسمالية العالمية تصبح المقاومة الحقيقية غير ممكنة، وكل ما يمكن القيام به هو الدفاع عما تبقى من دولة الرعاية الاجتماعية، ومواجهة من هم في السلطة.

لليسار اليوم عدة أشكال في التفاعل مع هيمنة الرأسمالية العالمية وملحقها السياسي: الليبرالية الديموقراطية. ربما، على سبيل المثال، يتقبل هذه الهيمنة، لكنه يستمر في النضال من أجل الإصلاح ضمن قواعدها (هذه هي الديموقراطية الاجتماعية-الطريق الثالث)، أو يتقبل أن هذه الهيمنة هي هنا وستبقى هنا، لكن مع ذلك يجب مقاومتها من «فجواتها أو تصدعاتها»، أو تقبّل عدم جدوى كل الصراعات، بما أن الهيمنة تشمل الجميع (كل شيء)، وبالتالي لا شيء يمكن عمله في الواقع إلا انتظار موجة من «العنف المقدس»، نسخة ثورية من مقولة «هيدجر»: «وحده الله من يمكنه أن ينقذنا»، أو أنها تعترف بعقم الصراع مؤقتًا.

في انتصار الرأسمالية العالمية حاليًا يصبح غنيًا عن القول إن المقاومة الحقيقية غير ممكنة، لذلك كل ما يمكننا القيام به حتى تتجدد الروح الثورية للطبقة العاملة العالمية، هو الدفاع عن ما تبقى من دولة الرعاية الاجتماعية (الرفاه)، ومواجهة من هم في السلطة بمطالب نعرف أنهم لا يستطيعون الوفاء بها.

أو الانسحاب للدراسات الثقافية، حيث يمكن للمرء أن يتابع بهدوء وظيفة النقد.

أو تؤكد على فكرة أن المشكلة أكثر أصولية بكثير، وأن الرأسمالية العالمية هي في نهاية المطاف أثر من آثار المبادئ الأساسية للتكنولوجيا أو «العقل الأداتي».

أو تفترض أنه يمكن تقويض الرأسمالية العالمية وسلطة الدولة، ليس من خلال مهاجمتهم مباشرة، ولكن من خلال إعادة تركيز مجال النضال في الممارسات اليومية، حيث يمكن للمرء أن «يقوم ببناء عالم جديد». بهذه الطريقة، الأسس التي تقوم عليها قوة رأس المال والدولة سوف تتقوض تدريجيًا، وعند نقطة ما، فإن الدولة سوف تنهار (نموذج لهذا النهج هو حركة زاباتيستا).

أو فإنها تأخذ الطريق «ما بعد الحداثي»، وتحول اللهجة من النضال المعادي للرأسمالية إلى الأشكال المتعددة من النضالات السياسية/الأيديولوجية من أجل الهيمنة، والتأكيد على أهمية الطريقة المشتتة في إعادة الصياغة المنطقية.

أو تراهن على أنه يمكن للمرء أن يكرر على مستوى ما بعد الحداثة لفتة الماركسية الكلاسيكية في تشريع «النفي الحاسم» للرأسمالية: مع ارتفاع فكرة «العمل المعرفي» اليوم، أصبح التناقض بين الإنتاج الاجتماعي والعلاقات الرأسمالية أكثر وضوحًا من أي وقت مضى؛ مما يجعل «الديمقراطية المطلقة» ممكنة لأول مرة في التاريخ (وهذا سيكون موقف «هاردت» و«نيجري»، أصحاب كتاب «الإمبراطورية»).

لا يتم عرض هذه المواقف باعتبارها وسيلة لتجنب سياسة «حقيقية» راديكالية يسارية، ما تحاول هذه المواقف الالتفاف حوله هو بالفعل عدم وجود مثل هذا الموقف (الراديكالي اليساري الحقيقي). هزيمة اليسار ليست كامل القصة في السنوات الثلاثين الماضية، ولكن هناك درس آخر لا يقل إثارة للدهشة.

الدرس الذي يمكن تعلمه من رئاسة الشيوعيين الصينيين، ومن نمو الديمقراطية الاجتماعية، باختصار، يمكننا أن نفعل ذلك على نحو أفضل.

الدرس الذي يمكن تعلمه من رئاسة الشيوعيين الصينيين على التطور الذي يمكن القول إنه أكثر صور الرأسمالية تفجرًا وازدهارًا في التاريخ، ومن نمو الديمقراطية الاجتماعية -الطريق الثالث في أوروبا الغربية- باختصار، يمكننا أن نفعل ذلك على نحو أفضل. في المملكة المتحدة، كانت ثورة «تاتشر»، في وقتها، فوضوية واندفاعية، وتميزت بحالات طارئة لم يكن ممكنًا التنبؤ بها. أما «توني بلير» فقد كان قادرًا على إضفاء الطابع المؤسسي عليها، أو، حسب تعبير «هيغل»، إلى رفع ما ظهر للوهلة الأولى على أنه حالة طارئة/حادث تاريخي إلى ضرورة. لم تكن تاتشر تاتشرية، كانت نفسها فقط. بلير هو الذي استطاع (أكثر من جون ميجر) أن يعطي شكلًا للتاتشرية.

كان رد بعض النقاد من معسكر يسار ما بعد الحداثة على هذا الموقف هو المناداة بسياسة جديدة للمقاومة، أولئك الذين ما زالوا مصممين على محاربة سلطة الدولة، ناهيك عن الاستيلاء عليها، هؤلاء يتم اتهامهم أنهم عالقون داخل «النموذج القديم»: المهمة اليوم، كما يقول منتقدوهم، هو مقاومة سلطة الدولة بالانسحاب من تضاريسها وخلق مساحات جديدة خارج سيطرتها، وهذا، بطبيعة الحال، الوجه الآخر لقبول انتصار الرأسمالية. سياسة المقاومة هذه ليست سوى التكملة الوعظية ليسار الطريق الثالث.

كتاب «سيمون كريتشلي» الحديث «المطالبة بلا حدود Infinitely Demanding»، هو تجسيد مثالي لهذا الموقف. بالنسبة له، الدولة الليبرالية الديموقراطية هي هنا لتبقى. محاولات القضاء على الدولة فشلت بطريقة مزرية، وكعاقبة لهذا يجب على السياسة الجديدة أن تكون على مسافة منها: الحركات المناهضة للحرب، والمنظمات البيئية، والجماعات المحتجة على الانتهاكات العنصرية أو التحيز ضد المرأة، وغيرها من أشكال التنظيم الذاتي المحلي.

يجب أن تكون سياسة مقاومة للدولة سياسة لإمطارها بمطالب مستحيلة؛ لشجب محدودية آليات الدولة. الحجة الرئيسية لإجراء سياسة المقاومة على مسافة من الدولة تقوم على البعد الأخلاقي لدعوة «الطلب بلا حدود» للعدالة: لا توجد دولة يمكنها اللحاق بركاب هذه المطالبات اللامحدودة، حيث أن هدف الدولة النهائي هو «سياسة واقعية» لضمان إعادة إنتاجها لذاتها (نموها الاقتصادي، والسلامة العامة، ..إلخ).

«بالطبع»، كريتشلي يكتب:

التاريخ يكتب عادة من قبل من يملكون البنادق والعصي، ولا يمكن لأحد أن يتوقع هزيمتهم بالسخرية والاستهزاء فقط. ومع ذلك، وكما يبين ببلاغة تاريخ العدمية اليسارية المتطرفة النشيطة، فإن المرء يخسر في نفس اللحظة التي تقوم يداه فيها بالتقاط العصي أو البندقية. المقاومة السياسية الفوضوية لا ينبغي أن تسعى لتقليد ونسخ سيادة العنف البدائي الذي تعارضه.

مثلًا، ما الذي يجب على ديموقراطيي الولايات المتحدة فعله؟ أن يتوقفوا عن المنافسة للحصول على سلطة الدولة، وينسحبوا لفجواتها أو تصدعاتها، ويتركوا سلطة الدولة للجمهوريين، ثم يقوموا بحملة فوضوية لمقاومة تلك السلطة. وما الذي كان كريشلي سيفعله لو واجه منافسًا كهتلر؟ في هذه الحالة هل على المرء أن «يقلد وينسخ العنف البدائي الذي يعارضه؟».

ألا يجب على اليسار التمييز بين الظروف التي قد يضطر المرء فيها إلى أن يلجأ إلى العنف في مواجهة الدولة، وتلك التي كل ما يمكن فعله، وما هو واجب فعله أيضًا، مجرد «الاستهزاء والسخرية»؟.

غموض موقف كريتشلي يكمن في فرض غريب لما لا يلزم: إذا كانت الدولة وجدت لتبقى، إذا كان من المستحيل القضاء عليها (أو على الرأسمالية)، لماذا نتراجع إذن؟، لماذا لا نعمل مع (في) الدولة؟، لماذا لا نقبل إذن بالفرضية الأساسية للطريق الثالث (الديموقراطية الاجتماعية)؟، لماذا الاقتصار على السياسة التي، كما قال كريتشلي، «تحمّل الدولة المسئولية وتدعو النظام القائم للمراجعة والحساب، ليس من أجل الاستغناء عن الدولة، على قدر ما قد يُرغب في هذا بسبب شعور طوباوي ما، ولكننا نفعل ذلك لتحسينها (أي الدولة) وتخفيف أثرها الضار».

هذه الكلمات ببساطة تثبت أن الدولة الديمقراطية الليبرالية اليوم وحلم «المطالبة بلا حدود» تجعل السياسة الفوضوية توجد في علاقة من التطفل المتبادل: الوكلاء الفوضويون يقومون بوظيفة التفكير الأخلاقي، والدولة تعمل على تشغيل وتنظيم المجتمع. الوكيل السياسي/الأخلاقي/الفوضوي عند كريتشلي يعمل مثل الأنا العليا، يقوم بقصف الدولة بمطالبه، وكلما حاولت الدولة تلبية هذه المطالب، كلما بدت مذنبة أكثر. وفقًا لهذا المنطق، يركز وكلاء الفوضى احتجاجهم ليس على الديكتاتوريات المفتوحة، ولكن على نفاق الديمقراطيات الليبرالية، تلك الديموقراطيات التي يتم اتهامهما بخيانة مبادئها الخاصة المعلنة.

يركز وكلاء الفوضى احتجاجهم ليس على الديكتاتوريات المفتوحة، ولكن على نفاق الديمقراطيات الليبرالية التي يتم اتهامهما بخيانة مبادئها الخاصة المعلنة.

المظاهرات الكبيرة في لندن وواشنطن ضد هجوم الولايات المتحدة على العراق قبل بضع سنوات تعتبر مثالًا نموذجيًا لحالة العلاقة التكافلية الغريبة بين السلطة و المقاومة. نتيجتها المتناقضة (ويا للمفارقة العجيبة) أن كلا الجانبين كانا راضيين. المتظاهرون حافظوا على «أرواحهم الجميلة»: جعلوا من الواضح أنهم لا يتفقون مع سياسة الحكومة في الحرب علي العراق. ومن في السلطة قبلوا ذلك بكل هدوء، وحتى استفادوا منه: لم تساهم الاحتجاجات بأي طريقة في منع القرار المعد مسبقًا بمهاجمة العراق؛ بل قامت بإضفاء الشرعية عليه. وكان هذا رد فعل «جورج بوش» على المظاهرات الحاشدة التي احتجت على زيارته إلى لندن: «أترون؟، هذا هو ما نقاتل من أجله، بحيث أن ما يفعله الناس هنا -الاحتجاج ضد سياسة حكومتهم- سوف يمكن حدوثه أيضًا في العراق!».

ومن الملفت للنظر أن ما شرع في فعله «هوغو تشافيز» منذ عام 2006م هو عكس اختيار اليسار ما بعد الحداثي تمامًا: بعيدًا عن مقاومة سلطة الدولة، استطاع تشافيز أن يتحكم بها (أولًا في محاولة انقلاب، ثم ديمقراطيًا)، وقام -بلا رحمة- باستخدام أجهزة الدولة الفنزويلية لتعزيز أهدافه.

وعلاوة على ذلك قام بعسكرة الأحياء، وبتنظيم وتدريب الوحدات المسلحة هناك. والرعب النهائي: الآن بما أنه بدأ يشعر بالآثار الاقتصادية المترتبة على الرأسمالية «المقاوِمة» لحكمه (نقص مؤقت في بعض السلع في محلات السوبر ماركت التي تدعمها الدولة) فقد أعلن عن خطته لتوحيد الأحزاب الـ 24 التي تدعمه في حزب واحد.

حتى بعض حلفائه يتشككون في هذه الخطوة: هل ستأتي على حساب الحركات الشعبية التي أعطت الثورة الفنزويلية حماستها وحيويتها؟. ومع ذلك، هذا الاختيار، رغم مخاطره الكبيرة ينبغي أن يؤيَّد تمامًا: المهمة هي جعل وظيفة الحزب الجديد ليس مجرد حزب اشتراكي دولتي نموذجي (أو بيروني [نسبة إلى خوان بيرون، الزعيم الأرجنتيني – إضاءات])، ولكن وسيلة لتعبئة أشكال جديدة من الحياة السياسية (مثل لجان الأحياء الفقيرة على مستوي القاعده الشعبية).

ماذا نقول لشخص مثل تشافيز؟، «لا، لا تستولِ على سلطة الدولة، فقط انسحب، واترك الدولة والوضع الحالي كما هم؟». كثيرًا ما يتم تجاهل تشافيز والتعامل معه كما لو أنه مهرج؛ ولكن ألن يقلل مثل هذا الانسحاب من مكانته، ويجعله كما يقول الكثير من اليساريين المكسيكين الآن، أقرب إلى «نسخة أقل هزلية من ماركوس؟ [ماركوس هو نائب رئيس حركة زاباتيستا الثورية في المكسيك]». فاليوم الرأسماليون الكبار -بيل جيتس، الشركات الملوثة للبيئة، وصيادو الثعالب- هم من «يقاوم» الدولة.

الدرس هنا هو أن الشيء التخريبي حقًا هو عدم الإصرار على «مطالب لا نهائية» نحن نعرف أن من في السلطة لا يمكنهم تحقيقها. بما أنهم يعرفون أننا نعرف، هذا الموقف المتمثل في «المطالبة اللانهائية» لا يمثل مشكلة لأولئك الذين في السلطة، فستجد خطابهم كالتالي: «من الرائع بكل مطالبكم النقدية، أنكم تقومون بتذكيرنا بالعالم الذي نود أن نعيش فيه، ولكن نحن نعيش في العالم الحقيقي للأسف، حيث لا يمكننا القيام إلا بما هو ممكن». لذلك الشيء الذي ينبغي القيام به هو، على العكس من ذلك، قصف أولئك الذين في السلطة بـمطالب منتقاة جيدًا بشكل إستراتيجي، محددة، واضحة و محدودة، حيث لا يمكنهم مواجهتها بنفس العذر.