لا يبدو أن نهاية العالم كما تخيلناها قادمة الآن. فمع الفزع الذي انتاب العالم مع بوادر التحول السياسي في الدول الغربية تجاه اليمين الشعبوي المتطرف في 2016 والنصف الأول من 2017، أصبح العالم أكثر هدوءًا أو ترقبًا بعد فوز «ماكرون» برئاسة فرنسا وتصاعد حدة الانتقادات الموجهة لكل من «دونالد ترامب» في الولايات المتحدة، و«تيريزا ماي» في بريطانيا، في ظل وجود منافس قوي في الحالة الأخيرة مثل «جيريمي كوربين».

ومع خسارة حزب «فيلدرز» في الانتخابات الهولندية، وتشبث «أنجيلا ميركل» الظاهري بوجودها وحزبها كثقل سياسي في الاتحاد الأوروبي ككل، فإن النتيجة هي للآن إيجاد توازن ما في التوجهات السياسية الغربية يجعل من المشروع اليميني معطلًا لفترة مؤقتة. ولكن في ظل هذه التقلبات المتوترة تظهر من جديد نهاية العالم بمعنى آخر، نهاية عالمنا بمفاهيمه وطرقه وسياساته ووسائل التعامل معه، عالم جديد تصنعه الثورة الصناعية الرابعة.


ما هي الثورة الصناعية الرابعة؟

في مقال بموقع المنتدى الإقتصادي العالي بتاريخ 14 يناير/ كانون الثاني 2014، وتحت عنوان «الثورة الصناعية الرابعة: ماذا تعني؟ وكيف نستجيب؟»، تناول المؤسس والمدير التنفيذي للمنتدى الاقتصادي الدولي بجنيف، «كلاوس شواب»، ما سمَّاه الثورة الصناعية الرابعة.

في البداية، يميز شواب بين ثلاث ثورات صناعية سبقت التغيرات التي يتناولها مقاله. فالثورة الصناعية الأولى اعتمدت على الماء وقوة البخار لميكنة الإنتاج، والثانية استغلت الطاقة الكهربائية من أجل الإنتاج بكميات أكبر وعلى نطاق أوسع، والثالثة استخدمت الإلكترونيات وتكنولوجيا المعلومات لتحويل حركة العمل لإنتاج يتم بصورة آلية. أما الرابعة فبرغم بنائها على إنجاز الثورة الصناعية الثالثة فإنها تتميز بكونها ثورة رقمية تمزج بين التكنولوجيات المتعددة وتشوش الحدود بين المجالات المادية والرقمية والحيوية.

ولكن ما الذي يجعل من هذه التغيرات قائمة بذاتها وليست مجرد امتداد للثورة الصناعية الثالثة؟ هناك ثلاثة أسباب تفسر تلك الظاهرة. الأول هو السرعة غير المسبوقة التي واكبت التقدم المعرفي الحالي، والثاني هو المدى، فالنطاق الواسع للتغيرات يشمل عرقلة كل الصناعات بجميع البلاد تقريبًا نظرًا لمستجدات التطورات التكنولوجية.

أما السبب الثالث فهو الأثر الذي ينذر بتحول أنظمة كاملة من الإنتاج والإدارة والحكم أيضًا، ومثال على ذلك الدور الذي يلعبه الذكاء الاصطناعي الآن في حياتنا في الأجهزة الشخصية والبرمجيات الخاصة بالترجمة والاستثمار والنانوتكنولوجي، وحتى السيارات والطائرات بدون طيار.


زيادة للكفاءة أو انعدام المساواة؟

يوازن شواب بين الإيجابيات والسلبيات المستشرفة للثورة الصناعية الرابعة، فمثل ما سبقها من ثورات صناعية فإن لديها القابلية لرفع مستويات الدخل العالمية وتحسين مستوى المعيشة لدى السكان في شتى أرجاء العالم. وفي الوقت الحالي فإن هؤلاء المستفيدين من مزاياها هم المستهلكون ممن لديهم القدرة على الولوج للعالم الرقمي، فالتكنولوجيا قد ساهمت بلا شك في خلق منتجات جديدة وزيادة كفاءة الخدمات المقدمة من أجل رضا المستهلكين.

إن التطور التكنولوجي يمثل ما يشبه المعجزة ويتيح مكاسب علي المدي البعيد من حيث الكفاءة والإنتاجية مما يدفع النمو الاقتصادي للأمام

على سبيل المثال فإن مشاهدة الأفلام، وحجز وسائل المواصلات، وشراء المنتجات أصبحت من ضمن الخدمات التي تتم عن بُعد. وعلى جانب العرض، فإن التطور التكنولوجي يمثل ما يشبه المعجزة ويتيح مكاسب على المدى البعيد من حيث الكفاءة والإنتاجية. فتكاليف النقل والاتصالات والتجارة ستنخفض بشكل كبير مما يخلق أسواقًا جديدة ويدفع النمو الاقتصادي للأمام.

غير أنه في الوقت ذاته، وكما يشير شواب لملاحظات عالمي الاقتصاد إريك بريينيولفسون وأندرو مكافي، فإن تلك الثورة الصناعية قد تؤدي أيضًا لانعدام مساواة أكبر، خاصة مع قابليتها لإحداث خلل جسيم في سوق العمل. فباستبدال التشغيل الآلي بالعمل في كل المناحي الاقتصادية تتسع الفجوة بين العائد على رأس المال والعائد على العمل، وهو ما يرى شواب فيه نقطة إيجابية، حيث سيظهر على المستوى الإجمالي زيادة في الوظائف الآمنة والمجزية.

ومع توقع شواب أن المستقبل ربما يحمل لنا مزيجًا من السيناريوهين، فإنه يعود لمخاوف انعدام المساواة مرة أخرى، فالموهبة والمهارة هما من سيمثلان في المستقبل عاملًا فارقًا في الإنتاج أكثر من رأس المال ذاته، مما يخلق سوقًا للعمل منقسم إلى قسمين يمكن اختزالهما كالآتي: الأول «مهارة منخفضة/دخل منخفض»، والثاني «مهارة مرتفعة/دخل مرتفع». مما سيؤدي لزيادة التوترات الاجتماعية.

ولمسألة انعدام المساواة أثر ليس على المستوى الاقتصادي فحسب، وإنما الاجتماعي أيضًا كما أشار. فالمستفيدون الأكثر حظًا من هذه الثورة هم أصحاب رأس المال الفكري والمادي مثل المطورين والمستثمرين والمساهمين، مما يفسر اتساع الفجوة في الثروة بين المعتمدين على رأس المال ونظرائهم المعتمدين على العمل -يقدم توماس بيكيتي تحليلًا مهمًا لاتساع تلك الفجوة في كتابه «رأس المال في القرن الواحد والعشرين»- وباتساع تلك الفجوة فإن فراغًا ضخمًا ينشأ في الوسط.

لعل هذا سبب وجيه يساعد على فهم التخوف الحالي للطبقة الوسطي حول العالم من انخفاض الدخل، وأيضًا إحساسهم بعدم الرضا والغبن. فمع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي- أكثر من 30% من سكان العالم من المستخدمين – كنتيجة لتطور التكنولوجيات الرقمية وديناميات مشاركة المعلومات، وفي ظل اقتصاد يقدم منفذًا للطبقات الوسطى، فإن وسائل التواصل الاجتماعي التي قد تمثل فرصًا للتفاهم والتماسك بين الثقافي، يمكن أيضًا أن تساهم في نشر توقعات غير واقعية لنماذج نجاح الأفراد والمجموعات، كما توفر أيضًا مناخًا خصبًا لانتشار الأيديولوجيات والأفكار المتطرفة.


أثر الثورة الصناعية الرابعة على المجالات المختلفة

يتناول شواب بشكل أكثر تفصيلًا الأثر المحتمل للثورة الصناعية الرابعة على ثلاثة مجالات، الأول هو مجال الاقتصاد والأعمال، ويتمحور هذا الأثر حول أربعة محاور. المحور الأول وهو توقعات المستهلك، فالمستهلك الآن يقع في بؤرة الاقتصاد الذي بات يرتكز على تحسين مستوى الخدمات التي يقدمها له.

أما المحور الثاني فهو تعزيز المنتجات، فللتكنولوجيا الرقمية مقدرة علي زيادة قيمة المنتجات المادية. ففي عالم مكون من خبرات المستهلكين والخدمات المقدمة على أساس البيانات الرقمية وتحليل أداء الأصول المالية فإن مثل هذا العالم يستلزم إيجاد أشكال جديدة للابتكار التعاوني، وهو المحور الثالث، خاصة بالنظر إلى السرعة التي يتطور بها الابتكار، وكذلك اضطراب أشكال الإنتاج الحالية.

ومع بزوغ المنصات الرقمية العالمية والنماذج الجديدة من الإنتاج، فإن إعادة التفكير في معاني الموهبة والثقافة والأنماط الإدارية هو أمر حتمي. فهذا المزيج من التقنيات والذي يميز الثورة الصناعية الرابعة يجبر الشركات على إعادة النظر في كيفية قيامهم بأعمالهم والتفكير جديًا في هذه البيئة المتغيرة التي تتطلب ابتكارًا وتجديدًا متواصلين.

أما الأثر الثاني فهو على مجال السياسة والحكومات، فعلى مستوى السياسة الداخلية، وكما ساهمت التكنولوجيا الرقمية في خلق منصات وتقنيات للمواطنين تمكنهم من التعبير عن آرائهم وتنظيم جهودهم والتفاعل مع الحكومات، خاصة من خلال دور الرقابة على المسئولين في المجال العام، فإن الحكومات ستكتسب هي الأخرى تقنيات جديدة تمكنها من إحكام السيطرة علي السكان اعتمادًا على أنظمة معقدة من المراقبة والقدرة على السيطرة على البنية التحتية الرقمية.

ومع ذلك ستواجه الحكومات ضغطًا متزايدًا من أجل تغيير طرقها في صنع السياسات والتفاعل مع المواطنين نتيجة لظهور مصادر جديدة من المنافسة وإعادة توزيع القوة السياسية واللامركزية.

بالتالي، فإن طرق صنع السياسات الحالية والتي تطورت في خضم الثورة الصناعية الثانية مع بدايات القرن العشرين وتم تصميمها لتكون أقرب للآلية ومن أعلى لأسفل، لم تعد مجدية الآن في ظل الطبيعة السريعة للمتغيرات الحالية. لم يعد لدى صانعي السياسات الوقت الطويل الذي توفر لديهم سابقًا من أجل الدراسة والتحليل واختيار إطار العمل المناسب، فقط من خلال سرعة البديهة والتصرف بكفاءة والتعاون بشكل مكثف مع مجال الاقتصاد والأعمال والمجتمع المدني، يمكن لصانعي القرار إدراك أبعاد المواقف والاحتياجات التي تواجههم، وبالتالي التكيف مع تلك المتغيرات الجديدة والالتزام بمستويات أعلى من الشفافية والكفاءة. على هذا الأساس فقط ستعتمد قدرة الأنظمة السياسية على البقاء.

أما على مستوى الأمن القومي والدولي، فإن احتمالات وطبيعة الصراع نفسه ستتغير نتيجة للمتغيرات الجديدة. فالحروب عبر التاريخ تعتمد على الابتكارات التكنولوجية، وخير مثال على الأسلحة البيولوجية والكيميائية في وقتنا الحالي، والتي أتاح لها التطور التكنولوجي أن تكون متاحة للاستخدام من قبل الأفراد والمجموعات الصغيرة بشكل غير مسبوق، كما أصبح استهداف نطاق واسع من البشر في مقدرة مثل تلك المجموعات، وليس حكرًا على الدول.

أيضًا فإن الصراعات الحديثة أصبحت مهجنة، بحيث تمتزج الطرق التقليدية بغير التقليدية، وبين الدول الحديثة والمنظمات والكيانات المختلفة، حتى أن ما يفصل بين الحرب والسلام، والعنف واللا عنف، أصبح مشوشًا تمامًا. ولكن على الجانب الآخر، فإن تطور أنماط جديدة من الدفاع قد يعزز القابلية لتقليص حجم ومعدل العنف والدمار المحتملين.

الأثر الثالث والأخير هو أثر الثورة الصناعية الرابعة على مجال الأفراد والشعوب. ليس فقط ما نفعله والطريقة التي نفعله بها هو ما سيتغير، وإنما هويتنا نفسها أيضًا. فالخصوصية الشخصية والملكية وأنماط الاستهلاك وعلاقاتنا الشخصية، وكيفية النظر إلى مجالنا المهني، وحتى أوقات العمل والفراغ. كل هذا سيتغير مفهومنا عنه، وهو ما يبدو أنه بدأ بالفعل.

فحتى مع كون شواب متحمسًا لتبني التكنولوجيا على كل الأصعدة، فإنه لا يزال متخوفًا من تحول وذبول القيم الإنسانية مثل التعاون والتعاطف خاصة مع تطور الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية، مما قد يجعلنا نعيد النظر في معنى الإنسانية، وسيجبرنا أيضًا على إعادة تعريف حدودنا الأخلاقية. ومثال على ذلك تخوفه من كون الاتصال المستمر عبر الهواتف والأجهزة الذكية قد يجرد الإنسان من الوقت اللازم للتوقف والتأمل والانغماس في محادثات ذات معنى.


تشكيل المستقبل

مع بزوغ المنصات الرقمية العالمية والنماذج الجديدة من الإنتاج، فإن إعادة التفكير في معاني الموهبة والثقافة والأنماط الإدارية هو أمر حتمي

يلفت شواب النظر إلى كوننا جميعًا مسئولين عن توجيه مثل هذا التطور التكنولوجي من خلال القرارات التي نتخذها كمواطنين ومستهلكين ومستثمرين، وأن نستغل الفرصة والقابلية اللتين تتمتع بهما الثورة الصناعية الرابعة من أجل بناء مستقبل يعكس أهدافنا وقيمنا المشتركة.

ومن أجل هذا فإن علينا بلورة رؤية مشتركة حول كيفية إعادة توجيه وتشكيل التطورات التكنولوجية لبيئتنا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانية، وبالتالي وضع المواطن في أولوية الاهتمامات وتمكينه سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا.

ربما يبالغ شواب في تصور سهولة مثل هذه الإجراءات في عالم يعج بالصراعات على كل الأصعدة وترتعش فيه أسس العولمة وأحلامها، لكنه يؤكد عدم أسبقية مرورنا بزمن يعد بمثل هذا الكم من الوعود السخية وينذر في الوقت نفسه بكوارث محتملة، فإما يؤسس الإنسان وعيًا جمعيًا وأخلاقيًا مبنيًا على إحساس بالمصير المشترك بين كل البشر، وإما يتحول البشر إلى مجرد روبوتات منزوعة الروح وبلا قيم أو مشاعر إنسانية.

في النهاية.. على الإنسان أن يختار كيف يستغل قدرات الثورة الصناعية الرابعة.

الثورة الصناعية الأولى اعتمدت على قوة البخار لميكنة الإنتاج، والثانية استغلت الطاقة الكهربائية للإنتاج بكميات أكبر وعلى نطاق أوسع، والثالثة استخدمت تكنولوجيا المعلومات للإنتاج بصورة آلية