أثار مشهد دخول التحالف الداعشي/النقشبندي مدينة الموصل – بقوة – قضية المكون الصوفي في ظاهرة العنف الراهن في المنطقة، وهكذا أثار ظهور ما يسمى «جيش الطريقة النقشبندية في العراق»، أحد الجماعات التي تحالفت مع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، إشكالية العلاقة الأزلية بين الاسم والمسمى في التصوف.

فالتصوف نسق معرفي/وجداني مغرق في القدم تفاعل مع الأديان السماوية، فضلاً عن وجوده القوى في المجتمعات التي لا تعتنق أدياناً سماوية. أول مشكلة تثار بالنسبة للتصوف مشكلة «الاسم» ومن أين يشتق، وهي مشكلة قديمة قدم الظاهرة نفسها، ومشكلة تعريف التصوف لا يكاد يخلو مرجع متخصص من آثارها وهو انعكاس لمشكلة «المسمى».[1]


رصاص الصوفية في قلب من؟

ومن الأدبيات المهمة التي تحاول معالجة هذه الإشكالية مقال للباحث العراقي الدكتور رشيد الخيون [2] عنوانه «لا تخلطوا.. الطريقة النقشبندية صوفية ليست بعثية»[3]. يقول: «ربما لا يميز كثيرون جيش رجال الطريقة النقشبندية وبين الطريقة النقشبندية الصوفية المشهورة، والتي تنتشر حيث ينتشر الإسلام، عابرة البلدان والقوميات والقبائل، لا تؤمن بالسياسة ولا الحزبية، ولا بحمل السلاح، إلا شخصيات فرضت عليها المواقف حمل السلاح خلال الثورات في الوديان والجبال كبعض من عرفوا أنفسهم بالسادات النقشبندية».

«سألت أحد رجالاتها في تكيته، وهو شيخها بمنطقة «الطويلة»، أقصى شمال شرق العراق، يتحدث عما فعلته الجماعات السلفية المتطرفة بأضرحتهم: كيف تحمون الآن أماكنكم المقدسة، وأنت تقول لا نؤمن بحمل السلاح؟ قال: عندما غزتنا تلك الجماعات، الذين يسمون أنفسهم بـ «أنصار السنة»، لم يكن لدينا سلاح ندافع به عن أنفسنا ومراقدنا، لأن شيوخنا الكبار لا يسمحون بذلك، وبعد جدل طويل سمحوا لنا بشرط الحماية فقط».

معنى ذلك أن الطريقة النقشبندية، كغيرها من الطرق الصوفية، لا تؤمن بالعنف، وليس لها في العمل السياسي الحزبي أو العمل العام كطريقة. جاء اسمها نسبة إلى لقب مؤسسها الشيخ «بهاء الدين محمد بن محمد نقشبند» (ت 791 هـ)، المولود بـ «بخارى»، وقيل كان يلقب بـ «محمد البخاري».

وحسب كتبهم، أنها طريقة قديمة تتصل بالحضرة النبوية، وأنها قبل نقشبند كان مر اسمها بعدة مراحل: الصديقية نسبة للخليفة الأول أبي بكر الصديق، والطيفورية نسبة لأبي يزيد البسطامي، والخواجكانية نسبة إلى الشيخ الغجدواني، والنقشبندية نسبة إلى بهاء الدين البخاري أو السمرقندي نقشبند. يبدو أنها لم تكن موجودة بالعراق باسم النقشبندية حتى سافر الشيخ ضياء الدين خالد الشهرزوري المعروف بمولانا خالد النقشبندي (ت 1826) إلى الهند والحجاز، وبعد عودته نشر الطريقة بالاسم هذا.

أما «جيش رجال الطريقة النقشبندية» فجماعة مسلحة، ليس لدي معلومات مؤكدة، أو موثقة، بأن عزة الدوري وراء تأسيس وقيادة هذه الجماعة، وهناك من يقول كانت لديه صلة بالطريقة القادرية العلية الكسنزانية، ولما التقيت بمشايخ من الطريقتين نفوا تلك الصلة، وقال لي شيخ كسنزاني متقدم في الطريقة: إن عزة الدوري كان يقول، عندما يُطرح مثل هذا السؤال: «شيخي عفلق وطريقتي بعثية».

عندما تسمع أناشيد جيش رجال الطريقة النقشبندية تتأكد أنها طريقة بعثية لا صوفية، فكل أناشيد حزب البعث في أيام الحروب تذاع عبر موقعها، وهي جعلت أمامها مهمة الانتقام لإعدام «صدام حسين»، لكن ما سر أن يختار البعثيون الطريقة النقشبنيدية لا غيرها اسمًا لهذه الجماعة السياسية والمسلحة؟

بينما لم يصدر بيان أو فتوى مِن شيوخ الطريقة المعتبرين لدعم هذه الجماعة، مع أن موقع «جيش رجال الطريقة النقشبندية» يتحدث في قسم العقيدة عن أصول التصوف واعتقاد الطريقة، حسب ما ورد عن «الهيئة الشرعية لجيش رجال الطريقة النقشبندية». لكنهم يقولون: «لسنا طلاب دنيا»، فإذا كان حزب يجاهد مِن أجل السلطة وتأسس لهذه الغاية لا يطلب دنيا فمَن طالب الدنيا يا ترى؟

على أية حال، لابد من التمييز بين الطريقة الصوفية، وهي تؤمن بالطريق إلى الله، عبر الذكر ومجاهدة النفس وطاعة المريد للمرشد بهذا الأمر، وبين جيش رجال الطريقة النَّقشبندية، المبنية فكرته على الانتقام والطريق إلى السلطة.


من تراث الثورية الصوفية المسلحة

شكلت الصوفية مقاومة شرسة ضد الجيوش الأوروبية في أفريقيا، منها ثورة أولاد سيدي الشيخ والطريقة التيجانية ضد الاستعمار الفرنسي في المغرب العربي، والطريقة السنوسية ضد القوات الفرنسية في وسط أفريقيا، ثم مقاومتها للقوات الإيطالية في ليبيا والطريقة المعينية بقيادة الشيخ ماء العينين مؤسس الطريقة على القوات الفرنسية والإسباني في المغرب.

ورغم أن التأثير الأكبر للنقشبندية – من ناحية التمركز الجغرافي – هو في تركيا، فإنها في الحقيقة طريقة واسعة الانتشار بشكل ربما لا تنافسه فيه طريقة صوفية أخرى في العالم. وفي جمهورية مثل داغستان، ارتكز جهاد الشعب ضد الروس على حركة سرية كانت تتم في الزوايا، و”الحضرات” الصوفية. وفي سياق الانتماء الطرائقي، الذي حلّ محل التنظيمات السياسية أو العسكرية المباشرة، كانت الطريقة النقشبندية الأهم، وهي فجرت في وجه الروس أول ثورة شعبية مسلحة بقيادة الشيخ شامل لأكثر من ثلاثين عاماً. وواصل هذا الشعب مقاومته حتى استطاع القياصرة حصد معظم شيوخ الطريقة.[4]


أخوية المصالح.. والثأر لصدام!

حسب كتابات أهل الطريقة النقشنبدية، يعود تأسيسها لـ «بهاء الدين نقشبند»، أما جيش الطريقة فيُثار جدل حول ارتباط تأسيسه بـ «عزة الدوري» وحزب البعث العراقي.

في شمال العراق كان للطريقة النقشبندية أتباع كثيرون من العرب والأكراد معًا، ولكن كان أهم خيط سياسي للحركة يتكون من العرب الذين تعاونوا بروح عملية مع الإمبراطورية العثمانية والانتداب البريطاني، وفي وقت لاحق مع مختلف الحكومات العراقية. وهذا الخيط العربي للنقشبندية العراقية قد استخدم الحركة كأخوية سياسية وتجارية لتحقيق المصالح المشتركة لأعضاء الحركة، وفي ظل النظام البعثي توّج النقشبنديون عزت إبراهيم الدوري راعياً لهم. وخلال أواخر سبعينات وثمانينات القرن الماضي انخرط الدوري بسرعة في عملية التثبيت كشيخ نقشبندي. وخلال الحرب الإيرانية العراقية وأثناء فترة الأسلمة التدريجية للنظام البعثي في التسعينيات، ضم الدوري العديد من الأسر العسكرية إلى الطريقة النقشبندية مستخدماً هذه الأخوية لتقوية ولائه الشخصي.

والطبقة النقشبندية للنظام السابق لم يكن معترفاً بها على نطاق واسع بين 2003 و2005. لكن إشارات صغيرة عن استخدام الهوية النقشبندية كمبدأ تعبوي بدأت في الظهور في 2005 بظهور كتائب تمرد في الموصل وكركوك باسم «الشيخ عبد القادر الجيلاني»، مؤسس الطريقة القادرية المرتبطة بالنقشبندية. وتزامنت أحداث لتقدم فرصة للدوري وأنصاره لتطوير حركة تمرد جمعت مزيجاً من الوطنية العراقية وحماية السنة وأفكار إسلامية تقليدية.

وظهرت حركة جيش رجال الطريقة النقشبندية رسميًا وأُعلن عن قيامها بعد إعدام صدام حسين 2006، كانت الحركة في البداية موضوعًا للتساؤل بسبب ارتباطها الواضح بالنقشبندية. وفي بداية 2007 أعلن وجوده، وفي البداية تم تسليح الحركة، وتم استقطاب نشطاء المستوى المتوسط للجيش من مجموعة مختارة من ضباط المخابرات والجيش السابقين أيام حكم البعث الذين بلغوا رتبًا عسكرية بين مقدم وعميد. وقد تم تجنيد الكوادر الأولى من نشطاء حركة جيش رجال الطريقة النقشبندية من الحرس الجمهوري ومن ضباط الاستخبارات العسكرية السابقين ممن كان أهم سابقاً ارتباطات بالنقشبندية داخل جيش صدام قبل 2003. كما أن التشكيلة القبلية لحركة جيش رجال الطريقة النقشبندية تعكس الخلفيات الاحترافية لأعضاء الحركة، حيث تشمل عدد كبير من الجُبوريين من الحويجة والشرقاط وكركوك، والعُبَيديين من رشاد وطوزخرماتو، والعزاويين من بحيرة حمرين وشمال ديالى، والحربيين من صلاح الدين.

وفي أوائل 2007 أدى نمو طموحات الدوري إلى انشقاق في «حزب البعث الجديد». وفي السنوات التالية استغلت هذه الحركة تفكك الجماعات الأخرى لكي تزيد قوتها، ومنذ 2009، اكتسبت الحركة قوة كبيرة في أبو غريب وأجزاء من الفلُّوجة وحتى ممر الرمادي. وبسبب العلاقات البعثية القديمة مع القبائل الجنوبية، كان لدى جيش النقشبندية القدرة على شن هجمات محدودة في جنوب العراق.


[1] يمكن، على سبيل المثال، الرجوع إلى: التصوف والفن من منظور فلسفة الدين – ممدوح الشيخ – مجلة المحجة – لبنان – العدد 13 – 2005. ومتاحة إليكترونياً عبر الرابط:

وكذلك:

التصوف والصوفية في الأديان (2 من 2) – عبد الرحمن الخطيب – جريدة الحياة (الطبعة السعودية) – 22 أكتوبر/تشرين الأول 2008 – رقم العدد: 16637 – ص 14.

[2] دكتور رشيد الخيون – باحث عراقي متخصص في الفلسفة الإسلامية.

[3] «لا تخلطوا.. الطريقة النقشبندية صوفيَّة ليست بعثية» – مقال الدكتور رشيد الخيون – والمقال منشور في مجلة المجلة اللندنية في: 20 يوليو/تموز 2014.

الرابط على موقع المجلة: http://www.majalla.com/arb/2014/06/article55251522).

[4] شامل بساييف: الوريث التاريخي لثورة الشيخ شامل في الداغستان – سعاد الوحيدي (باحثة من ليبيا، عضو في مجموعة الأبحاث حول الاســـلام في الصـين، مركز الدراسات الصينية، ورئيسة تحرير مجلة «دراسات شرقية» – باريس) – مقال – جريدة الحياة اللندنية – 4 سبتمبر/أيلول 1999 – رقم العدد: 13328 – ص 10.