لقد تبين مع «الغزالي»، ومن بعده عند «كانط»، كما يقول «إقبال»:

عجز الاتجاه العقلي عن حل المسألة الميتافيزيقية، ونتيجة لذلك ظهرت عدة اتجاهات معرفية لملأ الفراغ، وهي الاتجاهات التي تتبني مواقف مختلفة؛ فانتهى الأمر بالغزالي ورفاقه إلى تبني المعرفة الصوفية، وانتهى الأمر بكانط إلى الاكتفاء بتحديد معطيات الحس والتجربة العملية بواسطة العقل النظري، دون إعطاء حل حاسم لمشكلة المعرفة والوجود، وانتهي الأمر عند البعض الآخر إلى حالة الشك واللاأدرية. وعند آخرين إلى الرهان على ظواهر العالم المادي الحسي، وإقصاء الميتافيزيقيا من مجال البحث الفلسفي والعلمي.

والدلالة في ذلك هي على أن عجز العقل عن معرفة الحقائق النهائية يرجع إلى أن العقل لا ينتج يقينا، بل ينتج احتمالا. فالعقل لا يحسم التناقض بين الآراء العقلية المتناقضة، بل إن الدليل العقلي يمكن هدمه بدليل عقلي آخر معارض له، باعتبار أن قوة الفاعلية العقلية جزء من الإنسان المخلوق المحدث فهي محدثة مثله، كما أن هذا المحدث خاضع لشروط الزمان والمكان والكيف والأين والوضع ونحو ذلك، وبالنتيجة فإن العقل الإنساني مخلوق، وبالتالي فهو لا يحيط بالخالق.

والحق أن الموقف القائل بنقد العقل النظري، وعدم قدرته على حل مشكلة الوجود حلا حاسما، يترك فراغا معرفيا لم تملأه الاتجاهات السابقة الشكلية، أو المادية، أو الصوفية، وتظل التساؤلات الوجودية بلا إجابات شافية، وتكون الحاجة بالتالي إلى وسيلة أسمى يستطيع الإنسان بواسطتها الكشف عن حقائق الوجود، التي تخفى على العلم وعلى العقل؛ هذه الواسطة هي وحي الله تعالى ورسالاته إلى البشر على مدار التاريخ. فإذا طال الشك العقل والحس في معرفة عالم الغيب باعتبار أن الله تعالي مثلا -الذي هو أسمى الموجودات- لا يخضع لمنطق العقل المحدث، وبالنتيجة الوقوع في الأخطاء المعرفية الضخمة التي وقعت وتقع فيها الاتجاهات والفلسفات المختلفة.

ولذلك فما من سبيل لمعرفة عناصر الوجود إلا بواسطة معرفية متجاوزة ومستوعبة للعقل والحواس هي؛ كلام البارئ نفسه في تفسر ظواهر الوجود، باعتبار أن وحيه هو الوسيط الذي يعرف به الإنسان الحقيقة النهائية للوجود والتي تشكل رؤيته للعالم، خلافا لمعارف الحواس والعقل والقلب الوجدانية، وليس معنى هذا إلغاء وظائف الحواس والعقل في المعرفة، لا، ولكن يعني العمل علي هداية الحواس والعقل والقلب بهدي الوحي، مما يقترب بالإنسان من إدراك الحقيقة الكونية النهائية.

تلك الحقيقة التى تتم بواسطة تأويل الوحي الإلهي نفسه، والتي يتم الإعلان عنها على سبيل اليقين يوم الكشف الأكبر، يقول تعالى: «هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ» [الأعراف: 53]، ويقول: «لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» [ق: 22]، ويقول: «وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً» [الكهف: 85].

إن عجز العقل والحواس عن إدراك الحقيقة يترك فراغا معرفيا ﻻ يملؤه إﻻ الوحي الإلهي

والواقع أن الأمر كذلك؛ فالمعرفة عن طريقة التفسير الإلهي للوجود، فيه وسيط متعال على إدراك الحواس وعلى إدراك العقل الذي يعتمد على معطيات تلك الحواس. إن عجز العقل والحواس عن إدراك الحقيقة الكلية، يترك فراغا معرفيا لا يملأه إلا الوحي الإلهي المنزل منه تعالى، في حين يستطيع العقل إدراك هذه المعرفة الوحيية، تأويلا واستهداء بدلالتها وتجريبها في كتاب الله المنصوب.

إن الاستعانة بالمعرفة المنزلة هو استعانة بمعرفة غير مختلفة على نفسها، كما هو الحال بالنسبة لمعارف العقل والحواس والتجربة، يقول تعالى: “أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا” [النساء: 82]، ولا يبقى بعدئذ سوى تأسيس بمنهج تأويلي للعلوم الواردة فيه، تؤسس السياقات القرآنية ذاتها، ومقصود الكلام، حتى لا يقع الفقيه في التخمين والتوهم، فيدخل الآراء الفردية الذاتية، بمعنى أن المعرفة تؤسس على أساس دلالة الوحي، وهي الدلالة العقلية المستخرجة منه، ومن فقه الواقع والحوادث.

فالعقل والحواس، وبالاعتماد على دلالة الوحي، أدوات تحصيل معرفة علمية يقينية، فيما يتعلق بعالم الحوادث المحسوسة، أما القضايا الماورائية فسبيلها الوحي الخبري وحده، أعني قضايا الوجود الإلهي، فالوحي هو الذي يطلعنا على القضايا الغيبية، ومعرفته حجة علي ذلك المادي المنكر للغيب جملة، وعلي ذلك الشاك، أو علي ذلك المؤمن أصلا، أو علي ذلك المتأله الذي يحاول إثبات وجود الله تعالى بالأدلة العقلية.

وعلى هذا فالتعرف على البارئ تعالى لا يكون إلا من البارئ نفسه هو كلامه المنزل تعالى؛ ولما كان هذا الكلام ليس من إنشاء البشر ولا من تعليم الخلائق وإنما هو من البارئ تعالى دل عليه بنعمة منه على المخلوق. هذا فضلا على إن الحواس وهي مصادر المعرفة الأولية فإنها تدرك المحسوسات لا غير، أما الذات الإلهية واليوم الأخر وسائر الغيبيات فهي غير محسوسة، فمن أين للعقل أن يدركها وهي لا تحس، وهو لا يجرد مقولاته إلا بالاعتماد على المحسوس وعلى الحواس التي هي وسائل المعرفة عند البشر.

كما أن العقل جزء من الإنسان المخلوق المحدث، وهو محدث مثله، كما أن هذا المحدث خاضع لشروط الزمان والمكان والكيف والأين والوضع ونحو ذلك، وبالنتيجة فإن العقل الإنساني مخلوق، وبالتالي فهو لا يحيط بالخالق.

وعلى هذا فإن موقف البحث قائم على نقد العقل والحس ليستند على الوحي الإلهي المنزل، مما لا يترك منطقة فراغ معرفي -كما تقدم القول- فضلا على أنه يوفر حرية عالية في تأويل دلالات ذلك الكلام، توجه الموقف المعرفي للإنسان في سعيه للاقتراب من الحقيقة الكاملة. كيف وهو الكلام الذي ثبت عقلا أنه نازل من عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال، فكيف تكون المعجزة القرآنية مدخلا متماسكا لتفسير الوجود وبناء المعرفة الإنسانية عن العالم، وقبل هذا وذاك دليل على إثبات وجود الله؟

والمعنى أن الحجة الكلامية التي نقول بها، تحل المشكلات الإنسانية والغيبية والتعبدية والشعائرية والوجدانية والجمالية، كما تحل الاهتمامات العلمية الواقعية التجريبية والقضايا الدينية الأخلاقية والاجتماعية…إلخ. ولهذا فان موقفنا قائم على نقد العقل النظري وإمكاناته، وإمكانيات الحواس والحدس، ليستند العقل النظري على دلالة الوحي الإلهي المنزل، فيصل إلى اليقين في قضاياه المختلفة، الأمر الذي لا يترك فراغا معرفيا كما تقدم القول، فضلا على أنه يوفر درجة ثقة عالية بالمعرفة المستفادة، كونها معرفة مستخرجة من وحي معصوم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه يقول تعالي:

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ
[فصلت: 41، 42]

في تأويل دلالات ذلك الكلام يتوجه في سياقها الموقف المعرفي للإنسان في سعيه للاقتراب من الحقيقة الكاملة، وهو الكلام الذي ثبت عقلا أنه نازل من عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال.

وفي ذلك فإن هذا الموقف المعرفي الذي نتبناه، ليس موقفا سلبيا ظاهريا، يتمسك فحسب بظاهر الخطاب، ولا هو بموقف الصوفي المتأول الذي يضمن قضاياه ومعانيه الباطنية لدلاله الخطاب الإلهي تضمينا مسبقا، بل هو موقف توحيدي يجمع بين الظاهر والباطن ويوحد بينهما، وفق منهج التأويل الملتزم بالقرائن اللفظية والسياقات العامة والمقصود من الدلالة المعينة، وبالتالي فهو موقف يثبت صوابا وببطل خطأ، ويؤسس علما.

ويظهر أن المتصوفة كانت أكثر الاتجاهات في الثقافة الانسانية، إحساسا بالمشكل المعرفي واللغوي، دون غيرها من الفرق والمذاهب الإسلامية، إلا أنها لم تقدم لها الحل المناسب، فيما يتعلق بالموقف من جوهر التوحيد وفقه الوحي، ذلك أن العقل في أبهى تجلياته لا ينتج إلا صورا محدثة ظنية لا تمثل وحدانية الخالق تعالى، ولا سبيل لذلك إلا بعلم ينزل إنزالا من الله تعالى إلى الإنسان، يدرك من خلاله هذا الأخير وحدانية الله وأسماءه الأسمى، فمن كلام البارئ يعرف الإنسان معنى التوحيد بالعمل والمعرفة، وليس ذلك عن طريق المكاشفة التي تلغي أصالة المسافة بين الله والإنسان المخلوق المحدث كما زعمت المتصوفة.

من ذلك يمكن تقرير الخلاصات التالية، وهي أن عجز العقل عن معرفة الحقائق المطلقة يرجع إلى الآتي:

أولا: إن الحواس وهي مصادر المعرفة العقلية تدرك المحسوسات، أما الذات الإلهية، واليوم الآخر، وسائر الغيبيات فهي غير محسوسة، فمن أين للعقل أن يدركها وهي لا تحس، وهو لا يجرد مقولاته إلا بالاعتماد على المحسوس وعلى الحواس التي هي وسائل المعرفة عند البشر.

ثانيا: أن العقل لا ينتج يقينا مطلقا، بل ينتج ظنا واحتمالا، ودليل ذلك أن العقل لا يحسم التناقض بين الآراء العقلية المتناقضة، فالدليل العقلي يمكن هدمه بدليل عقلي آخر معارض له.

ثالثا: أن العقل جزء من الإنسان المخلوق المحدث، وهو محدث مثله. كما أن هذا المحدث خاضع لشروط الزمان، والمكان، والكيف، والأين، والوضع، ونحو ذلك، وبالنتيجة فإن العقل الإنساني مخلوق، وبالتالي فهو لا يحيط بالخالق، وعلى هذا فالتعرف على البارئ تعالى، لا يكون إلا بواسطة من البارئ نفسه هو كلامه المنزل تعالى، ولما كان هذا الكلام ليس من إنشاء البشر ولا من تعليم المخلوق. والتي يمكن صياغتها بالقول: إن الكلام المعجز، يدل على وجود الذي فعل الإعجاز، وهو الله تعالى.

والمعني أن إدراك البارئ تعالى، وبالتالي إدراك الوحيد، لا يكون إلا باتباع واسطة تربط بين البارئ والمخلوق، هي هنا الوحي القرآني، فيها يعرف الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد وتعرف أسماؤه السامية وشرائعه الباقية وتكاليفه المنزلة، إنه ما من سبيل للتوحيد الحق إلا بإتباع دلالات الكلام الأزلي الإلهي المنزل تنزيلا من البارئ، المتبع بالأرواح والمؤول بالعقل والمفسر للوجود والمنشي للمعرفة اليقينية الصادقة، يقول تعالى:

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ
[ق: 37].

وعلى هذا فان إدراك التوحيد وإدراك العالم الخارجي المحسوس يكون بتأويل آيات الكلام الأزلي، وأدلته في ذلك هو العقل الذي محله القلب، معنى هذا أن القلب السليم المهتدي بدلالات الكلام الإلهي يدرك ويفقه من التوحيد ومن الحقيقة الوجودية الموضوعة ما يعجز عنه بالاعتماد على الحواس والعقل، كما عند الفلاسفة وأهل الكلام من جهة، وما يعجز عنه بإهمال الحواس والعقل كما عند المتصوفة، من الجهة الأخرى.

هذه الحجة التي نسميها بـ«الحجة الكلامية»، تحافظ في آن على جوهر ما نادي به الفلاسفة وأهل الكلام، أي بالاعتماد على العقل في التوحيد، وهو هنا العقل المهتدي بالوحي، كما تحافظ على جوهر الفكرة الصوفية في التوحيد والمتمثلة في أهمية الاتصال بالبارئ تعالى، وهو ما يتم هنا بواسطة الوحي القرآني المنزل من البارئ للمخلوق.

وليس هنا ثمة دافع توفيقي يفرض هذه الحجة، وإنما لإدراكنا أن وراء إدراك العقل حاكم آخر، وقد تجلي كذب العقل وتناقضه في أحكامه، وليس معنى ذلك اغتياله، أي اغتيال العقل، بل إسناده بحاكم آخر هو الوحي المنزل، ينفتح به علم مطلق يعرف به الغيب والتوحيد، وما سيكون في المستقبل وأمور أخر، العقل والحواس معزولان عنها من دون الوحي المنزل.

فالعقل على هذا بمعناه الإيجابي، هو أداة التأويل للكلام الأزلي ومن ثم تحقيه وتصديقه في الواقع المشاهد بالتجربة العملية، أي بالقياس والاستنتاج والاستنباط والرياضة الروحية، وبالتالي الاقتراب الموضوعي لا الذاتي من الدلالة الكلية للكلام الأزلي، أي الاقتراب أكثر من معرفة البارئ تعالى وتوحيده، إن المعرفة على هذا مصدرها الواسطة المنزلة أي الوحي الأزلي وتستلزم في ذلك القيام بمجهود التأويل ومجهود التجريب العلمي والتفكر والفقه والمجاهدة، وفوق هذا توحيد البارئ تعالى.

والخلاصة في هذا أن معرفة الله تعالى ومعرفة الوجود وتفسيره، لا يكون معرفة يقينية بواسطة من الأدلة العقلية فحسب، أي أدلة الحدوث والوجوب والنظام وقياس التمثيل، التي لا تتعدى مقدماتها عالم الحواس، ولذلك فان دلالتها وعلى أهميتها على العالم وعلى البارئ هي دلالة ظنية احتمالية، كما لا تكون الدلالة على البارئ عن طريق الكشف والمشاهدة، لأنها فضلا على أنها سرية ومبهمة، فهي ذاتية ظنية لا تنشئ علما موضوعيا مضبوطا.

إن الاستدلال على البارئ تعالى عندنا يكون بالحجة الكلامية أي عن طريق دليل الإعجاز، إذ هي الطريقة التي حج بها الله تعالى العالمين بالإتيان بمثله، من جهة كونه الحق المطلق الذي لا يماثله كلام آخر، أو نص آخر فلسفي أو أدبي أو علمي من كلام العالمين على المستوى المعرفي، هذا فضلاً على كونه يقينيا ومستقلا عن أشياء العالم الحسي، مما يجعله الأكثر موضوعية وصدقا في الدلالة على توحيد الله المتكلم به بالحق، والمفسر به للوجود بما هو وجود في حد ذاته.


ما الجديد اليوم في مجال فلسفة الدين؟مقال في درس الدين