بعد أن بات السباق محصورًا بين لوبان وماكرون، أو بين الصوت الذي يتوعد بدمٍ بارد وبهدوء أعصاب بإقصائهم، وبين الصوت المُضاد الذي يعدهم – على أقل تقدير – بالحماية من لوبان، بجانب أمور تفصيليةٍ نعرضها في خضم هذا التقرير، لم تعد رفاهية العزوف الانتخابيّ مُتاحة أمام مُسلمي فرنسا، وأصبح وقوفهم على هامش الانتخابات فعلًا انتحاريًا، وصاروا الآن – رغمًا عنهم – في قلب الانتخابات الفرنسيّة.


الرحلةُ من الهامش إلى القلب

تميّز المسلمون في فرنسا بعزوفهم عن الحياة السياسيّة وعن المشاركة فيها، ويُمكن إرجاع ذلك إلى عدة عوامل منها:

أن وجود المُسلمين في فرنسا لم يكن اختياريًا، بل جيء بهم – في النصف الثاني من القرن العشرين – ليكونوا يدًا عاملةً، تشارك في بناء شركات الصناعات الثقيلة، وتدشين الكباري والأنفاق، والقيام بالأنشطة البدنيّة المُنهكة التي غالبًا ما يأنف المواطن الفرنسيّ من القيام بها؛ ما يعني أن الجيل الأول الذي دخل فرنسا لم يكن مُتعلمًا بقدرٍ كافٍ، ومن ثم لم يكن مُستعدًا للدخول في أي مُعترك سياسي بعيد عن «لقمة العيش».

وكان المهاجرون يحرصون على الانعزال عن المُجتمع ذي الثقافة المُخالفة لهم، إلى الحد الذي دفعهم للعيش في أماكن فقيرة ومُزدحمة مُخصصة لهم، يُطلق عليها «غيتو»، يجتمع فيها أبناء الثقافة الواحدة والمهاجرين من وطن واحدٍ. ولا يُمكن بحالٍ من الأحوال التغاضي عن كون المُهاجرين كانوا يعيشون في أوطانٍ لا تعترف بهم، فلم يكن لأي منهم وزنٌ في بلده الأصلي، فكيف يُتوقع منه أن يتخيل أنّ بإمكانه المُشاركة في صناعة سياسة الدولة التي جاء إليها عاملًا!

إلا أن تتابع الأزمان، ونشأة جيلٍ بعد آخر، أدى إلى تلاشي تلك العوائق شيئًا فشيئًا، فأبناء هؤلاء العمال قد ولدوا وعاشوا في فرنسا، وتعلموا لغتها، وخالطوا أهلها، فلم يعد هناك ما يجعلهم مُختلفين عن المواطنين الأصليّين سوى الجذور التاريخيّة، والتقاليد الإسلامية، وبدأت تلك الأجيال تحاول شق طريقها في الحياة السياسيّة الفرنسيّة، إلا أنّهم اصطدموا بخطابات الكراهية، وخاصةً بعد الحرب على الإرهاب التي تبعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، بجانب التشويه المُستمر من اليمين المُتطرف، والذي يزداد مع كل هجمة يقوم بها متشددون في فرنسا، كحادثة «شارلي إيبدو» مثلًا.

وجاء وصول لوبان وماكرون إلى الجولة الثانية من الانتخابات ليضع المُسلمين في قلب الانتخابات الفرنسيّة، فدورهم الآن يبدو محوريًا بشدة، خاصةً أنّهم كتلة تصويتيّة لا يُستهان بها.


«الإسلام في فرنسا»

يبلغ عدد المُسلمين في فرنسا حوالي 5 إلى 6 ملايين، بما يُعادل 8% من إجماليّ السكان، وتلك الأرقام لم تُحدث رسميًا منذ العام 2003، حين أعلنها نيكولا ساركوزي، وكان وزير الداخلية آنذاك، حيث يمنع القانون الفرنسي منعًا مطلقًا القيام بأيّ تعداد للسكان وفقًا لانتماءاتهم العرقية، أو الدينية، أو مذاهبهم الفلسفية، أو اتجاهاتهم السياسية، ولهذا لا تملك أي جهة إحصائيات رسميّة بهذا الصدد، إلا أنّه يتوقع وصولهم حاليًا إلى 10% من سكان البلاد.

وطبقًا لأحدث الإحصاءات التي أعدتها وزارة الداخلية، فقد صعد الإسلام ليصبح الدين الثاني في الدولة، وأشارت إلى أن أكثر من 3600 فرنسي يعتنقون الإسلام سنويًا، ويُتوقع أن يُمثل المسلمون ربع سكان فرنسا بحلول 2025.

وتوجد عدة هيئات تُمثل المُسلمين هناك، من أهمها:

المعهد الإسلامي ومسجد باريس الكبير، المُؤسس عام 1926، ولكن مع بداية التسعينيّات ضعف إشعاعه، فحلت محله هيئات أخرى، ولكنّه بقي حتى يومنا هذا مُمثلًا للإسلام الحضاريّ المُعتدل، ولازال له صيتٌ وقدرةٌ واسعةٌ على التأثير في مُسلمي فرنسا.

وهناك اتحاد المنظمات الإسلامية (UOIF)، وهو اتحادٌ يُحسب على الإخوان المُسلمين، إلا أنّه أعلن انفصاله عنهم في بدايات العام الجاريّ.

اقرأ أيضًا:تداعي الإخوان: ماذا بعد انفصال اتحاد المنظمات الإسلامية

أمّا التمثيل الرسميّ للإسلام فيشهد خللًا كبيرًا، فنظرًا لكون فرنسا دولة علمانية فلا يحق لها التدخل فيما يخص أي دين، ولو حتى بتنظيمه من أجل تسهيل التواصل الحكومي مع أتباع هذا الدين، ولكنّ ما حدث أن التمثيل الرسميّ للإسلام مر بعدة مراحل.

أولها قيام بيار جوكس، وزير الداخلية آنذاك، بتأسيس مجلس استشاريّ (CORIF) يضمّ خمسة عشر عضوًا من بين مديري المساجد الكبرى وشخصيات إسلامية مرموقة. لكنّ خليفته شارل باسكوا تخلّى عن هذا المجلس الاستشاري واعتمد كليًا على المعهد الإسلامي ومسجد باريس، لإنجاز ما يُسمى «إسلام فرنسا»، وهذا ما لم يُعجب الوزير التالي جان لويس دوبري، إذ فضل استدعاء عشرة شخصيات متعددة الرؤى، وبعد وصول اليسار إلى الحكم قام الوزير جون بيير شوفينيمان بعدة مُشاورات أسفرت في عهد الوزير نيكولا ساركوزي على تأسيس هيكل رسمي، وهو ما يعرف اليوم بالمجلس الفرنسي للديانة الإسلامية (CFCM)، ثم في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2016 أعلنت وزارة الداخلية الفرنسية أن مؤسسة الإسلام في فرنسا قد بدأت عملها رسميًا اليوم الخميس، حيث عقدت أول اجتماع لها برئاسة جون بيير شوفينيمان، رئيس المؤسسة ووزير الداخلية السابق ذكرُه.


مسلمو فرنسا وانتخابات 2017

الجولة الأولى: صمتٌ رسميّ، وتشرذمٌ للناخبين

في الجولة الأولى لم يصدر أي بيانٍ رسمي عن أيّ جهة تُمثل الإسلام هناك، وتُرك الأمر للمواطنين؛ نظرًا لاعتقاد الهيئات الإسلاميّة أن المُنافسة كانت محصورةً بين لوبان وفرنسوا فيون، وهما خياران كلاهما مرٌ فيما يتعلق بالنظرة إلى الإسلام، وشيطنّة المُسلمين، فأدى ذلك إلى تشرذم أصوات المٌسلمين؛ فوفقًا لاستطلاع مركز إيفوب فيديوسيال حصل مرشح فرنسا المتمردة على أكبر عدد من أصوات المسلمين في الجولة الأولى 37%، وحصل ماكرون على 24%، وفرانسوا فيون على 10%، فيما حصلت لوبان على 5% فقط منها.

الجولة الثانية: حشدٌ واستنفارٌ

لم تكد نتائج الجولة الأولى تتضح إلا وقد هبّت الهيئات الإسلامية كافةً تدعو إلى ضرورة التكاتف لعرقلة وصول لوبان إلى السلطة، منها ما جاء صريحًا لا مُواربة فيه، مثل ما أعلنه دليل بوبكر مسئول مسجد باريس، في بيان يوم الاثنين 27 من أبريل/نيسان 2017: «إن (التصويت بكثافة) للمرشح الوسطي ماكرون يُعدّ أمرًا حاسمًا بالنسبة لمصير فرنسا ولأقلياتها الدينية»، وأردف مُؤكدًا ضرورة تصدي المواطنين لليمين المُتطرف وأفكاره المعادية للأجانب في البلاد.

ومنها أيضًا اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا (UOIF) الذي دعا مسلمي فرنسا، بجميع ميولهم السياسية، إلى عدم التراخي في الجولة الثانية والتصويت بأغلبية ساحقة للمرشح إيمانويل ماكرون كي يفوز بأكبر نتيجة، وتجدر الإشارة إلى أنّ الاتحاد سيغير اسمه إلى «مسلمو فرنسا» خلال جمعية عامة ستعقد في 13 أيار/مايو المقبل، أي بعد نحو أسبوع من الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية. وردّت لوبان على تلك الدعاوى بقولها: «إن الاتحاد قريبٌ من الإخوان المُسلمين، الجماعة الإرهابية».

أما المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية (CFCM) فقد ابتعد عن تسمية أحد المُرشحيّن، لكونه مؤسسة رسمية، ومع ذلك، دعا مسلمي فرنسا إلى «الاستنفار من أجل الانتصار قيم الانفتاح والأخوة والتضامن»، وأكد – دون أن يذكر اسم لوبان – أنّه من الواجب أن نبقى متحدين ومحتشدين لمواجهة نهج الإقصاء والكراهية، فضلًا عن الميول الملّغمة والموصومة التي تهدد التماسك الوطني والعيش المشترك. ثم ذكر اسم ماكرون وامتدح التزامه بالعلمانية. وللتوضيح فإنّالعلمانيّة الفرنسيّة لا تعني مُناهضة أي دينٍ، بل تعني الحريّة في الاعتقاد أو عدم الاعتقاد.


الإسلام والمُسلمون بين ماكرون ولوبان

إذا عدنا إلى برنامج ماكرون المنشور على الموقع الرسمي لحركته، فسنجده يوضح أن الإسلام لا يطرح أي إشكال في فرنسا، شأنه في ذلك شأن بقية الديانات، بل إن مكانته باعتباره ثاني الأديان في البلاد لا تستدعي مراجعة قانون الفصل بين الدين والسياسة الصادر عام 1905، والذي وضع أسس العلمانية في فرنسا الحديثة.

ويتلخص برنامج ماكرون فيما يتعلق بالإسلام في ثلاث نقاطٍ رئيسيّة:

1. الحرية هي القاعدة والحظر استثناء

يرى ماكرون أنّ هناك خلطًا بين مفهوم العلمانية وبين حظر المظاهر الدينيّة، وأنّه سيعمل على توضيح الخلط حال وصوله إلى الحكم، وتعهد أيضًا بضمان الحرية الدينية في الأماكن العامة، معارضًا حظر ارتداء الرموز الدينية في الجامعة – كما ترغب لوبان – وحجتُه أن طلبة الجامعات واعون بما فيه الكفاية لتحديد توجهاتهم الدينية.

2. هيكلة الإسلام

حيث يقترح ماكرون مزيدًا من السعي للوصول إلى هيكلة أكبر للإسلام، ما يحفظ «قيم هذا الدين من التلاعب، ويحول دون مزيدٍ من التطرف». وندّد ماكرون بتدخل الدولة في تنظيم الدين الإسلامي في بلاده، واصفا إياه بـالعشوائي والمتناقض.

كما ذكرنا فقد أنشأت الحكومة الفرنسية في عام 2016 مؤسسة الإسلام بفرنسا، إلا أنّه بموجب قانون عام 1905 للفصل بين الدين والسياسة، لم تسند إليها سوى المشاريع ذات الطابع الاجتماعي والثقافي العامة مع إقصاء للمسائل الثقافية الجوهرية، بالإضافة إلى تعيين (جون بيير شوفينيمان) غير المُسلم ابتداءً، والمعروف بميوله القوميّة والأمنيّة الصارمة.

3. إعداد الأئمة

يقترح ماكرون إنشاء مؤسسة جديدة تنظر في أبرز المسائل المُتعلقة بالإسلام في فرنسا، ومن تلك المسائل بناء وتحسين أماكن العبادة، إضافة إلى تكوين وإعداد الأئمة. كما يقترح إنشاء اتحاد فرنسي يجمع المنظمات الثقافية المحلية التي وقع تأسيسها في الإطار المحدد من قبل قانون 1905، حتى تسمح بممارسة الدين في ظروفٍ لائقة، وأشار إلى أن تلك المُنظمات ستعمل من خلال التبرعات على توفير التمويلات اللازمة لتجديد وبناء المساجد وتكوين الأئمة، ويتطلع ماكرون من ذلك إلى تشجيع انخراط الأجيال الجديدة من مسلمي فرنسا، في إدارة الإسلام في هذا البلد.

لوبان: الكارهة إلى حد التضحية بالكتلة الإسلامية

لم تُهدئ لوبان يومًا من حدة كلامها بخصوص الإسلام والمُسلمين، ولو حتى من باب الاستعطاف والتلاعب بالناخبين، إنّما هى باقيةٌ على صلابة موقفها منذ اليوم الأول، فالمسلمون خطرٌ مساوٍ لخطر اللاجئين، وشبهت صلاة المُسلمين في شوارع فرنسا في أيام الجُمعة وفي الأعياد بالاحتلال.

حيث قالت في تجمع حاشد في ليون عام 2010: «أنا آسفة، لكن بخصوص من يحبون الحديث عن الحرب العالمية الثانية وإذا كنا نتحدث عن الاحتلال، فبإمكاننا أن نتحدث عن هذا (الصلاة في الشوارع)، لأن هذا احتلال واضح للأرض»، وأردفت: «هذا احتلالٌ حتى ولو لم يكن هناك دبابات ولا جنود، لكنه احتلالٌ ويؤثر على الناس».

بل تعود بعض تصريحاتها إلى يونيو/حزيران 2014، حيث قالت خلال مقابلةٍ أجرتها: «لن أتوقف عن التأكيد لليهود الفرنسيين أنَّ الجبهة الوطنية ليست عدوكم؛ بل هي أفضل درع لحماية مصالحكم. نحن نقف إلى جانبكم دفاعًا عن حرياتنا في التعبير واعتناق الأديان في وجه العدو الحقيقي الأوحد؛ الأصولية الإسلامية».

وتعد لوبان بتجميد جميع مشاريع بناء المساجد في فرنسا حتى التحقق من مصادر تمويلها، وتوسيع قانون منع ارتداء الرموز الدينية في المدارس ليشمل الأماكن العامة، ومنع الحجاب وليس النقاب أو البرقع، فقط. كما تعد أيضًا بمنع ذبح الحيوانات وفق الشريعة الإسلامية، وبيع اللحم أو تقديمه في المطاعم على أنه «حلال».


تصريحات زيدان

بعد انتهاء مباراة فريقه ريال مدريد مع فالنسيا قال زيدان: «الرسالة، هي دائمًا ذاتها، كما أعلنتها في 2002 أنا بعيد كل البُعد عن هذه الأفكار الخاصة بالجبهة الوطنية». يُشير زيدان لرسالته حين وصل جان ماري والد لوبان إلى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسيّة، حيث قال: «الجبهة الوطنية حزبٌ لا يتوافق إطلاقًا مع القيم الفرنسية».

تمثل تصريحات زيدان نوعًا آخر من المُعارضين، فهو لا يُمكن حسابه على أي جهةٍ إسلاميةٍ من الجهات التي ذُكرت سابقًا، لكنّ يُمكن القول إنّه يمثل الجانب العلمانيّ من المُهاجرين، ما يُرجح كِفة أن تذهب كامل الكتلة التصويتيّة الإسلامية لماكرون، سواء المُتدينون الراغبون في الحفاظ على شعائرهم الدينيّة، أو غير المُتدينين الراغبين في الحفاظ على وجودهم في بلدٍ لم يعرفوا غيره، ولا يريدون أن يُحاسبوا بناءً على أصولٍ صارت بالنسبة لمُعظم الأجيال الحالية في فرنسا تاريخًا.