في كتابه «مدخل إلى دراسات الترجمة: نظريات وتطبيقات»، الصادر عن مشروع كلمة بترجمة هشام علي جواد، يُعرِّف البروفيسور جيريمي مندي (Jeremy Munday) دراسات الترجمة بأنها «ذلك الفرع الأكاديمي الحديث المعني بدراسة نظرية الترجمة وظواهرها، وهو بطبيعته التعددية اللغوية والفرعية البينية إنما يقوم على اللغات واللسانيات ودراسات التواصل والفلسفة، إضافة إلى أنماط متنوعة من الدراسات الثقافية».

هذا التنوع الذي عبَّر عنه مندي أنتج مشكلة كبرى، تتمثل في ظهور العديد من الاتجاهات البحثية والفروع المعرفية في دراسات الترجمة، ومن ثمَّ إنتاج الكثير من الكتب والمجلات والموسوعات المعنيَّة بالترجمة من الناحية النظرية أو حتى العملية، التي حاولت جمع المفاهيم الرئيسية وتقديم صورة توصيفية لهذا الفرع الجديد من الدراسات، وأشهرها موسوعة روتليدج لدراسات الترجمة.

بدأت دراسات الترجمة في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث ظهرت مقاربات علمية لسانية في معظمها حددت وسائل ومجالات البحث العلمي في الترجمة. ويرجع الفضل في ظهور دراسات الترجمة إلى العالم الألماني جيمس هولمز (James S. Holmes).

يصف هولمز في ورقة بحثية نشرها عام 1972م هذا المجال الوليد آنذاك بكونه معنيًا بـ«مجموعة الإشكاليات المتمحورة حول ظاهرة الترجمة والترجمات». وفي كتابها «دراسات الترجمة: مدخل متكامل» كتبت ماري سنيل هورنبي: «إن طلب النظر إلى دراسات الترجمة على أنها حقل معرفي مستقل قد أتى من عدة دوائر في السنوات الأخيرة»، كما تحدثت منى بيكر في موسوعة روتليدج لدراسات الترجمة عن «الحقل المعرفي المثير الجديد، الذي ربما يكون الحقل المعرفي السائد في تسعينيات القرن العشرين، الذي جمع باحثين من مجموعة واسعة من التخصصات التقليدية في كثير من الأحيان».

وقد شهدت دراسات الترجمة تقدمًا كبيرًا منذ سبعينيات القرن الماضي، وهو ما تجلى عبر الاهتمام المتزايد بما يُعرف بـ«خريطة هولمز»، التي يرى البعض أنها بمثابة بيان تأسيس لعلم دراسات الترجمة.

ولذا، يجد الباحث نفسه تائهًا أمام هذا الكمّ الهائل من الكتب والأبحاث والدوريات التي تتناول الترجمة، باعتبارها علمًا من حيث النظريات والمقاربات المختلفة. وهنا تكمن المشكلة، ويبدأ الباحث في التساؤل: من أين أبدأ؟ وماذا أقرأ؟ وفي أي فرع أتخصص؟ وكيف أحصل على فكرة؟ أو بالأحرى، كيف أكتب بحثًا علميًا رصينًا في دراسات الترجمة؟ ربما هذا هو السؤال الأهم الذي يشغل بال الكثيرين في جميع المجالات الأكاديمية وليس الترجمة فحسب.

هنا، لن أقدم طريقة سحرية لكيفية كتابة بحث علمي في دراسات الترجمة، ولن أضع بين أيديكم ببلوجرافيا بالكتب التي ينبغي قراءتها، أو أساليب الكتابة العلمية. ما أحاول طرحه ههنا هو توصيف موجز للإشكاليات التي يعاني منها الباحث في دراسات الترجمة تحديدًا، والتي تتلخص برأيي في عدم القراءة والاطلاع على أدبيات هذا الحقل المعرفي الواسع، ولا الدراية بالاتجاهات الجديدة فيه. المشكلة ليست في كثرة الكتب وتنوع المؤلفين وزيادة الاتجاهات؛ بل في منهجية القراءة عند الباحث نفسه.

ربما يتفاجأ البعض عند معرفة أن الكثير من طلبة الدراسات العليا -في دراسات الترجمة تحديدًا- لم يقرؤوا كتابًا واحدًا كاملًا عن الترجمة، ويكتفون بالمقالات والأوراق البحثية المنشورة في الدوريات العلمية الشهيرة؛ أملًا في إيجاد فكرة تصلح لأن تكون موضوع رسالتهم. وبذلك، يفتقر الباحثون –إذا كان يجوز أن نسميهم هكذا– إلى القاعدة المعرفية التي تؤهلهم لممارسة الكتابة الأكاديمية، أو حتى القدرة على اختيار موضوع لأبحاثهم ابتداءً.

إن المقالات والأوراق البحثية هي خلاصة فهم الباحث ونتاج لقراءته وتفاعله مع نصوص عديدة، ربما تستخلص منها بعض المعلومات أو تساعدك على فهم بعض الإشكاليات، لكنها لن تُشكِّل بنيتك الفكرية وقاعدتك المعرفية التي تجعلك قادرًا على الكتابة.

وفي ظلّ تعدد الرؤى والاتجاهات في دراسات الترجمة أصبح لزامًا على الدارسين والباحثين الإلمام بتلك الاتجاهات وإدراك أسسها المعرفية والفلسفية. ولا يقتصر الأمر على قراءة الكتب المعنيِّة باللغة والترجمة فحسب باعتبارها توسعًا رأسيًّا للباحث، بل التوسع الأفقي كذلك في شتى فروع المعرفة الإنسانية، هذا التوسُّع الذي استوجبه تداخل وتشابك الترجمة مع فروع معرفية أخرى مثل الفلسفة والأدب والعلوم وغير ذلك.

سأنهي بالقول: إن أزمة الباحث في فروع المعرفة عامة، ودراسات الترجمة خاصة، هي أزمة قراءة بالأساس. وأعني هنا القراءة بما هي القدرة على استخلاص الأفكار والمحاور الرئيسية في أي كتاب، والنظر في أسلوب الكاتب وطريقة عرضه لأفكاره ونحته للمصطلحات الجديدة، ومواقفه من القضايا التي تناولها، ومحاولة استيعاب ذلك كله ضمن البناء النظري الخاص بالباحث والمنظومة الفكرية التي يمتلكها، ثم التعبير عن تلك الأفكار بلغة أكاديمية واضحة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.