إن مما يميز منطقتنا العربية الآن بوضوح أنها تمر بمرحلة سياسية حرجة، وإن فضاء الفعل السياسي الخالص ما زال يعاني من فراغ كبير. إن هذا الفراغ لا يتشبع بالممارسة السياسية الصرفة فقط، بل يتم شغره بالنقاش والتنظير والبحث والحفر الفلسفي حول المفاهيم الأولية التي تنطلق منها تصوراتنا السياسية وتمتد من خلالها آفاقنا ورؤانا السياسية التي من رحمها تولد ممارستنا السياسية.

فنحن أمام عدة خيارات لمعالجة فعلنا السياسي، بحيث يناسب طبيعة المرحلة في المنطقة العربية؛ إما أن نرجع للجذور الأولى المكونة للعقل السياسي وتتم معالجتها، أو أن نمارس في المرحلة القادمة ما يسميه الجابري (رحمه الله) قطيعة معرفية مع العقل السياسي الأول ومن ثم نفتتح زمنًا جديدًا.

بيد أننا لا ينبغي أن نهدم، في كل الأحوال، إرثنا وتاريخنا السياسي ونمحو أثره، أو في واقع الأمر أننا لا نستطيع فعل ذلك، فأحيانًا تتعدى التجارب كونها خبرات مستفادة إلى أن تصبح قيودًا أو ندوبًا خالدة فتعمل كإشارات المرور، توجه الحركة وتمنع الاصطدام. وإننا، حتمًا، أمة لا ترغب بالاصطدام مرة أخرى بواقع متخلّفة عنه.

ومع ارتفاع أصوات النقاد والتململ من واقع العمل السياسي في المنطقة، برزت في الآونة الأخيرة اتجاهات لهدم كل ما سبق من تجارب ومؤسسات سياسية رغبة في خلق تحولات كبرى وتدافع جديد؛ ما دفع البعض للمطالبة بسحب الثقة من القوى والمؤسسات السياسية الحالية على أن تبنى أجسام جديدة أساسها برامجها التنموية، لا أيديولوجياتها ومعتقداتها الكونية؛ افتراضا أو ادعاءً بأن ذلك سيخلق واقعًا سياسيًا جديدًا، سليمًا ومعافى. ونحن هنا بصدد اختبار صحة هذه الفرضية.

لنبحث أولاً في طبيعة الظاهرة السياسية ونشأتها، باعتبارها الميدان الذي يجمع القوى والأحزاب السياسية، والذي أنتجها في الوقت نفسه:

منذ أن وجد الإنسان على الأرض لازمته ظواهر الاختلاف، التنوع والندرة. كانت هذه الظواهر إما مرتبطة بالإنسان أو بالطبيعة، فالناس يختلفون في نظرتهم للحياة، للإنسان، للكون وللإله. كما أن الاختلاف ليس أيديولوجيًا فقط، فقد يكون اختلافًا عرقيًا أو ثقافيًا أو اجتماعيًا، والظاهرة السياسية هي في واقع الأمر إحدى مستويات الظاهرة الاجتماعية.

وقد ترى كل جماعة بشرية أن منظومتها القيمية وثقافتها وأيديولوجيتها تصلح لتنضوي تحتها البشرية كلها، وهي بذلك تشرع لنفسها حق السيادة- ليس بمعناه الحديث – بصورة مباشرة أو غير مباشرة، تلقائية أو متعمدة. والناس أفرادًا كانوا أو جماعات، تتنوع احتياجاتهم، فما تطلبه جماعة ما يتوفر في أخرى، ويتوفر عندها ما ينقص الأخرى، فبعض المناطق تمتلك من الموارد المائية ما يكفي ثلثي العالم في الوقت الذي تنقصها فيه المعادن التي توجد في المناطق الجافة، وبعض الجماعات تعاني من كثافة سكانية عالية بينما تنقصها أراضي الزراعة الخصبة التي توجد عند الجماعة ذات الكثافة السكانية المنخفضة.

وهكذا تلازم البشرية هذه الظواهر منتجة التدافع الإنساني عبر التاريخ لتوفير الاحتياجات وتسوية الخلافات، والذي بدوره أنتج الظاهرة السياسية. وحيث يُرجع علماء السياسة الظاهرة السياسية في نهاية الأمر إلى هذه الظواهر، يستنبط الدكتور جاسم سلطان مقولته بعد ذلك في أن الظاهرة السياسية، في أبسط معانيها، «محاولة لتسوية الخلافات الإنسانية».

وإذا اتفقنا على نشأة الظاهرة السياسية، وأقررنا بحوجة الجماعات لتوفير احتياجاتها وتسوية خلافاتها (والتسوية هنا لا تعني تقسيم الموارد بالتساوي المطلق بين البشر والجماعات، لكن المراد الوصول لحل يشمل أطراف النزاع)، فقد نتساءل حول طبيعة الظاهرة السياسية، أو هذا التدافع، وكيفية إدارة هذه الاختلافات. هل يحدث نوع من التبادل والتعاون، أم نوع من النزاع والصراع؟، من هنا تنشأ القواعد والأخلاقيات التي تؤطر السياسة.

يتضح مما سبق أن (سياسة المصالح) ليست عيبًا، والسياسة لا تبدو كلعبة للنوايا الطيبة والمبادئ السامية -حيث تختلف المطلقات والقيم التي تستند عليها الأطراف السياسية-، بل إن السياسة تغليب وجهة نظر على أخرى، وخلق ترتيب للاستحقاق والامتلاك والاستحواذ، وفرض ذلك الترتيب والاستحقاق يتم باستخدام أدوات سياسية مختلفة، فعندما تفكر دولة – أو جماعة أو حزب – ما في توفير احتياجاتها فإنها تلجأ لأدوات القوة عندها، فتفاوِض وتمنع وتتحالَف وتحظِر، أو تلجأ لتنازلات أو ضمانات وصفقات تبادل، كل ذلك حسب معطيات الوضع السياسي وموازين القوى وقراءة أطراف النزاع له.

وتلجأ القوى السياسية للنزاع والصراع العسكري كمرحلة متأخرة في تطور الخلاف للدفاع عن مصالحها. وعند هذه اللحظة تستند الأجسام السياسية على منظومة قيمها وقواعدها لتبرير تدخلها المسلح أو أي من أشكال العنف المستخدم لتوفير احتياجاتها أو حماية مصالحها. من هنا تنشأ المواضيع المتعلقة بالظاهرة السياسية ويستمر البحث حولها والتنظير من خلالها، وأعني هنا بالتحديد موضوعات كالقانون الدولي، والمواثيق والمعاهدات الدولية، السياسة الخارجية، أنظمة الحكم وتداول السلطة، الأقليات، السياسة والأخلاق وموقع الدين من السياسة وغير ذلك. وكل ما ذكر آنفًا يتعلق بطبيعة الظاهرة السياسية.

الأمر يتطلب أيضًا أن نسلط بعض الضوء على ما نود إسقاط الفرضية محل الاختبار عليه، وهو الأحزاب السياسية نفسها؛ ماهيتها والغرض منها:

الحزب السياسي في أبسط تعريفاته هو مجموعة من الناس تمتلك رؤية مشتركة من أجل إصلاح وتنمية المجتمع الذي يعيشون فيه، وهم من أجل ذلك يسعون للوصول لمراكز القرار في الدولة، على عكس الحركات أو الجمعيات التي تعمل مباشرة في المجتمع ومن أجل المجتمع.

فتتجه (الحركات والجمعيات) أفقيًا بينما تتحرك الأحزاب رأسيًا نحو الدولة لتستفيد من سلطاتها في تطبيق رؤيتها التنموية أو الإصلاحية. ذلك لا ينفي بالطبع دغدغة أحلام السلطة للحركات والجمعيات، كما لا يمكن للحزب السياسي المضي رأسًا دون التعويل على قاعدة عرْضية جماهيرية.

والأحزاب السياسية في سعيها لتطبيق رؤيتها الإصلاحية تحاول بلوغ رأس السلطة السياسية أو الحصول على أغلبية نيابية؛ أي أغلبية أعضاء مجلس الشعب؛ للتمكن من الحكم أو المشاركة فيه عن طريق سن القوانين والتشريعات، وفيما عدا ذلك الحصول على أغلبية في مقاعد المعارضة. والسؤال مثار النقاش هنا:كيف تنشأ الأحزاب السياسية؟، أو من أين تنبع تلك الرؤية المشتركة بين (مجموعة الناس) التي تريد تطبيقها من أجل التنمية أو الإصلاح؟.

من المعلوم أن لكل حزب مبادئه، أفكاره، أدبياته وأدواته، ويبقى واجب الحزب ترجمة تلك المبادئ والأفكار إلى برامج سياسية تنموية يطرح نفسه من خلالها. هذه المبادئ والأفكار والأدوات قد تكون -أو تنضوي تحت- أيديولوجيا أو معتقد أو ديانة أو غيرها هي الأساس الذي ترتكز عليه برامج الحزب، باعتبارها؛ أي برامج الحزب، المنتج الأخير والنهائي للحزب. وما يجب أن يتفاعل مع الجماهير ويعمل فيها هو هذا المنتج الأخير؛ أي أن البرنامج الانتخابي للحزب هو بضاعته التي يروج لها وينافس بها في السوق السياسية، وهو ما تشتريه الجماهير بأصواتها وتأييدها، ويمكن القول إن حزب العدالة والتنمية في تركيا يمثل نموذجًا جيدًا -بدرجة ما- في هذا الشأن.

وإن فاعلية وجودة البرامج السياسية والتنموية للحزب هي في نهاية المطاف مقياس لمدى قدرة تلك المجموعة من المبادئ والأفكار (الأيديولوجيا) على إنتاج مشاريع تضمن حياة كريمة تستوفي احتياجات الإنسان وتحقق رغباته وتراعي مرتكزاته القيمية من حرية وعدالة ومساواة.

والأيديولوجيا في نهاية المطاف، ليست نقطة سوداء في جبين الأحزاب، وهي في ذاتها ليست عيبًا، وغالبًا ما يصعب التحرر منها على مستوى الجماعات والجمهور، ومعظم تصوراتنا عن الإنسان والكون والحياة والموت مستمدة من أيديولوجيات محددة. فالتنكر للأيديولوجيا وسطوتها هو ربما ضرب من الهروب من الواقع، لكن نقد الدوغمائية والإطلاقيات والعقائد الشمولية وتقديس الشخصية هو تحدٍ يطالبنا به نفس الواقع.

أن تنشأ الأحزاب من برامجها فقط، أو أن تنشأ من أيديولوجيا ومعتقدات، هي نفسها جدلية هيجل وماركس عن عالم الأفكار وعالم المشاريع التي سلط عليها الضوء مالك بن نبي. فبينما اعتقد هيجـل أن عالم الأفكار (الأيديولوجيا) يسبق عالم المشاريع والمادة، اعتقد كارل ماركس أن الأفكار ليست سوى انعكاسٍ لعالم المادة والمشاريع (البرامج).فأيهما يصلح كأساس أول وسابق لتشكيل حزب سياسي؟.

عالم السياسة يجب قراءته بواقعية، فكما يبدو الواقع، يريد الفاعل السياسي (الحزب) أن يقرأه، ومن ثم ينطلق، ومن غير المرجو في اللعبة السياسية أن يساء تفسير الواقع أو قراءة المشهد. إن واقع الشرق الأوسط ومنطقتنا العربية، غارق تمامًا في عالم الأفكار وعالم المشاريع فيه (هش) غير صلب، وهي حقيقة من المحتمل أن توافق عليها كافة المدارس الفلسفية وعلماء الاجتماع. ولذلك تبدو فكرة أن تكون البرامج التنموية (عالم المشاريع) هي أساس تشكيل وتكوين الأحزاب هي من العمل بما «نتمنى» لا بما هو ممكن.

فالحزب الذي سينشأ ويتكون بناءً على رؤى مشتركة متفق عليها من قبل أعضائه في السياسات الخارجية ونظام الضرائب والتعليم والصحة والاقتصاد والعقوبات الجنائية (أي في البرامج) درجة تماسكه ستكون ضعيفة كضعف عالم المشاريع عندنا، ومن المحتمل أن يتعرض لتفتت أو تغير جذري في الـ Mainstream الخاص به على مدى قصير.

من المتوقع أن يتبادر للذهن سؤال كالتالي: حسنًا هل قامت الأحزاب الكبيرة في أمريكا وبريطانيا، على سبيل المثال، على أسس أيديولوجية محددة، أم على برامج سياسية؟

لنأخذ الحزب الديمقراطي بشكله الحديث الحالي في أمريكا، الحزب الذي كانت نواته أفكار جيفرسون التقدمية والتي دعته لرفض فيدرالية هاملتون وتأسيس (الحزب الجمهوري الديمقراطي)، وهذا بدوره فيما بعد نتج عنه الحزب الديمقراطي بقيادة آندرو جاكسون. وبالرغم من أن الحزب كان مناصرًا للديمقراطية والأفكار التقدمية وتدخل الحكومة لإجراء بعض الإصلاحات، إلا أنه أبقى على مؤسسة العبودية في بادئ الأمر، ثم تبلورت النزعة التقدمية للحزب بشكلها الحديث على يد فرانكلين روزفلت قبيل الحرب العالمية الثانية. و(التقدمية) فلسفة سياسية تنحى نحو مسايرة التغيرات الاجتماعية والإصلاحات الاقتصادية والسياسية تدريجيًا وبإجراء التدخلات الحكومية، وهي فلسفة يسار الوسط عمومًا في الطيف السياسي، و تتبنى نسقًا من المفاهيم (أيديولوجيا) يفسر ويسعى لإصلاح الواقع عبر منطق تدرجي progressive.

في الجانب الآخر كانت منظومة الأفكار المسيطرة على (الحزب الجمهوري) طابعها المحافظة، وهي الفلسفة السياسية التي تسعى للإبقاء على تقاليد ومؤسسات المجتمع ثقافيًا وتقاوم التغيرات عامة، وهي كذلك توجهات (حزب المحافظين) في بريطانيا، ومن هذه الرؤية المحافظة تصاغ تحركات الحزب وسياساته وبرامجه.

وبالارتكاز على النقط المرجعية هذه والأنساق الفكرية والثقافية التي تؤطر الحزبين الكبيرين، تبدو برامج كل من الحزبين الكبيرين في أمريكا وسياساتهما في الضرائب والقضايا الاجتماعية والعمالة والتجارة والرعاية الصحية والسياسة الخارجية والتعليم والحرية الفردية والعقوبات الجنائية قابلة للتفسير والتبرير من قبل أعضائهم ومناصريهم.

ما يجدر بالإشارة إليه أن مجموعة الأنساق والمعتقدات (الأيديولوجيا) التي تقوم عليها الأحزاب في الغرب تختلف غالبًا في طبيعتها عن تلك التي تخص الأحزاب في الشرق الأوسط. ففي منطقتنا هذه الأيديولوجيا المحدِّدة لحزب ما غالبا ذات طابع إطلاقي لارتكازها على ما هو مفارق (معتقدات ميتافيزيقة أو أديان سماوية)، وما هو مفارق لا يمكن بطبيعته أن يتساوى من حيث إطلاقيته مع ما هو طبيعي ومطابق، وإلا لما كان مفارقًا. ومن هنا تنشأ المشكلة الكبرى في السياسة في المنطقة عندما يتصادم مطلق الحزب مع مطلق الدولة؛ أي مع فكرة الدولة نفسها كنظام من حيث هي مطلق أم لا، ومن حيث درجة إطلاقيتها مقابل مطلق الحزب. في حين يبدو أن القوى السياسية في الغرب أصبحت ترتكز على مرجعيات ثقافية اجتماعية لا ترتفع بإطلاقيتها فوق الدولة، وهي مرحلة قطعت في سبيلها أشواطًا من الحروب والمعاهدات.

مما سبق توصيفه، تبدو فكرة الأحزاب المؤدلجة، من حيث هي، ليست منقصة ولا عثرة في طريقنا السياسي، و مقاومتها وسحب الثقة منها، لأنها مؤدلجة، قد لا يقل ضررًا عن كافة الأشياء غير المدروسة التي نمارسها، ولسنا في الوقت نفسه ننتظر طريق التجارب الطويل لنتأكد من صحتها أو خطئها، رغم أننا الآن ومنذ وقت ليس بالقصير نجني ونتحسس جدواها وفاعليتها وأثرها في المنطقة.

وما يمليه الواقع هو التحرك السياسي المستصحب لتجاربنا السابقة وتجارب الغير. ولأن الإصلاح أجدى من الهدم في زمن تتغير فيه المجريات السياسية بسرعة، وتزداد فيه قوة الأطراف المتغلبة باطراد على حساب القوى المهزومة، وجب أن تتدارك وتدرك قوانا السياسية ذاتها أن الشعوب تعلمها تجارب الفشل أن لا تعبأ كثيرًا بعالم الأفكار الذي ينتج لها الفوضى، أو تجد الفوضى من خلاله الطريق، ولكنها تدعم بكل حال ما يسعى في تخفيف ثقل الضغط الاقتصادي عليها وتتحسس من خلاله تنمية وانفتاحًا، ويضمن لها حياة كريمة توافق عليها كافة مكوناتها الاجتماعية والثقافية.

وعنق الزجاجة الذي نمر به يتطلب الامتطاط والتقلص على حسب حجمه بما يناسب الخروج منه بدلاً من الرجوع للقاع مرة أخرى لولادة قوى سياسية جديدة تناسب حجم الفوهة لكن رصيدها السياسي وتجاربها يساوي الصفر. وحزب (حركة النهضة) في تونس يمكن أن يمثل تجربة ناجحة بهذا الصدد.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.