أطلقت ثورات الربيع العربي (2011) تفاعلات وهزات كبيرة ما تزال مستمرة في أكثر من بلد عربي وسوف تترتب عليها تداعيات خطيرة حاضرًا ومستقبلًا.

وفي ليبيا هذه التفاعلات لا تقتصر تداعياتها على الداخل الليبي وإنما ستمتد إلى الجوار الإقليمي كحالة الصراع في أوباري إحدى مدن إقليم فزان بالجنوب الليبي؛ حيث الفوضى وانعدام الأمن ونشاط شبكات الجريمة المنظمة العابرة للحدود والجماعات الجهادية، فضلًا عن التنافس الداخلي بين المجتمعات المحلية للسيطرة على الموارد والأرض وطموحات ومظالم سياسية مسنودة بروابط عابرة للدول، وهناك أيضًا بؤر لنزاعات مسلحة كامنة قديمة، وفوق كل ذلك التدخلات الخارجية السالبة والتآكل المتواصل لسيادة الدولة الليبية.

عدا تلك العوامل آنفة الذكر، يلاحظ الباحث الليبي محمد سليمان الزواوي، أن «جغرافية الدولة الليبية تلعب دورًا كبيرًا في الأزمة الليبية الحالية، حيث ظلت أقاليمهما الثلاثة: برقة وفزان وطرابلس، شبه منفصلة جغرافيا»[1].

هذه التفاعلات، والتداعيات الإقليمية المترتبة عليها الوقت الراهن وعلى المدى البعيد، تجد اهتمامًا كبيرًا من لدن مراكز الأبحاث الغربية، على عكس المراكز البحثية العربية.

مؤخرًا، صدرت عدة تقارير تناول الأوضاع في ليبيا لاسيما الجنوبي الليبي ذي الأهمية الجيواستراتيجية. حيث تناول فريدريك ويري (باحث أول ببرنامج الشرق الأوسط، مؤسسة «كارنيغي للسلام الدولي») الجوانب المختلفة للتعقديات الأمنية في الجنوب الليبي. بينما رَصد الباحث الفرنسي جيروم وتوبيانا (كبير محللي شئون تشاد والسودان بمجموعة «الأزمات الدولية») ما سماه «حربًا صغيرة» في منطقة دارسيلا بشرق تشاد على الحدود مع السودان، متناولًا التداعيات الإقليمية للنزاع في ليبيا ودارفور وصِلاته بظاهرة عبور الحدود لاسيما حمى التعدين عن الذهب والنزاعات المحلية.


صراع عابر للحدود

في (نيسان/أبريل) الماضي صدر عن مشروع «تقييم الأمن في شمال أفريقيا»تقريرًا بعنوان: (Southern Libya Destabilized: The Case of Ubari)، تناول بالتحليل الأوضاع في مدينة أوباري التي تقطنها قبائل الطوارق والتبو، وتقع على الحدود المؤدية إلى دول تشاد والنيجر وتشاد والسودان والجزائر.

وأشار التقرير إلى أنه «على مدار أكثر من قرن، العلاقات بين هذه القبائل تحكم عبر معاهدة 1893 (وتعرف أيضًا بمعاهدة «ميدى ميدى»)، كما حلّل التقرير أيضًا، كيف انعكس الصراع الذي دخلت فيه ليبيا منذ العام 2011 على هذه المنطقة، والذي أدى إلى تهشيم اتفاقية السلام التقليدية التي حافظت لعقود على أمن واستقرار هذه المجتمعات. بالنتيجة انزلقت أوباري في نزاع حيث يتناول التقرير الصراع في الفترة بين 2014-2016 .

كذلك، عالج التهديدات المحتملة لهذا النزاع على جنوب غربي ليبيا وإقليم الساحل بشكل أوسع، حيث توقعت الورقة بتفاقم هذا الصراع ليأخذ طابعًا إقليميًا وجاء في التقرير «إذا استمر الوضع الراهن على ما هو عليه، فإن تجدد الصراع يبدو احتمالًا قويًا، وذلك بالنظر إلى الروابط العائلية والقبلية العابرة للحدود بين الطوارق والتبو عبر أنحاء الساحل، فالصراع المقبل يمكن أن ينسحب بسهولة ما وراء الحدود المحلية لأوباري إلى الإقليم الأوسع».

كما تذهب الورقة إلى أن الصراع في أوباري «يتمركز حول الأصول الاقتصادية والهوية على المستوى المحلي، ولكن كغيره من الصراعات في ليبيا، فإن الحكومات الوطنية المتنافسة ومع تزايد التدخلات الأجنبية في هذا الاقتتال جعل الصراع يبدو كحرب بالوكالة».

النتائج الرئيسية

التقرير الذي أعدته الباحثة ربيكا موري (صحفية مستقلة وباحثة تركز على شئون ليبيا بعد ثورات الربيع العربي) خلَص لنتائج رئيسة، هي: لعب التدخل الخارجى دورًا مهمًا في إطالة أمد الصراع في أوباري، فالتدخل الدولي والإقليمي فاقم من خطوط الصدع في الجنوب، في حين اصطف السكان المحليون مع الفصائل المتنافسة على المستوى الوطني لتلقي الأسلحة واللوجيستيات والدعم السياسي.

القضايا التى لم تحل بخصوص وضع المواطنة فيما يخص المواطنة بالنسبة للمواطنين الأصليين من التبو والطوارق في الجنوب الليبي قد حدّ من قدرتهم على الحركة، لذا أعضاء هذه المجموعات ليس أكثر ميلًا للانخراط في أنشطة تهريب المهاجرين والبضائع فحسب وإنما هم أكثر قابلية للتجنيد كمقاتلين مأجورين من قِبل الأطراف الليبية المتحاربة والمتطرفين.

إن التهديدات الرئيسة للسلام الدائم في أوباري والمناطق المحيطة بها هو غياب مؤسسات حكومية وأمنية موحدة ومحايدة؛ والاقتتال المستمر من أجل السلطة والسيطرة على المستويين الوطني والمحلي، وكذلك شح الاستثمار في البنية التحتية وتقديم الخدمات العامة والاقتصاد المحلي؛ وإذا كانت اتفاقية السلام في أوباري ستنهار، من التداعيات المحتملة أن يمتد الى المستوى الإقليمي؛ فالمجتمعات المحلية سوف تعيد تعبئة أقاربهم عبور الحدود، كما فعلوا ذلك خلال الصراع الحالي و زعزعة استقرار الدول المجاورة؛ وفي الوقت نفسه، فإن الفراغ الأمني يسمح المهربين ومجموعات المتطرفين بالازدهار.


تداعيات النزاع

وبناء على المعطيات السابقة، نرى أن الأوضاع في أوباري سوف تترتب عليها التداعيات الإقليمية التالية:

رسم واقع جديد لا يستصحب بالضرورة مصالح دول المنطقة أو شعوبها، وفي ظل غياب إطاري إقليمي أو ثنائي بين دول المنطقة للتعامل مع مثل هذا التهديدات، سوف تؤدي التدخلات الخارجية إلى تفكيك الدولة المركزية لصالح كانتونات عرقية ومناطقية هشة.

عرقلة وإفشال جهود تأسيس حكومة مركزية في طرابلس كي تتمكن من استعادة أدوار الدولة السيادة وفرض السلطة والقانون فى كافة مناطق التراب الليبي لاسيما أوباري.

تدهور الصراع في أوباري قد يؤدي إلى مفاقمة النزاعات المسلحة القديمة (نزاعات حدودية أو داخلية) هذه المرة إلى تحويلها نزاعا إقليميا واسع النطاق، مع الأخذ بالاعتبار هشاشة الحدود الرابطة بين ليبيا والنيجر وتشاد والسودان.

تنامي قوة شبكات الجريمة المنظمة وتعدد أنشطتها من تهريب الأسلحة إلى الأشخاص إلى السلع والسيارات إلى الذهب..إلخ.

أرجحية نشوء توجهات انفصالية في ظل نزعة التضامن وإعادة الالتحام بين المجموعات التي توزعت على جوانب الحدود إبّان حقبة الاستعمار ومابعدها مما سيؤدي إلى تهديد نظام الدولة الوطنية التقليدي.

التأسيس لأنماط من الحروب بالوكالة تُوظّف فيها المكونات المحلية باللعب على تناقضاتها الإثنية والعرقية ومظالمهما التاريخية، لاسيما مع تزايد التدخلات الخارجية التي تأخذ طابعًا عسكريًا من قِبل الدول الكبرى والقوى الإقليمية.


دولة الميليشيات

على ما يبدو، تحولت ليبيا «الجديدة» حاليًا الى نموذج «دولة ميليشيات»، بالنظر إلى انتشار السلاح بكثافة وتناسُل المجموعات المسلحة من كافة الأنواع والدوافع إلى جانب الحرب بالوكالة، فضلًا عن نشاطات شبكات الجريمة العابرة للحدود التي تنتعش في مثل البئيات الهشة.

وعلى الرغم من كثافة التقديرات حول انتشار الأسلحة في ليبيا وخارجها. ثمة تقديرات تشير إلى وجود نحو 1700 مجموعة مسلحة على الأقل مجمعة في 300 جماعة مسلحة. ولكن لا يُعرف على وجه الدقة عدد الميليشيات في ليبيا، ويتحدث البعض عن أربعة تصنيفات للجماعات المسلحة في ليبيا من حيث التأثير والعدد والقادة والأماكن المتمركزة فيها وهي: كتاب الثوار، والكتائب غير النظامية، وكتائب ما بعد الثورة والميليشيات [2].


ما بعد القذافى

بالنسبة للمراقبين، هناك أربع سِمات يمكن ملاحظتها في ليبيا ما بعد سقوط نظام العقيد القذافى:

– الفراغ الأمنى وانتشار الميليشيات المسلحة والفوضى ضاربة الأطناب في ظل غياب حكومة مركزية فعّالة.

– تنامي ظاهرة «عسكرة الأقليات» إما بسبب انتشار الأسلحة أو غياب قوى أمنية موحدة وتوظيف القوى الخارجية لورقة الأٌقليات في مشاريعها داخل ليبيا أو على مستوى الإقليم.

– بروز طرح الفيدرالية والحكم الذاتي كخيار سياسي للمجموعات العرقية والمناطقية كأمر واقع وعلى حساب الدولة المركزية ووحدتها الوطنية.

– تحول ليبيا إلى تهديد إقليمي حقيقي بسبب النشاط العابر للحدود وتدفق السلاح منها وإلى دول الجوار والإقليم.

وللتذكير، «مشروع تقييم الأمن في شمال أفريقيا» هو مشروع بحثي متعدد السنوات يتبع لمشروع «مسح الأسلحة الصغيرة»، حيث يهدف إلى دراسة وفهم ديناميات التهريب والصراع وانتشار الأسلحة، ورسم خرائط للصراعات القائمة والناشئة، وتقييم نطاق العنف والتدابير المتخذة حيال تلك القضايا في دول شمال أفريقيا. و تصدر منشورات المشروع باللغات الإنجليزية والعربية والفرنسية.


[1] محمد سليمان الزواوي، «التداعيات الإقليمية للأزمة الليبية»، دورية «رؤية تركية»، العدد 3، السنة 3، (خريف 2014) ص:23[2] ورد في: مراجعة سارة محمود خليل لكتاب «الميليشيات والحركات المسلحة في ليبيا»، دورية «رؤية تركية»، العدد 4 (شتاء2014)، ص 165.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.