يبدو أن حياة مشاهير الفن والفكر أصحبت مجالا مغريا للروائيين، لذا تكثر الأعمال التي تتخذُ من حياة هؤلاء موضوعا أساسيا، سبق أن عالج الفن السابع حياة النابغين في حقول علمية، وفكرية، وفنية، هذا فضلا عن تحويل سيرة السياسيين، ومحطات بارزة في تاريخهم، إلى أعمال درامية وتلفزيونية.

ولم يَعُد هذا الميدان بكرا بالنسبة لفن الرواية، إذ توالت المؤلفات الروائية التي تتكئ على الانتقاء من حياة شخصيات معروفة على المستوى العالمي، ولك أن تذكر جملة من عناوين مثل «سمرقند» لأمين معلوف، «عندما بكى نيتشة» إيرفن د.يالوم، زد على ذلك هناك من يرفق أعماله السردية بملاحظات منها؛ أن المادة المسرودة مستوحاة من حياة شخصية واقعية، وهذا ما يتكرر لدى الكاتب البرازيلي «باولو كويلو»، ما يعني أن الرواية تتداخل مع السيرة، غير أن علامة الرواية التجنيسية تمنحُ الكاتب حق التصرف بمادته، وتجاهل ما لا يخدم القالب الروائي، بل غالبا ما يكون التركيز على ما هو محوري في مسار تلك الشخصية دون الخوض في دقائق حياتها.

تتبعُ الكاتبة الفرنسية «لينوردي روكوندو» هذا الأسلوب في تعاملها مع شخصية الفنان الإيطالي «مايكل أنجلو»، حيث يتحولُ الأخير إلى موضوع روايتها الموسومة بـ«الحجر الحي»، الصادرة من دار «مسكيلياني» 2017 وترجمة «لينا بدر».

تقاربُ الكاتبةُ هذا النحات الإيطالي من عدة زوايا، لعل علاقته بعمله كنحات تأتي في المقدمة، الأمر الذي يؤكده العنوان، ومن ثم رؤية المثال لمسألة اللاهوت، ويحضر في هذه الحلقة طرف آخر أيضا، وهو الراهب «أندريا»، كما أن الأم تلقي الضوء على جانب من شخصية مايكل أنجلو، هنا يكون «ميشيل» بمثابة الوسيط الذي يوصل بين الاثنين من جديد (أنجلو، الأم) لا تستهوي الكاتبة التفاصيل، لذلك تدفع بالشخصية الأساسية إلى المشهد إذ ترى النحات متفحصا جثة أمام الرهبان.


سؤال بلا جواب

ليس من الضروري أن يدخل الروائي بإشكاليات ذات أبعاد وجودية وفلسفية في متن عمله لِيكسبهُ رصانة وتماسكا على المستوى البنائي، بل يكفيه طرح قضية عادية للاستحواذ على خيال المتلقي، ومن ثم ينعطف إلى ما يريد إيصاله بطريقة غير وعظية.

موت الراهب «أندريا» في أجواء مشبعة بشعائر كهنوتية يظل لغزا بالنسبة لمايكل أنجلو، فالأخير على رغم اقترابه من البابا أو الحبر الأعظم، ولكن ما يلفظه ويبوح به مع نفسه يفصح ما يختلج في أعماقه من الشكوك والأسئلة، كما أن تشريحه للجثث يعتبر من المحرمات التي تخالف المبادئ الدينية.

إذن لا يغادر السؤال خيال النحات خلال رحلته إلى «كارار» حاملا دفتره الصغير الذي دون فيه نماذجه التصميمية، لأن «جول الثاني» كلفه بتحضير الرخام من مقلع كارار الواقعة شمال غرب فلورنسا لبناء ضريحه، ولكن تتخلل موضوعات جديدة ضمن إطار الرواية، إذ تتضح جوانب من شخصية مايكل أنجلو الاجتماعية ومحاولاته لنسيان الماضي. هنا في المقلع تختلف الحياة وتلمس حجم معاناة العمال والعتالين، كأن الكاتبة أرادت إظهار وجه آخر من الحياة مقابل بذخ مدينة فلورنسا، في المقلع قد تودي الانهيارات الجبلية بحياة العامل، ولا يتلقى أهله غير مواساة وتضامن معنوي.

هكذا تتراوح أوقات الجميع بين الجبل، والبحر، والاهتمام بطقوسات دينية،يغيب الحدث بوصفه خرقا أو انتقالا نحو مفصل جديد في فضاء الرواية، بل كل ما يقع على امتداد زمن السرد لا يخرج من المشهد العام وينقل بصيغ خبرية، ويهدف المؤلف الضمني وراءها للإيحاء بطبعية المكان الذي صار وعاء لشخصيات الرواية، حيث بموت «سوزانا» زوجة «جيوفاني» أثناء الولادة ينحسر الستار عما تتحمله الأسر من المحن والمسئوليات الواقعة على عاتق المرأة.

تمهد الكاتبة لتلقي الخبر بلحظة وصول العمالِ إلى منازلهم وسماعهم لأجراس الكنيسة الحزينة، يذكر أن هذا الأسلوب راح يتكرر في سياق الرواية، إذ يتخذ جرس الكنيسة وظيفة إشارية إلى الحزن وما يتضمنه الدين من العزاء بالنسبة للإنسان في عالم لا عزاء فيه على حد قول «ماركس».

بالمقابل يمثل «توبولينو»، وزوجته «كيارا» وجها مرحا للحياة والرغبة في إضفاء طابعا احتفاليا على الأيام، وهذه التحولات في بناء المشهد الروائي من لحظات حزينة، إلى غناء وعزف الموسيقى، ليست إلا تعبيرا ضمنيا عن صراع الإنسان ضد العدم. كما أن «كافالينو» الذي تشعر بأنه شخصية غير سوية عقليا للوهلة الأولى، يرمز بتعابيره الملغزة إلى الأحلام اللامتناهية، فهو لا يبحث عن منشوده بين بني جنسه، بل يتماهى مع فرسه، وبذلك يعوض عما لا يجده في واقعه من الحب والحنين.

فضلا عن ذلك تتوزع الإشارات على رقعة هذا العمل إلى أحداث تاريخية مثل تفشي الوباء في مدينة كارار، وتوسل أهلها بضرب أجسادهم كفارة لذنوبهم التي جلبت الطاعون. بجانب ذلك هناك ما يعزز وجود تأصيل العنف الممارس ضد المعرفة في كل المراحل التأريخية، إذ بمجرد أن يسمع أنجلو من كافالينو عبارة السماء المضطرمة، يتداعى إلى ذهنه ما حدث سنة 1497 بفعل استنفار رجال الدين لحرق التحف الفنية، وكانت إقامة هذه المحرقة متزامنة مع تصاعد موجة التدين الشكلي المتمثل في الملبس.

تحاول الكاتبة عبر ما تذكره عن مراقبة رجال الدين لمايكل أنجلو، وإرسال راهب لهذا الغرض داخل مدينة كارار، التأكيد على توجس الأكليروس من أي مناشيط معرفية وفنية.


عربون الصداقة

تصرف مايكل أنجلو بالقساوة مع ميشيل، ابن سوزانا، خلال القداس المقام على جثة الأخيرة لا يخلو من الغموض، لماذا لا يرتاح هذا الفنان بالأطفال، ما يثير في ذهنك تصورات حول مرحلة طفولة أنجلو والظروف التي نشأ في ظلها، مع اعتذار الفنان لميشيل، وإهداء الأول صورة للطفل تتوثق الصداقة بين الاثنين، هنا يتضح الجانب المحجوب من علاقة النحات بوالدته.

نشأ أنجلو على كنف مربية وظل بعيدا عن أمه، لذا يصعب عليه تذكر تقاسيم وجهها وكل ما يربطه بأمه أودعه في صندوق مدفون تحت الثرى. يلعب ميشيل دور الحافز لأنجلو، بحيث يدفع بالأخير لاستعادة ذاكرته وتخيل صورة الأم وربط بين ما يصادفه ويعيشه يوميا بأمه، كرائحة الطعام، أو العطر ولمس الأشياء، هنا تؤدي حكايات ميشيل الخرافية التي روتها له الأم دورا في توليد الرغبة لدى مايكل أنجلو لبناء مخيلته، لذلك عندما يغادر النحات مدينة كارار يعطي ميشيل صندوقا محتويا على ورقة ما يشير إلى اعتراف أنجلو بدور ميشيل لاسترداد الذكريات.

نظمت المؤلفة مادتها الروائية ببراعة، حيث وضعت لكل فصل عنوانا، ويخلو عملها من الحشو والمقاطع الزائدة، كما أن شخصيات الرواية تتسلسل في ظهورها، وذلك يمنح السرد زخما في كل مفصل من مفاصل الرواية. «الحجر الحي» تبرهن مرة أخرى أن جودة العمل لا تعتمد على حشد المعلومات بقدر ما تتوقف على أسلوب العرض والمحتوى. ما يكون ماثلا في الذهن بعد قراءة هذا العمل هو سبب شغف أنجلو بشخصية أندريا وسؤاله الملح في رسائله للأخ «غويدو» عن السبب وراء موت أندريا ونحته لشكل يد الأخير حين يمسك بالإنجيل؟

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.