وقفنا في مقالنا السابق عند الأسباب التي جعلت الفاتحين المسلمين الأوائل ولغاية القرن الرابع الهجري وما بعده يعتمدون على أوراق البردي للكتابة والتدوين والتسجيل اليومي، متممين بذلك ما بدأه الفراعنة في مصر من الكتابة باللغة الهيروغليفية، ثم الأقباط باللغة القبطية ثم اليونانية، ثم اليونانية مع العربية ثم العربية في نهاية المطاف.

ورأينا أن اكتشاف أوراق بردي المكتوبة باللغة العربية إنما يعود إلى الربع الأول من القرن التاسع عشر الميلادي، وقد وقعت هذه الوثائق المكتشفة في يد المستشرق الفرنسي المعروف سلفستر دي ساسي الذي اهتم بها وكتب عنها في مجلة العلماء الفرنسيين؛ مفتتحًا بذلك بداية الدراسات المتتابعة حول أوراق البردي العربية.

وفي هذا المقال نستكمل هذه السلسة لنبدأ مع اكتشاف هذه النماذج التي عكف على إعادة ترميمها وقراءتها والكتابة عنها ثلة من كبار العلماء المتخصصين في هذا الشأن.

إن أقدم أوراق البردي المكتوبة باللغة العربية، والتي وصلت إلينا تعود إلى بُعيد دخول الفاتحين المسلمين إلى مصر، وهي مؤرّخة بتاريخ جمادى الأولى سنة 22هـ، وهي كما يقرر المستشرق أدولف جروهمان:

||أقدمُ المستندات في عهد الإسلام … على أنّه مع ذلك أقدم ورقة مكتوبة باللغتين من عهد فتوح العرب لمصر، وهذا المستند محفوظ بين المجموعة المشهورة التي اقتناها من الأوراق البردية الأرشيدوق رينر في فيينا||[1]

إنّ هذا المستند المهم الذي يوجد في مجموعة الأرشيدوق راينر في فيينا كما ذكر جروهمان،يكشف العلاقة الطيبة بين المسلمين الفاتحين وأقباط مصر، والتزام كلا الطرفين بالاتفاقات المبرمة بين الجانبين وقت الفتح، وعلى رأسها تحصيل الجزية التي قرّرها المسلمون على الأقباط آنئذ، كما يكشف لنا طرفًا من فتوحات المسلمين للصعيد.

وقد كُتب هذا المستند باللغتين اليونانية والعربية كما يلي بترتيب سطوره باليونانية ما ترجمته:

||بسم الله، أنا الأمير عبد الله أكتبُ إليكما خريسطفورس وتيودوراكيوس عاملي هيراكليوبولس

لإمداد المسلمين الذين معي، أخذتُ 65 (خمسة وستين) شاة فقط في هيراكليوبولس

بلا زيادة، ولإيضاح ذلك حررتُ هذا الإقرار وكتبتُه أنا “حنّا العمدة والشماس” في 30 برمودة من السنة الأولى من البريودس الأول.

بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أخذه عبد الله

ابن جابر وجنوده من الشاء المخصصة للذبح في هيراكليوبولس. أخذناه من هذه الشاء خمسين

من نائب تيودوراكيوس الابن الثاني للأنبا كيروس ومن وكيل خريسطفورس أكبر أولاد الأنبا كيروس. ثم

خمس عشرة شاة أخرى أعطاها لتُذبح لحاشتيه في مراكبه وخيّالته والراجلين المدرّعين. تحرّر في

شهر جمادى الأولى من سنة اثنتين وعشرين. كتبه ابن حديد.||

في ظاهر أو على رأس الورقة ما ترجمته من اليونانية إلى العربية:

||إشهادٌ لوضع الشاء تحت تصرّف المهاجرين وغيرهم، عند سفرهم بالنهر إلى الوجه القبلي. وأُعطيت هذه الشاء وسُلّمت بمقتضى الحساب خصمًا من المخصّصات في المدة الأولى||

المستند باللغة العربية في ظهر المكتوب باليونانية:

||بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أخذ عبد الله

ابن جبر وأصحبه[2] من الجُزر[3] من أهنس أخذنا

من خليفة ثُدراق ابن أبو قير الأصغر ومن خليفة اصطفى ابن أبو قير الأكبر خمسين شاة

من الجُزر وخمس عشرة شاة أخرى أجزرها أصحاب سُفُنِه وكتائبه وثقلاه[4] في

شهر جمادى من سنة اثنتين وعشرين. وكتب ابن حديدو[5]||

إننا نجد في هذه الوثيقة المهمة للغاية عدة أمور:

الأول: أنها التزمت بالكتابة باللغتين اليونانية والعربية وهما اللغتان الرسميتان آنذاك، وهذا دليل على عدم إجبار المسلمين للأقباط بتعلم وقراءة اللغة العربية بالقهر، وإنما أخذت العربية مجراها حتى ألغيت كتابة البرديات باللغة اليونانية في بداية القرن الثاني للهجرة والتزمت بالعربية فقط.

الثاني: أنها وثيقة مكتوبة في صك سُلّم إلى النائبين القائمين مقام صاحب الكورة اليوناني أو البيزنطي على مدينة “إهناس” في صعيد مصر أو “هيراكليوبولس”[6] كما تذكر الوثيقة، تُقر باستلام الأمير عبد الله بن جابر 65 شاة لإطعام جنوده، وأن ما كتبه كان ضمانا لما وصله مقدمًا من وكلاء هذه المدينة في صعيد مصر، وأن تلك الدفعة المقدّمة والمستحقة لبيت المال قد ثبتت بهذا المستند، ومن ثم أصبح ما حُقّ عليهم من الخراج ملغى أداؤه في حينه.

الثالث: أنها كُتبت في وقت فتح الوجه القبلي لمصر، وبالرغم من أن هذا الفتح كان يُجابه بمقاومة عنيفة استمرت ثلاثة أشهر كما يذكر صاحب كتاب “فتوح البهنسا الغراء[7] إلا أن الأمير المسلم التزم بالاتفاق المبرم سلفًا، وبأخلاق الإسلام بكتابة صك لضمان حقهم إذا جاءوا في موعد التقديم ليُلغى من عليهم.

ويُبدي العلامة جروهمان إعجابه بهذا المستند لما سبق بيانه، ولأنه يذكر تفاصيل الجيش الإسلامي الذي كان يفتح الوجه القبلي من مصر آنذاك، فقد كان جيشًا مدرّعًا بين مشاة وركبان، بل واستعانة المسلمين بالسفن الحربية النهرية في فتح تلك الأقاليم؛ فهذا “المستند المهم جدّاً يُعيِّن لنا أولاً مكان إحدى المعارك التي حصلت أثناء فتح الوجه القبلي؛ ذلك كان عظيم القيمة لا لهذا السبب وحده، ولكن لأنه يحمل تاريخًا هجريًا استُعمل في مصر لأول مرة بعد الفتح الذي تم في سنة 16 أو سنة 17 من الهجرة في خلافة سيدنا عمر بن الخطاب”[8].

وقد يسأل سائل لماذا أخذ الأمير المسلم عبد الله بن جابر هذه الأغنام؟

والإجابة على هذا تتضح من خلال المستند ذاته؛ إذ إن الأمير في فتحه لبلاد الصعيد كان يضطر إلى الاعتماد على الإمداد الغذائي من النواحي القريبة التي ينطلق منها في فتوحه تلك، وأن هذا الإمداد الذي كان يأخذه هو مما اتّفق عليه عمرو بن العاص رضي الله عنه مع المقوقس حاكم مصر بعد الصلح الذي أُبرم بين الطرفين سنة 20هـ بعد الاستيلاء على حصن بابليون، وهذا ما يذكره المؤرخ ابن عبد الحكم المصري ضمن تلك الشروط بقوله:

||… ومن نزلَ عليه ضيف واحد من المسلمين أو أكثر من ذلك، كانت لهم ضيافة ثلاثة أيام مفترضة عليهم، وأنّ لهم أرضهم وأموالهم، لا يعرض لهم في شىء منها||[9]

وعلى الرغم من أن حق الضيافة كان مذكوراً في شروط الصلح بين الجانبين؛ إلا أن الأمير عبد الله بن جابر رحمه الله أقرّ بأن هذه الأغنام المأخوذة لم تكن على سبيل الضيافة بل هي جزء من الخراج المفروض على أهل إهناسيا، ومن ثم وجب إسقاطه عند تمام أجله، وهذا من سماحة وعدل المسلمين الفاتحين آنئذ بلا شك.

ولأجل هذه المعاملة الطيبة الحسنة التي قامت على قواعد واضحة لا حيف فيها، قَبلها المقوقس والأقباط من خلفه منذ الصلح مع عمرو بن العاص رضي الله؛ فإننا نجد الثناء من أسقف عاصر الفتح الإسلامي لمصر وكتب عنه، وهو الأسقف يوحنا النقيوسي الذي وصلنا تاريخه لمصر آنذاك من حسن حظّنا، فهو يُقرّر أن عمرو بن العاص رضي الله عنه: “أمر برفع الضرائب التي كانت مفروضة على الكنائس، ولم يأخذ شيئًا من أملاك الكنائس، كما لم يرتكب أي عمل من السلب أو النهب، بل كان يحميها خلال حكمه[10]. فإذا كانت هذه سمة الفاتح عمرو رضي الله عنه بشهادة الأقباط المعاصرين أنفسهم؛ فجنوده وأمراؤه تبعًا له في هذه الأخلاق بلا شك، وهذا ما يكشفه لنا أحد الوثائق الأقدم في تاريخ الإسلام كله، وهو مستند عبد الله بن جابر أحد أمراء المسلمين في فتحه لصعيد مصر سنة 22 هـ كما مرّ بنا.


*باحث في التاريخ والتراث

[1] جروهمان: محاضرات في أوراق البردي العربية، المحاضرة الثانية ص45.

[2] يُلاحظ حذف المسلمين الأوائل في رسمهم وكتابتهم للألف المتوسطة في بعض الكلمات بحسب ما تبينه الوثيقة. عن تطور الكتابة العربية وتدرجها انظر: محمد طاهر الكردي: تاريخ الخط العربي وآدابه ص65 وما بعده. مكتبة الهلال – القاهرة، 1939م.

[3] الجُزُر جمع جزور، وهي الناقة أو البعير المعد للذبح. انظر: الزبيدي: تاج العروس 10/ 416، 417. نشرة دار الهداية.

[4] المقصود أنه ذبح هذه الأغنام والنوق لجنوده من المسلمين بمختلف تشكيلاتهم في السفن وكتائب المشاة وحَمَلة الأثقال.

[5] جروهمان: محاضرات في أوراق البردي العربية ص45 – 47.

[6] هيراكوبوليس هو الاسم الروماني لإهناسيا المدينة، وهي تختلف عن مدينة أصغر حجمًا، وعلى مقربة منها هي إهناس الخضراء. محمد رمزي: القاموس الجغرافي للبلاد المصرية 3/ 153، 154. الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة، 1994م.

[7] فتوح البهنسا الغراء لابن المقرئ وهو منسوب للواقدي ص75 وما بعدها، يقول: “أقام المسلمون على حصار أهناس ثلاثة أشهر وهم في كل يوم يُشاغلون أهل أهناس بالقتال والأسوار منيعة، والأبواب وثيقة”.

[8] جروهمان: محاضرات في أوراق البردي العربية، المحاضرة الثالثة ص52، 53.

[9] ابن عبد الحكم: فتوح مصر والمغرب ص93. مكتبة الثقافة الدينية – القاهرة، 1415هـ.

[10] تاريخ العالم القديم ودخول العرب مصر ليوحنا النقيوسي ص233. تعليق ونشر بيشوي عبد المسيح وكيل مطرانية دمياط.


اقرأ المزيد:

من يكتب التاريخ؟

سليمان القانوني.. بين كتب التاريخ وحريم السلطان