لا يزال الأدب أحد أهم وسائل التوثيق التاريخي لقلب المجتمع النابض بالحركة والتغيّرات والحياة، ولعل الرواية الحديثة منذ فترة طويلة قد أخذت على عاتقها هم رواية التاريخ الشعبي، إذا صحّ لنا أن نسميه كذلك، ذلك التاريخ المسكوت عنه دومًا أو الذي يغيب بين صفحات الأحداث السياسية الكبرى.

ولعل ما قدمته «داليا أمين أصلان» في روايتها الأولى «المختلط» هو خير مثال لتلك الروايات التي تستقي من تاريخ مدينة المنصورة (التي تبدو كغيرها من المدن المصرية العريقة عامرة بالحكايات) أطرافًا عديدة، تروي من خلالها حكاية عائلة سكنت مكانًا محددًا هناك هو «شارع المختلط»، الذي تبدأ فيه الراوية بترميم إحدى عمارات هذا الشارع فيستدعي ذلك بالضرورة ترميمًا موازيًا لحكايات ذلك المكان في تجربة سردية لافتة.

جاء اسم «المختلط» في الأصل من وجود تلك المحكمة التي تفصل في أمور «الأجانب»، وبالتالي خصصت هذه الأرض للأجانب المقيمين في هذا الحي، حيث تعود الرواية لمنصورة ومصر أيام الاحتلال منذ عام 1920، وتقدم رؤية بانورامية واسعة لأحوال الناس وعلاقاتهم منذ ذلك الزمن البعيد، بالخواجات الذين كانوا يعيشون حياتهم هناك، ويتزوجون من أبناء البلد، وتأتي حكاية الجدة «ود» كواسطة عقد لحكايات تلك المنطقة والعمارة، فهي التي تعرّف حفيدتها على أطرافٍ عديدة وشخصيات تتشابك مصائرهم معها ومع أقاربها، حتى ترسم صورة الرواية كلها.

تقوم الرواية في بنائها على عدد من الفصول التي تحمل أسماء شخصيات عدد من أبطال العمل، ولكن حكاياتهم ترد كلها من خلال الراوية العليمة، التي نتعرّف من خلالها على «أحمد جلالة» الجد الأكبر، أول من اختار هذا المكان لإقامة البيت والحياة فيه، وكيف كانت مغامرته الثرية والمرهقة مع «الخواجة إيفان».

كما نتعرّف على الأبناء «مصطفى» وزوجته السكندرية «ود»، و«حسن حافظ» و«سجايا» وغيرهم، يتوازى مع ذلك تركيزها على وصف الأماكن واختيارها أسماءً لبعض الفصول مثل «الحسينية»، و«سوق الخواجات»، و«سكة سندوب» وغيرها، وهي بذلك توظف تلك العناوين ببساطة للتركيز على الجانب الذي تود لفت الانتباه إليه إما بالأشخاص أو بتلك الأماكن التي يأتي وصفها دقيقًا وفارقًا.

ثمّة حكاية صغيرة تنمو بإشارات بسيطة ثم لا تلبث أن تغدو محورًا هامًا في الرواية، لا شك أنها تستوقف القارئ كثيرًا؛ ذلك أنها لشخصية غير اعتيادية تحمل همًا خاصًا وجزءًا من ذلك «الاختلاط» الذي حدث في الحي والمكان، حكاية «فهمي» الذي يحمل أصولًا أجنبية، ويعيش في الشارع ويعرف الناس عنه ذلك، ولكنه يصبح جزءًا من عائلة «سلطان» المصرية الذي أشفق عليه وجعله يعيش معه، ولكن ذلك لا يدوم طويلاً!.

لم تكن المشكلة في استخراج أوراق شخصية لفهمي روتينية؛ حيث إن الدولة الجديدة رحبت بتدوين ساقطي القيد في كل وقت، وحثت المواطنين على ذلك، كما أن المشكلة لم تكن عمره، التسنين ليس بدعة ذلك العقد.. أيضًا لم تكن المشكلة في اسمه، فقد عُرف بين الناس بفهمي وقضي الأمر، .. إنما هل يريد فهمي أن يكون مواطنًا مصريًا؟، وما ديانته؟. «مسلم وخلاص، هوا يوم الآخرة فيه أحسن من شفاعة النبي؟». هكذا قال سلطان، وقد عاد يطمع في تزويج قمرية لفهمي بعد موت زوجها. .. كان فهمي يريد أن يعيش في سلام بغير كراهيةٍ أو نزاع، صور الحرب في أوروبا لا زالت تسكنه، هو يعلم معنى العنصرية من قبل أن يتعلّم الكلام.

لعل أجمل ما في الرواية هو تلك الحكايات الإنسانية المتشابكة الغريبة التي ربطت سكان المكان بعضهم البعض، تلك الحكايات التي استطاعت الكاتبة أن تسردها بلغة شيقة وعذبة، وأن تطرح من خلالها في الوقت نفسه عددًا من الأسئلة الهامة والكبرى المتعلقة بالدين والهوية (ألا يمكن للمرء أن يعبد الله ببساطة؟، بدون كل هذا التعقيد؟). مثلاً، أو البحث عن الجذور والأصول، عن طريقة تعامل الناس مع المختلف عنهم قديمًا كيف كانت، وما الذي يجري للناس في هذه الأيام، وكيف يتغيرون وتتحوّل حياتهم.

والقارئ الذي يبحر في حكايات الرواية التي تدور في نحو مائة عام، يكتشف في النهاية أنه قرأ التاريخ كله تقريبًا، ولكن من حكاية أفراده العاديين، وأضاف إلى ذلك تلك البصمة الشعبية المميزة، وذلك المكان الخاص بكل عبقه وتاريخه.

لا تتوقف الرواية كثيرًا عند شخصياتها المتشعبة التي تتزايد باطراد أثناء القراءة، بل تعمل على تحويل كل هؤلاء الأشخاص إلى ملامح وعلامات بارزة تزيّن لوحة المكان الأصلية التي لا زالت الرواية تسعى في ترميمه والكشف عنه، لهذا فلا عجب أن تختفي بعض الشخصيات لتحل محلها شخصيات أخرى، وعلاقات تبنى لتقوم علاقات أخرى، ورغم ذلك تجيد الكاتبة رصد تلك العلاقات وحكايتها بتفاصيلها المعقدة، حتى تضع القارئ في قلب ذلك العالم.

في الصباح وجدها صبوحة مغتسلة، أخذت الفطور من أمها وأيقظته، أكلا ووقف بجوار الخزانة، عند أعرض جدار في الغرفة، نادى زوجته وأبعد الخزانة والجدار، وضع يدها في جيبٍ خفيٍ في القفطان القديم المعلّق بشماعة سلك خلف الخزانة، ثم سحبها ثم وضعها في نفس المسلك حتى عرفت المكان بالتحديد، ثم قال؛ «كل ما توصل فلوس الجيب ده لخمسة جنيه نروح نحطهم عند الست أم صلاح.. إحنا مش هنفضل كده كتير». اندهشت قمرية وبقيت صامتة، لكن عيونها ضحكت في النهاية.

تأتي الأحداث السياسية والتاريخية الكبرى كخلفية عامة للأحداث الأخرى التي تدور في الرواية، فنجد إشاراتٍ واضحة للحرب العالمية، كما نعبر على ثورة يوليو/تموز 1952، حتى نصل في الرواية إلى قرار تأميم قناة السويس 1956 وكيف أثّرت وتؤثر على الناس في المنصورة بعيدًا عن أماكن صنع القرار.

واستطاعت أن ترصد اختلاف وجهات النظر الكبيرة بين الجد «مصطفى» الذي كان يرى «عبد الناصر» حاكمًا غبيًا «ضيّع غزة والسودان واليمن والحجاز»، وبين العم «صلاح» الذي كان يتحاكى بسيرته في «عصر مبارك»، ويقول عنه إنه «زعيم نضيف، محترم، ماجابتوش ولاّدة، كفاية إنه ميت ماسابش لولاده غير معاشه».

ولكن السياسة والسياسيين لا يأخذون من الرواية إلا تلك الإشارات العابرة شديدة الواقعية، التي تعكس وتصف بدقة شديدة كيف يتعامل هؤلاء البسطاء مع الحكام أو الأحداث الكبرى، وهي في الوقت نفسه تركز وتبرز التاريخ الشعبي لتلك البلاد، ولهؤلاء البسطاء الذين تمكنوا من أن يعيشوا حياتهم وفقًا لظروف معيشتهم الصعبة.

وهكذا تنجح الروائية «داليا أصلان» في باكورة أعمالها الروائية في لفت الانتباه إلى مقدرتها السردية العالية، وجذب القارئ إلى عالمها الخاص عبر روايتها «المختلط» التي يكتشف القارئ في نهايتها أن لها تكملة أخرى، وأن الحكاية لم تنتهِ بعد.