إن ابن عاشور ليس اسمًا عاديًّا في محيط الثقافة الإسلامية، بل إن اسمه وجهاده قد ارتبطا ارتباطًا وثيًقا بواحدة من أهم مؤسسات هذه الثقافة، وِبرمز من أبرز رموزها في النصف الأول من القرن العشرين، ألا وهي جامعة الزيتونة، وهو بدون شك
آخر العمالقة الذين عرفهم التاريخ المديد لهذه المؤسسة العريقة.

محمد الطاهر الميساوي في مقدمته على كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية لابن عاشور


مدارج الترقّي في حياة «ابن عاشور»

ولد محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور، بضاحية المرسى بتونس العاصمة عام 1296هـ / 1879م، ونشأ في كنف عائلة علمية تمتلك مكتبات علمية واسعة، وتعلّم في الكتّاب حتى أتقن حفظ القرآن، وحفظ مجموعة من المتون العلمية المؤهلة للدراسة بالزيتونة، ودرس مبادئ العربية، ثم تعلّم ما تيسّر من الفرنسية، والتحق بجامع الزيتونة عام 1893م.

بعدها بست سنوات، في 1899م، حصل على شهادة التطويع، قبل أن يبدأ في العام التالي مباشرة في التدريس بالمدرسة الصادقية، وفي عام 1904م، سُمّى نائبًا عن الدولة لدى نظارة جامع الزيتونة، ثم عضوًا بلجنة تنقيح برامج التعليم، في 1908م. وفي عام 1913م، عيّن قاضيًا لقضاة المالكية، وعضوًا بالمجلس المختلط العقاري، وعضوًا بهيئة النظارة العلمية المديرة لشئون جامع الزيتونة، قبل أن يعود في 1923م، عاد للتدريس بجامع الزيتونة والمدرسة الصادقية.

وفي عام 1932م، عُين شيخَ الإسلام المالكي، ثم شيخًا لجامع الزيتونة وفروعه في 1944م. وفي 1950م، اختير عضوًا مراسلاً لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، وفي العام التالي،1951م، اعتزل منصب شياخة جامع الزيتونة، وشارك في مؤتمر المستشرقين باسطنبول. وفي عام 1956م، عُيّن عميدًا لجامعة الزيتونة. في عام 1968م، حاز على الجائزة التقديرية للرئيس حبيب بورقيبة.

في عام 1970م، توفي ابنه محمد الفاضل في 2 إبريل / نيسان، وتوّلى إمامة الصلاة عليه بقوة ورباطة جأش، وبعدها بثلاثة أعوام، في 1973م، توفي في 12 أغسطس / آب، 13 رجب 1393هـ، ودُفن بمقبرة الزلاج.

وللأستاذ فصاحة منطق، وبراعة بيان، ويضيف إلى غزارة العلم وقوّة النظر صفاء الذوق وسعة الإطلاع في آداب اللغة،….، وبالإجمال: ليس إعجابي بوضاءة أخلاقه وسماحة آدابه بأقل من إعجابي بعبقريته في العلم.
العلامة محمد الخضر حسين – شيخ الجامع الأزهر

«ابن عاشور» رياديّة الإصلاح والتجديد

انتظمت التوجّهات الفكرية والعلمية للإمام الطاهر ابن عاشور في مساراتٍ رياديّة، إصلاحية وتجديدية، يمكننا أن نصوغها في أربعة مسارات:

1. المسار الإصلاحي:

– الإصلاح الاجتماعي: استمدادًا من تشريعات المرحلة المدنية، واستقراءً للنصوص، واستنادًا إلى المبادئ العامة التي أقرّتها الشريعة في تأسيس نظام المجتمع الإسلامي: (الفطرة – الاعتدال والتوسّط – السماحة – الواقعية)، ومن خلال مقوّمات (الأخلاق – المساواة – الحرية – العدل – مال الأمة – الحكومة والدولة)، موضحًا الخطوة الأولى في إصلاح الفرد من خلال (إصلاح الاعتقاد والتفكير والعمل وتأسيس مكانة المرأة في النظام الاجتماعي الإسلامي).

– الإصلاح التربوي:وقد انصبّ على إصلاح التعليم في جامع الزيتونة، متتبعًا أسباب تأخّره، وناقدًا لمستوياته القائمة نقدًا جريئًا، ومقدّمًا مقترحاته في إصلاح حال الطلبة، والمعلّمين، ومستوى التأليف، وإصلاح العلوم ومناهجها ذاتها. وضمّن ذلك كتابه (أليس الصبح بقريب)، وطُبّقت بعض مقترحاته بالفعل، وبقي البعض الآخر في إطاره النظري.

– الإصلاح اللغوي: إذ صرّح مبكرًا بأن أحد أهم اسباب تأخر الأمّة تأخّر لغتها وفسادها؛ ومن ثمّ توسّع في تحقيق بعض الكتب الأدبية المهمّة، وفي درس البلاغة، وأثار العديد من القضايا الأدبية والنقدية.

2. المسار الاجتهادي:

رأى الشيخ الطاهر ابن عاشور أن غلق باب الاجتهاد يحطّ من قيمة علم الأصول، ويسبّب ركونًا إلى التقاعس والتقليد، ويحجّر العقول عن تصوّر حلول للقضايا المستجدّة، ويقول في ذلك: (إن غلق باب الاجتهاد وتحجير النظر، حطّ من قيمة علم الأصول عند طالبيه فأودِع في زوايا الإهمال وأصبح كلمات تقال، وبذلك قلّ تدريسه). معتبرًا أن التأخّر في علم أصول الفقه سببٌ رئيسٌ في تأخّر حركة الاجتهاد لدى عامّة المغاربة والمصريين.وبعد أن استقرأ مسائل علم أصول الفقه، توصّل إلى أنها ليست قطعية، ونشأت في أغلبها بعد الفقه لتأييد فروع انتزعها الفقهاء قبل ابتكار علم الأصول. وقام بتنقيتها وإعادة النظر فيها متوصّلاً بها إلى صياغة «المقاصد».

ولأنه يرى أن الفقيه المجتهد يحتاج إلى معرفة مقاصد الشريعة التي تفرض معرفة هامة بآليات الاجتهاد؛ اهتمّ ابن عاشور بمقاصد الشريعة اهتمامًا بالغًا، ويعدّ أهم مَن لفت النظر إليها في التاريخ المعاصر من خلال كتابيه (أصول النظام الاجتماعي في الإسلام) الذي خصّصه لمقاصد أحكام العبادات،و(مقاصد الشريعة الإسلامية) الذي خصّصه لمقاصد أحكام المعاملات والآداب، ويعتبر نموذجًا للدراسات المركّزة في هذا المجال، بما تضمّنه من خطّة متناسقة أفصحت عن مدى قدرة المؤلف في التصوّر العام على مظاهر التجديد، وتجاوز التأليف في موضوع المقاصد إلى اقتراح تناوله كعلم مستقل من علوم الشريعة.

3. المسار التفسيري:

اقترح الشيخ الطاهر ابن عاشور منهجًا لإصلاح التفسير، ودشّن معالمه في كتابه «أليس الصبح بقريب»، وطبّقها في دروس تفسيره بجامع الزيتونة، ثم في تفسيره الكبير «التحرير والتنوير»، ويقول بشأن هذا المنهج: (الذي يجدر أن يؤسّس عليه إصلاح علم التفسير ويكون منحولاً من التفاسير، هو أن تفسّر التراكيب القرآنية جريًا على تبيين معاني الكلمات القرآنية بحسب استعمال الغة العربية، ثم أخذ المعاني من دلالات الألفاظ والتراكيب وخواص البلاغة، ثم استخلاص المعاني المدولة منها بدلالات المطابقة والتضمّن والالتزام، مما يسمح به النظم البليغ ولو تعددت المحامل والاحتمالات، ثم نقل ما يؤثر عند أئمة المفسّرين من السلف والخلف مما ليس مجافيًا للأصول ولا للعربية). [أليس الصبح بقريب – ص190]

4. المسار الحديثي:

شكّلت علوم الحديث جانبًا مهمًا من جوانب فكر العلامة الطاهر ابن عاشور، إذ كان يرى أن علم الحديث هو أتقن العلوم الإسلامية أحكامًا وأعلاها منهجية، وأقلّها خللاً، وأبعدها أثرًا في شتى العلوم خاصة في علم التاريخ. علاوة على ذلك كان العلامة الطاهر حافظًا وراوية مُسنِدًا للحديث النبوي، على علم واسع بصناعة الحديث متنًا وسندًا وتحقيقًا وتدقيقًا وتتبعًا لمصادره ومعرفة بكتبه وخبرة بمسالكه قلّ نظيرها.. وامتدّت عنايته بالحديث إلى كل مؤلّفاته، وكثيرًا ما كان يستشهد بالحديث النبوي الصحيح في المسائل التي تطرّق إليها.

كان للحديث القسط الوافر في تفسيره «التحرير والتنوير»، وفي إنتاجه اللغوي الذي لا يخلو من الرجوع إلى كلام الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وفي عنايته بالتعليق على صحيح البخاري في كتابه «النظر الفسيح عند مضايق الأنظار في الجامع الصحيح» بالتنبيه على مواطن فاتت شُرّاح الجامع الصحيح في الفقه واللغة والمصطلح. وفي دراسته الفريدة لأحاديث موطّأ مالك، التي أسماها «كشف المغطّى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطّأ» ووصفها بقوله (نكت وتحقيقات وفتح لمغلقات ليست مما تهون إضاعته ولا مما تبخس بضاعته)، آخذًا على نفسه ألا يتناول ما ورد في الشروح السابقة على الموطّأ.

هو نمطٌ فريد من الأشياخ، لم نعرف مثلَه بين معاصريه أو طلَّابه أو من كان في درجتهم من أهل العلم.. وقد وهبه الله متانةَ علم، وسعة ثقافة، وعمق نظر، وقدرة لا تفتُر على التَّدوين والنَّشر، ومَلَكات نقديَّة يتَّضح أثرها في طريقة الجمع بين الأصول والتعريفات، وما يلحق بها من ابتداعات وتصرُّفات.

الدكتور محمد الحبيب بلخوجه – محمد الطَّاهر ابن عاشُور، علَّامة الفِقه وأُصوله والتَّفسير وعُلومه


إرثٌ من المعارف..

ترك الإمام الطاهر ابن عاشور ما يربو على الأربعين مؤلَّفًا في علوم الشريعة واللغة وآدابها.. منها:

في علوم الشريعة:

– «تحرير المعنى السديد، وتنوير العقل الجديد، من تفسير الكتاب المجيد» المعروف بـ«التحرير والتنوير من تفسير القرآن الكريم» (30 جزءًا)، الشركة التونسية للتوزيع، تونس، 1974م.

– مقاصد الشريعة الإسلامية، الشركة التونسية للتوزيع، 1978م.

– التوضيح والتصحيح حاشية على التنقيح للقرافي في أصول الفقه، مطبعة نهج الجزيرة، 1341هـ.

– أليس الصبح بقريب؟التعليم العربي الإسلامي: دراسة تاريخية وآراء إصلاحية، المصرف التونسي للطباعة، 1967م.

– كشف المغطّى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطأ، الشركة التونسية للتوزيع، ١٩٧٥م.

– نقد على كتاب الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق، المطبعة السلفية، القاهرة، 1344هـ.

– النظر الفسيح عند مضايق الأنظار في الجامع الصحيح، الدار العربية للكتاب، ليبيا تونس، 1979م.

– أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، الدار العربية للكتاب، 1979م.

– الوقف وأثره في الإسلام.

– قلائد العقبان للفتح بن خاقان، شرح وتحقيق وإكمال، 1982م.

في اللغة وآدابها:

– أصول الإنشاء والخطابة، مطبعة النهضة نهج الجزيرة، تونس، 1339هـ.

– موجز البلاغة، المطبعة العلمية، تونس، 1939م.

– شرح معلّقة امرئ القيس.

– شرح المقدمة الأدبية للمرزوقي على ديوان الحماسة، الدارالعربية للكتاب، ليبيا، ١٩٧٨م.

– قصيدة الأعشى الأكبر في مدح المحلّق، جمع وتعليق، مطبعة العرب، تونس، 1929م.

محمد البشير الإبراهيمي


ويبقى السؤال

عَلَم من الأعلام الذين يعدّهم التاريخ الحاضر من ذخائره، فهو إمام متبحِّر في العلوم الإسلامية، مستقلّ في الاستدلال، واسع الثراء من كنوزها، فسيح الذرع بتحمّلها، نافذ البصيرة في معقولها، وافر الاطلاع على المنقول منها، أقْرَأ، وأفاد، وتخرَّجت عليه طبقات ممتازة في التحقيق العلمي.

إن كان للطاهر ابن عاشور كل هذا الجهد والتأثير في الإصلاح التربوي والاجتماعي واللغوي والبلاغي، وكلّ هذا الإسهام والتطوير في المسار الاجتهادي والتفسيري؛ فلماذا لم يَلقَ الرّجل قدره اللائق من الاحتفاء والاشتهار والمرجعية في عموم العالم الإسلامي؟ هل للأمر أسباب جهوية، بكونه مغاربيًا؟ أم أسباب مذهبية، بكونه مالكيًا أشعريًا؟ أم هي مجرّد أسباب قدرية بحتة ليس ثمّة معنىً من التنقيب في مكونانتها؟

دليل الإجابة يبدو سهلاً وقريبًا ومتاحًا، إذا ما وضعنا في الاعتبار كيف أنّ مَن هُم أقلّ منه منزلةً وتأثيرًا ومَضاءً في العلوم والفكر والتطبيق، نالوا شهرةً واحتفاءً أكثر منه بمراحل، لمجرّد انتماءاتهم الجهوية والمذهبية.

المراجع
  1. موسوعة "أعلام ومفكرون معاصرون"، المركز العربي للدراسات الإنسانية.
  2. شيخ الجامع الأعظم محمد الطاهر ابن عاشور.. حياته وآثاره، د. بلقاسم الغالي، دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 1996م.
  3. محمد الطاهر ابن عاشور، علامة الفقه وأصوله والتفسير وعلومه، إياد خالد الطَّباع، دار القلم، دمشق، الطبعةالأولى، 2005م.
  4. نثر الجواهر والدرر في علماء القرن الرابع عشر، د. يوسف المرعشلي، ج1، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 2006م.
  5. أسس التقدّم عند مفكّري الإسلام في العالم العربي الحديث، د. فهمي جدعان، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1988م.
  6. معجم المؤلفين، عمر رضا كحالة، ج3، ص363، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1993م.
  7. ذكرى سماحة الأستاذ الإمام محمد الطاهر بن عاشور، وزارة الشئون الثقافية، مطبعة الدار التونسية للنشر.
  8. تونس وجامع الزيتونة، محمد الخضر حسين، المطبعة التعاونية، دمشق، 1971م.
  9. أليس الصبح بقريب؟، محمد الطاهر ابن عاشور، المصرف التونسي للطباعة، 1967م.