في توافق تاريخي ذي دلالة، أعلنت السعودية والإمارات والبحرين ومصر قطع العلاقات الدبلماسية والتجارية مع قطر في ذكرى النكسة وفي أيام شهر رمضان المبارك، وتلتهما دول وأطياف أقل شأنًا، بعد استهداف غير مسبوق لقطر إعلاميًا من بعض دول الخليج و«بحثيًا» وسياسيًا من قبل بعض الدوائر الأمريكية.

وفي ظل متغير كبير كالحاصل هذه الأيام، تتجه الأنظار إلى البدائل والخيارات القطرية، ومواقف الدول الإقليمية ذات العلاقة سيما تركيا وإيران، لمحاولة استشراف مستقبل الأزمة ومآلاتها وارتداداتها على قطر وعلى المنطقة برمتها.


كيف يُقرأ القرار؟

لا شك أن الأزمة الحالية مختلفة عن كل الأزمات الخليجية – الخليجية السابقة بما فيها أزمة سحب السفراء من الدوحة في آذار/مارس 2014. فالإجراءات التي اتخذتها الدول الخليجية الثلاث مع مصر، تضمنت قطع العلاقات الدبلوماسية وإغلاق المنافذ البحرية والبرية والجوية مع قطر (حصار شبه تام) ومنع العبور في الأراضي والأجواء والمياه الإقليمية (السعودية) ومنع مواطني الدول من السفر لقطر والعكس بالعكس.

كما ساقت الدول الثلاث، سيما السعودية، اتهامات غير مسبوقة للدوحة في مقدمتها التحريض في الداخل السعودي للخروج على الدولة، واحتضان جماعات «إرهابية» وطائفية منها الإخوان المسلمون، ودعم جماعات إرهابية مدعومة من إيران في السعودية والبحرين، ودعم الحوثيين في اليمن، وهي اتهامات أكبر بكثير من أزمة دبلوماسية بسبب سياسة الجزيرة التحريرية – مثلًا – أو موقف قطر من الانقلاب في مصر.

كما تزامنت كل هذه التطورات مع زيارة ترامب للمنطقة ومشاركته في قمة الرياض وإنشاء تحالف «شرق أوسطي» لمكافحة الإرهاب والتطرف وتأسيس مركز سُمي «اعتدال» لهذا الهدف، وحديث ترامب عن تعاون عربي – إسرائيلي أو خليجي – إسرائيلي، يعطي أبعادًا إضافية للخطوات الأخيرة ضد قطر.

يعني ذلك عدة أمور لا ينبغي إغفالها:

أولًا، أن الأزمة تبدو صفرية وفق الرغبة السعودية – الإماراتية حتى الآن.

ثانيًا، أن المستهدف هو سياسة قطر الخارجية وخطابها الإعلامي في المقام الأول، بمعنى العلاقة مع حماس والإخوان وسياسة الجزيرة التحريرية.

ثالثًا، أن نبرة الخطاب الخليجي والبيانات التي خرجت من العواصم الثلاث تحديدًا أقرب لإعلان الحرب منها للقرار السياسي أو الدبلوماسي، وهو ما يوحي أن المطلوب من قطر تغيير في الوجهة أو حتى في النظام وليس مجرد إجراءات بسيطة.

رابعًا، أن المطلوب من الدوحة هذه المرة لتجاوز الأزمة أكبر بكثير من أن تتحمله وتستطيع تقديمه، ليس فقط لأن الأسلوب المتبع يبتغي التركيع والإذلال وإفقاد السيادة وهو ما لا تستطيعه أي دولة، ولكن أيضًا لأنه يُفقد الدوحة كامل أوراق قوتها الناعمة التي استثمرت بها لعشرات السنين وأمّنت لها – مع عوامل أخرى في مقدمتها القاعدة الأمريكية على أراضيها – شيئًا من التوازن مع كل من الرياض وأبو ظبي.

خامسًا، أن الأزمة ليست خليجية – خليجية بالكامل وإن بدت كذلك، بل هو مسار دولي – إقليمي ينفذ بأدوات عربية – خليجية، تحت عنوان مكافحة الإرهاب والتطرف ومواجهة داعمي “المنظمات الإرهابية” وهو ما قد يدخل تركيا في نفس البوتقة الآن أو لاحقًا.

اقرأ أيضًا:السباحة ضد التيار: قطر التي لا يحبها الحُكام العرب


الأجندة التركية

السؤال عن الموقف التركي منطقي جدًا وذو وجاهة، لثلاثة أسباب رئيسة:

الأول، العلاقة المتميزة بين الطرفين، وتقارب مواقفهما من مختلف ملفات المنطقة، والتنسيق شبه التام في عدد من القضايا، إضافة للقاعدة العسكرية التركية المتفق على إنشائها على الأراضي القطرية، فضلًا عن اتفاقیة التعاون العسکری والصناعات الدفاعیة المبرمة بینهما في عام 2015.

الثاني، أن معظم الاتهامات الموجهة لقطر يمكن توجيهها بسهولة في أي وقت، بل وجّه بعضها فعلًا لتركيا خصوصًا فيما يخص العلاقة بالإخوان وحماس، وبالتالي فصانع القرار التركي يدرك ولا شك أنه مستهدف كما قطر، بعدها أو معها أو ربما قبلها (الانقلاب الفاشل).

الثالث، موقف الدوحة المتقدم مع أنقرة في عدة أزمات ومحطات، في مقدمتها المحاولة الانقلابية الفاشلة في تموز/يوليو 2017.

بيد أن التحديات التي تواجهها تركيا كثيرة ومتزامنة ومتفاقمة، بدءًا من مواجهة حزب العمال الكردستاني في الداخل، وداعش والمنظمات الكردية المسلحة في سوريا، والعلاقات المضطربة مع الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو والولايات المتحدة، والأزمة الاقتصادية، والمحيط اللاهب في كل من سوريا والعراق، وملف مكافحة تنظيم كولن (الموازي)، فضلًا عن تداعيات الانقلاب الفاشل المستمرة حتى اليوم.

كما أن تركيا، الباحثة عن الاستقرار والهدوء وتخفيف حدة الأزمات وزيادة الأصدقاء وتقليل الخصوم وفق المعلن من سياسة حكومة يلدرم، قد حسّنت علاقاتها المتوترة مع كل من روسيا والإمارات والكيان الصهيوني حديثًا جدًا. وما زالت البوصلة التركية تحيل إلى أولوية مكافحة الكيان الموازي في الداخل والمشروع الانفصالي الكردي في سوريا خارجيًا.

وبالتالي، تبدو الأجندة التركية مزدحمة جدًا، وقد لا تسمح بمغامرات كبيرة في السياسة الخارجية، تُخرجها عن خط تطبيع السياسة الخارجية وتخفيف الضغوط عن نفسها، رغم أهمية الصديق القطري ذاتيًا وبالتأثير غير المباشر عليها.


المتاح تُركيًا

من هذا المنظور، ما الذي تستطيع تركيا تقديمه لقطر أو على صعيد تخفيف حدة الأزمة؟

قد ترغب أنقرة في القيام بوساطة ما لرأب الصدع بين الطرفين، سيما وأنها تتمتع بعلاقات متقدمة مع قطر ومقبولة إلى حد ما مع السعودية، إضافة لكونها الرئيسة الدورية لمنظمة التعاون الإسلامي. وهذا ما أشار له وزير الخارجية التركي الذي أعرب في مؤتمر صحافي مع نظيره الألماني اليوم/الإثنين عن «أسف» بلاده لما جرى واستعدادها «للمساعدة في رأب الصدع».

بيد أن هذا الخيار محكوم بمدى قبول الطرفين بهذه الوساطة، وما يبدو من حدة الأزمة الحالية أن محور الرياض – أبو ظبي لن يقبل بها إلا إن تضمنت تنازلات قطرية كبيرة. كما أن العلاقات التركية – السعودية ليست بالمستوى الذي روّج له الكثير من الكتاب والسياسيين والباحثين على مدى السنوات القليلة الماضية، سيما مع الأنباء التي ترددت مؤخرًا حول تنصل المملكة من صفقة استيراد سلاح من أنقرة وبعض الاتفاقات الأخرى.

وأما خيار الاصطفاف الكامل مع الدوحة في مواجهة الجبهة الأخرى فيبدو ضرورة من الناحية النظرية للأسباب التي سلف ذكرها – سيما استهداف تركيا الآن أو لاحقًا – لكنه ليس واقعيًا جدًا بالنظر لمسار السياسة الخارجية التركية وقراءتها للأحداث وتعاملها مع الأزمات. إضافة إلی أن البلدین لا تجمعهما اتفاقیه دفاع مشترك، بل تعاون عسکري ونشر قوات متبادلة على أراضیهما، كما أنه قرار يُتخذ عادة في وقت متأخر في حال تدحرجت الأوضاع وتعمقت الأزمة وليس موقفًا يُتخذ في البدايات حيث يُفضل الخيار الدبلوماسي في كل الأحوال بغض النظر عن المواقف والانحيازات.

ويبقى الخيار المتاح حاليًا هو دعم قطر بمستوى لا يظهر وكأنه تحد للآخرين، ولكن أيضًا بما لا يسمح بحصار الدوحة وخنقها، مع استمرار الانتظار والمتابعة عن كثب وعدم إسقاط الخيار الدبلوماسي الذي تتقنه أنقرة متى ما أريد منها. يعني ذلك موقفًا سياسيًا قابلًا للتطوير وإعلاميًا بمستوى مقبول وإغاثيًا – إنسانيًا إن دعت الحاجة، مع استمرار تهدئة الأطراف المختلفة وعرض المساعدة في تخفيف حدة الأزمة.

من هذه الزاوية يمكن قراءة الأنباء التي وردت عن أربع طائرات شحن تركية سافرت للدوحة خلال كتابة هذه السطور، والتي يمكن انتظار ازديادها وارتفاع وتيرتها وصولًا لمرحلة إنشاء «جسر جوي» إن اضطر الأمر لذلك.

وفي المجمل، تصوغ تركيا في الآونة الأخيرة سياستها الخارجية – إضافة لعوامل قوتها الداخلية ومواقفها المسبقة من القضايا المختلفة – باعتماد مرونة الموقف تبعًا لتطورات الأزمات المختلفة. ويعني هذا أننا لسنا إزاء موقف تركي وحيد أوحد فيما يتعلق بالأزمة الناشئة، ولكن أمام مروحة من الخيارات المتاحة التي يمكن المفاضلة و/أو المزاوجة بينها حسب متغيرات الحدث، المرشح للتطور وفق أكثر من سيناريو بطبيعة الحال.