عندما نحاول تفسير الأفعال الصادرة عن الأفراد والجماعات، يذهب الكثيرون إلى تفسيرها من خلال المنظومات الثقافية التي ينتمي إليها ويتبعها الفاعلون، من أديان وقيم ومعتقدات. كما ترى في من يحيل ظاهرة اجتماعية/سياسية مركبة كـ “التطرف” إلى ما يعتبره خللا وانحرافا في منظومة ثقافية، يسميه “فكر منحرف”.. فهل البُنى والمنظومات الثقافية هي ما ينتج أفعال الأفراد والجماعات؟ أم أن هذه المنظومات نفسها صادرة، هي والأفعال، عن بُنى أخرى (البُنى والوقائع المادية)؟ وأي علاقة بين البُنى الثقافية والمادية؟

الحاجة والاكتفاء

كيف تساهم الحالة المادية التي يعيشها الفرد في تحديد ملامح الفكر والموقف الذي يعتنق؟ للإجابة عن هذا التساؤل سننطلق من تفريق أساسي بين الإنسان المكتفي والإنسان المحتاج. الإنسان المكتفي هو الذي يعيش في حالة مادية جيدة، لا يعرف معها طعم الحرمان؛ ويتنعم فيها –بدرجات متفاوتة– بالكماليات والرفاهيات. أما المحتاج فهو المحروم من الحصول على الحاجات الأساسية، وربما يصل الحرمان إلى الضروريات.

ينبني على هذا التفريق أن اكتساب المكتفي لحاجات مادية جديدة لا يعني له الكثير ولا يضيف له معنى جديدا، بخلاف المحتاج الذي يشعر مع كل حاجة يسدها بقيمة عالية، وبالتالي بالرضا وتحقيق الذات. وهنا تتولد حالة عامة لدى الطرفين، يكون فيها المكتفي فاقداً للمعنى، وغير شاعر بتحقيق الذات. أما المحتاج فيكون مشغولاً في تحصيل حاجاته وراضياً بما يسد منها.وهنا نستطيع تلمس الأساس الذي يمكن من خلاله تفسير منظومة الأفعال والمواقف الصادرة عن الأفراد والجماعات من الطبقات العليا[1]؛ حيث يتجه الفرد المكتفي نحو المظاهر، والتي يكون تحصيلها مقصوداً لذاته، لا تلبية لحاجة، حيث يغرق أفراد هذه الطبقات في الإستهلاك والاستعراض، بحيث يكون الفرد منشغلاً بمحاولة إحاطة نفسه بهالة من الاهتمام والمركز الإجتماعي، تعوضه عن حالة فقدان المعنى. وهكذا نستطيع تفسير وفهم منظومة الأفعال والمواقف الصادرة عن أفراد الطبقات العليا من المجتمع، والتي يسودها منطق الاستعراض والبحث عن الهالة، والتي تلازمهم حتى عند الدخول في العمل السياسي أو الثقافي، حيث يتحول إلى ظاهرة إعلامية واستعراضية (خاصة مع وجود مساحة كمواقع التواصل الإجتماعي)[2].

أديولوجيا ويوتوبيا .. القناعات الطبقية وحتميتها

تنسحب حالة الاكتفاء المادي التي يعيشها أفراد الطبقات العليا، على طريقة تحليلهم للظواهر، فتجدها متخبطة في تفسير الظواهر الانسانية، وغالباً ما يعتقدون أن عالم الأفكار والقناعات هو مصدر المشاكل الاجتماعية والسياسية؛ وذلك لكون الاختلالات داخل طبقتهم متعلقة بالأفكار والوعي، ولا علاقة لها بالصعوبات والتحديات المادية، حيث يسحبون واقعهم على كل واقع دون دراية، لذا تجدهم يفسرون ظواهر كالسرقة والقتل على أنها متعلقة بالضغط النفسي أو الخلل في التربية والمعتقدات.

وفيما يتعلق بالاصطفافات السياسية والدور الذي تلعبه الطبقات في حركة التاريخ. فإنك ستجد الطبقة المترفة –عند كل منعطف وبادرة للتغيير– مصطفة خلف النظام القائم، مدافعة عنه، وداعية للحفاظ على “ما هو كائن”، مع إبقاء هامش لـ “الإصلاح” والتعديل. وقد تصاغ هذه المواقف والاصطفافات في أطر إعلامية، قابلة للتسويق، تحت مسميات كـ “الوطنية” و “المصلحة العامة”، وواقع الأمر أن هذه الاصطفافات ومن قبلها التحليلات (المتعلقة بتفسير المشاكل الإجتماعية)، التي تصدر عن هذه الطبقات، هي تعبيرات وانعكاسات للوعي المزيف للطبقة المترفة “الأديولوجيا“.ونحن هنا نستحضر هذه الثنائية (أديولوجيا ويوتوبيا) مستعيرين إياها بالطبع من كارل مانهايم. وإذا كانت الأديولوجيا هي الوعي الطبقي (المزيف) للطبقات المترفة، فإن اليوتوبيا هي وعي الطبقات الفقيرة. وهو الوعي المتمسك بالتغيير وبـ “ما ينبغي أن يكون”؛ حيث تكون الطبقات الدنيا هي وقود التغيير والثورات، على نقيض الطبقات المترفة المتمسكة بالاستقرار وإجهاض التغيير.وبين الفقيرة والمترفة، تقع الطبقات الوسطى، ولكنها غير ذات وزن فاعل فيما يتعلق بحركة التاريخ؛ لكون وعيها متسماً بطابع من التردد وعدم الحسم بالاصطفاف في الأزمات الإجتماعية/السياسية. وذلك راجع إلى الرمادية، والبعد عن الاستقطابية التي تسود وعي هذه الطبقات؛ حيث كل شيء عندهم غاية في التعقيد، غير محسوم، وغير واضح، وحيث يسود الخوف عندهم من ضياع المكتسبات المادية التي تمكنوا من تحصيلها، و الخوف من الانزلاق إلى مهاوي الطبقات الفقيرة.كما يمكن تفسير ارتباط حالة التدين (منظومة ثقافية) بالطبقات الفقيرة، وضعفها عند الطبقات المترفة، بكون الطبقات الفقيرة تتمسك به بوصفه نوعا من “اليوتوبيا” التي تساعدهم على الصبر وتحمل وطأة الأوضاع المادية الصعبة، خلافاً للطبقات المترفة –والوسطى الى حد ما– حيث يكون افراد هذه الطبقات منخرطين في خريطة مصالح معقدة، ويوجد عندهم الأمل بالحياة السائدة، فينشغلون ولا يكترثون بالتدين.

في التطرف

في نفس إطار تفسير الأفعال الصادرة والمنظومات الثقافية، وبيان علاقتها بخلفيتها المادية. سنتوقف مع مثال، هو موضوع الساعة، وهو “التطرف”. وكما أشرنا أعلاه، فإننا سننطلق من اعتبار أنه: فيما يتعلق بتفسير صدور الفعل عن الفرد والجماعة، فإن المنظومات الثقافية، “مزيفة”، والوقائع المادية “حقيقية”.

والتطرف المقصود به هو “الجهاد العالمي”، بمختلف أشكاله وتفريعاته. حيث يمكن تفسيره بالإشارة إلى تعرض العرب والمسلمين للاضطهاد والاستغلال ونهب الموارد والإفقار والتجهيل. وهو ما يولد الشعور بالظلم و الحاجة إلى الإنتقام. ويصاحب هذا الفعل الانتقامي (الجهاد) الرجوع الى المنظومة الثقافية (الدين والموروث الفقهي)، ليخرج منها شيئا (فتاوى) تشعر “المجاهد” بالراحة وهو يقتل. وهكذا نرى مجدداً كيف كان الواقع المادي سابقاً على الثقافي، ومؤدياً إليه. أضف إلى ذلك أن الغالبية العظمى من المنخرطين في هذه التيارات هم من الطبقات الفقيرة، ومن البيئات المعدَمة مادياً، ممن فقد الأمل بالحياة والواقع المعاش. وأما عن القلة المنخرطة القادمة من الطبقات الوسطى والمترفة (وخاصة المجاهدين الأوروبيين)، فإن الدافع عندها هو الرغبة في خوض تجربة وعيش مغامرة، وهي حالة ناشئة عن وضعيتها المادية أيضاً (حالة البحث عن المعنى و تحقيق الذات المشار لها أعلاه)[3].نخلص مما سبق إلى أسبقية الوضعية والواقع المادي على المنظومة الثقافية، وتشكيله وتوجيهه لها. وهذه الملاحظات أعلاه هي محاولة لاستئناف ما أشرنا إليه في مقال سابق بعنوان: مشاكل حقيقية ومشاكل مزيفة، من نقد للتفسير القيمي للظواهر الاجتماعية والسياسية، في إطار المساهمة في توظيف المنهج الماركسي بما هو أداة علمية، بعيدة عن الاعتبارات والانحيازات الأديولوجية.


[1] ونقصد بالطبقات العليا الشرائح الوسطى والعليا من الطبقة الوسطى، وشريحة الأغنياء أصحاب رؤوس الأموال، أما الطبقات الدنيا فتتمثل في الشريحة الفقيرة والشريحة الدنيا من الوسطى.

[2] حيث يكون البحث عن “ما هو قابل للتسويق”، وهكذا وفقاً لمنطق الطبقات العليا الاستهلاكي، حتى المواقف السياسية يتم تسليعها.

[3] بالإضافة الى إشارة هوركهيمر إلى كون الواقع المادي ينتهي إلى تشكيل منظومة ثقافية، قد يتبناه من هم خارج الواقع المادي الناشئة عنه (انجذاب أفراد من الطبقة المتوسطة إلى منظومة ثقافية ناشئة عن الطبقات الفقيرة).


اقرأ المزيد:أفول السلطة في العصر الحديثجدل الدين والعقل: الغزالي وابن رشد وابن تيمية