إلى حد كبير، انتهى حصار قطر في جولته الأولى، ولم يُخلِف في الجبهتين، إضافة لنشر الغسيل المتسخ بين العرب والمسلمين في المحافل الدولية، إلّا مزيدًا من التراجع المهين للمؤسسات الدينية الكبري في العالم العربي، وهي التي أسقطت نفسها في فخ التوظيف الممنهج، لإكساب المعركة السياسية بين قطر والتحالف الرباعي المعارض بُعدًا دينيًا؛ الأمر الذي جعل من المحاصرة واجبًا شرعيًا أو العكس نهاية باغتصاب التاريخ القطري، وإلصاقه بشكل سريالي عجيب بـ قطري بن الفجاءة، أحد أهم أئمة الخوارج الأزارقة، مثلما يؤكد الشيخ «علي جمعة»، مفتي مصر السابق.

ويبقى السؤال: لماذا ظهر الأزهر والإفتاء السعودية، وهما مؤسستان رسميتان نافذتان، في مواجهة دينية، حملت نوعًا من التكافؤ في الزخم الديني، مع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ورابطة علماء أهل السنة، وهما بالأساس مؤسسات شبه رسمية، وتطوّر الأمر بعدما دخل على الخط رجال دين رسميين أو شبه رسميين، وأغلبهم مدعومون من الأنظمة الحاكمة، ليبدو أصحاب العمائم من كافة الأطراف المتصارعة، وكأنهم محاربون راديكاليون في المعركة، يحرّكهم صناع السياسة في بلدانهم، للسطو على حقائق لا يمكن حجبها بغربال.


المؤسسات الدينية وإشكاليات التعامل مع السلطة

حتى نفهم حقيقة دور المؤسسات الدينية وإشكالية تعاملها مع السلطة، يجب التيقن أولا أن الأنظمة الحاكمة في البلدان العربية لا يهمها الدور العام للدين في المجتمع العربي، بل مدى هذا الدور وحجمه؛ لذا نجد في معظم البلدان «بيئة دينية رمزية تعج بالبيروقراطيات الصاخبة التي يتحدى بعضها بعضًا» بتعبير ناثان براون، وتتنوّع فيها المهام، فتتصادم وتتصارع أحيانًا على إدارة المشهد الديني، ويصبح الولاء للحاكم مبدأ أصيلا للاستمرار في المنافسة على الصعود إلى قمة النفوذ الديني.

تسعى المؤسسات الدينية للتحالف مع السلطة لما يضفيه عليها هذا التحالف من سيطرة وسلطوية دينية علي الحركات والتيارات الدينية

وتستعين كافة الدول العربية بمؤسسات دينية إسلامية – رسمية أو شبه رسمية – وتمنحها دورًا رئيسًا في الحياة الدينية، ورغم ذلك لا تستثني السلطة السياسية نفسها من نفوذ وشأن داخل تلك المؤسسات، يمنحها سيطرة كافية على التعليم الديني، والمساجد، والإعلام الديني، المرئي، والمسموع، والمقروء؛ الأمر الذي يخدم الهدف الأكبر للسلطة السياسية، وهو تدجين الرموز الدينية وجعلهم تابعين لها.

علي الجانب الآخر، تعلم الأجهزة التي تدير السياسات في بلدان العالم العربي أن المؤسسات الدينية الرسمية تجد هي الأخرى في التحالف مع السلطة خيارًا جذّابًا، فالأنظمة السلطوية تعطي «الرسميين الدينيين»، سيطرة وسلطوية دينية على الحركات والتيارات الدينية، بغض النظر إن كانوا قادرين من الأساس على تقديم ما هو أبعد من أوهام الحلول لإصلاح وتجديد الخطاب الديني .

وتبدو «قضايا الإيمان» في المفاهيم العربية، ضمن مكونات الكثير من النزاعات السياسية، وبهذه الرؤية يصبح «الدين» شريكًا قويًا، سواء في آليات التصعيد أو مسوّغات الحل، لهذا زادت سيطرة الدولة على المؤسسات الدينية، وتوسّعت عمليات إخضاعها للسلطة السياسية.

ودائمًا ما تبحث السلطة عن ثلاثة مغانم من الحقل الديني، أولها، الحصول على الدعم لسياستها وأيديولوجياتها. والسعى إلى منع مناوئيها السياسيين من استخدام الحيز الديني لتعبئة الأتباع بهدف تحقيق أجنداتهم. وأخيرًا اهتمام بدا مؤخرًا، وبات محل تصارع بين بعض الدول، وخاصة الخليجية منها، وهو تحييد الجماعات المتطرفة التي لبعضها طابع عابر للقومية الوطنية، بل واستقطابها كسلاح يمكن توظيفه في أي لحظة إذا ما اشتعلت معركة خاملة بين دول بينها وبين بعضها ما صنع الحداد، كالتي اندلعت مؤخرًا بين قطر وجيرانها الخليجيين، بجانب مصر، وانتهت مؤقتًا إلى مصير غير مأمون العواقب.

و تتباين أشكال السيطرة من دولة لأخرى، رغم تشبّع الهياكل الرسمية الدينية بشدة، ما يجعل عمليات إخضاعها للتوافق مع الأهداف الأمنية والسياسة العامة للدولة، مهمة صعبة المراس في كثير من الأحيان، إلّا أن الأنظمة العربية تحتفظ لنفسها بسلسلة من الوسائل الرادعة، أهمها الرقابة الإدارية على الهياكل الدينية الرسمية.

فغالبًا ما يقوم رأس السلطة التنفيذية أو المؤسسة الحاكمة بتعيين كبار المسؤولين الدينيين، كوزراء الشؤون الدينية، وكبار قضاة المحاكم الشرعية، ومُفتيِّي الدولة، وكذلك كبار مسؤولي التعليم الديني، بجانب التحكّم في وضع الميزانية والتوظيف من القمة للقاع عبر مؤسسات سيادية نافذة، وهي وحدها التي تحدد المزايا والعطايا حسب تنفيذ المؤسسات وقياداتها ما يُطلَب منها لخدمة السياسة العامة للدولة.

والمثير، أن مراكز القوى في المؤسسات الدينية نفسها، تتنافس بشدة لنيل رضا تلك الأجهزة، الأمر الذي تدركه جيدًا الشخصيات الرئيسة، في المؤسسات الدينية مما يجعلها تخاطر أحيانًا بخسارة مصداقيتها، في سبيل الانسجام مع سياسات الحاكم، لتضمن لنفسها زمنًا أطول، في الأبهة والنفوذ الديني.


علماء الدين غير الرسميين

مع ظهور المحطات الفضائية في تسعينات القرن الماضي، حظي علماء الدين غير الرسميين من مختلف الألوان والتوجهات، سواء كانوا سلفيين أو إصلاحيين أو ذاتيي التعليم، بشعبية متنامية فاقت الإسلام الرسمي بمراحل، لدرجة أن فضائية «اقرأ» التي بدأت كمحطة دينية، كانت واسعة الاستقطاب في الثمانينيات، وفاقت جماهيريتها كافة وسائل الإعلام العربية الرسمية .

بدأت المؤسسات الرسمية التي لم تطوّر نفسها مع وسائل العصر، في الإحساس بالخطر، خاصة بعدما وجدت دعمًا مفتوحًا من الأنظمة لهؤلاء، سواء على مستوى الجبهة الداخلية، أو من خلال الدول التي كانت تريد وقتها البحث عن وسائل ونوافذ تمارس من خلالها التأثير عبر الحدود.

وكانت «قطر» على رأس هؤلاء، حيث استعانت بالشيخ «يوسف القرضاوي» في تقديم برنامج ديني قوي حول الشريعة الإسلامية، في قناة الجزيرة، وحظي بشعبية جارفة صبّت بالأساس في شعبية قطر وجزيرتها التي قدّمت إعلامًا مختلفًا عن الصياغات الرتيبة والمملّة في ذلك الوقت؛ وسرعان ما انضم إلى هذه المحطات جحافل من الدعاة والخطباء المفوهين الذين ارتفعت شعبيتهم أضعافًا مضاعفة.

تطوّر الأمر خلال العقد الأول من هذا القرن، وزادت الصورة اكتظاظًا واضطرابًا بظهور وسائط التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية التي تطرح توجهات وصيغًا دينية واسعة التشعّب على الخط، من برامج الفتاوى على الهاتف إلى النقاشات المثيرة والإيحائية، وحتى برامج تعليم الطبخ واللغة بسياق ديني، وطارحي الفتاوى، والمذيعين التعليميين، ليتنامى عدد المنافسين غير الرسميين في غضون سنوات.

لدرجة أنه من الصعوبة بمكان حاليًا رسم خط فاصل بين الدين الرسمي وغير الرسمي، بعدما بات علماء الدين غير الرسميين يطلّون علي المواطنين من خلال أجهزة الإعلام التابعة للدولة، في نفس الوقت الذي انتبه فيه المسؤولون الدينيون إلى ضرورة بناء قاعدة شعبية لهم من خلال الظهور على المحطات الفضائية ووسائط التواصل الاجتماعي.

كانت الصورة واضحة في صراع التقارب من السلطة والشارع في نفس الوقت في كل من مصر والسعودية؛ البلديْن اللذيْن يخرج منهما دائمًا كبار العلماء والمشايخ الرسميون وغير الرسميين، سواء داخل بلدانهم أو الذين سيطروا خارجها على السمع والبصر والفؤاد.

مصر

تتعدد وسائل السلطة، في السيطرة علي المشايخ لتطويعهم، والمتابع للخريطة الدينية الرسمية في مصر، سيجد أن دار الإفتاء، وشيخ الأزهر، وجامعة الأزهر، والمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وهيئة كبار العلماء، ومجمع البحوث الإسلامية، ولجنة الفتوى، سواء الذين انكمشوا وتقوقعوا داخل مؤسساتهم، أو من خرج منهم للساحة الإعلامية، وأصبحوا نجوما في سماء الإعلام الديني.

جميع أفراد تلك المؤسسات مؤهلون ومتطلعون دائما لاعتلاء قمة الهرم الديني في مصر، والسبيل الوحيد إلي ذلك معروف، إرضاء السلطة السياسية، أو على الأقل تفهم معطيات الواقع السياسي، وما هو مطلوب من المؤسسة في هذا التوقيت، وفقا لأولويات السلطة، وتصوراتها عن التحديات الراهنة.

السعودية

منذ نحو ثلاثمائة عام، والمشهد السعودي، يتلخص في عائلتين بارزتين، هما آل سعود، وآل الشيخ، ويتفق الطرفان على تقاسم السلطة، ودعم كل منهما للآخر، العائلة الأولى تتولى الشؤون السياسية، فيما يتولى «آل الشيخ» ـــ أحفاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـــ السلطات الدينية، والأخلاقية، والاجتماعية، والتعليمية.

ورغم نجاح الملك الراحل، عبد الله بن عبد العزيز، في تقليص دور علماء الدين، والحد من صلاحيات عائلة آل الشيخ، بعد إصداره أمرًا، في عام 2010، بحظر الفتاوى العامة، والأحكام الدينية، وأستثني فقط الدعاة المعتمدين، والمقربين من السلطة، في محاولة منه لدفع المجتمع السعودى إلى اتجاه أكثر حداثة، وإسكات الأصوات الأكثر تطرفًا، التى كانت تنتقد جميع مبادراته، إلا أن السلطة السياسية في المملكة، تجتهد دائما لاحتواء السلطة الدينية، في ظلم التزام العائلتين بالقوانين والتقاليد الأساسية، فلا يعين ملك دون موافقة القيادات الدينية، ولا يتخذ قرار مهما دون استشارتهم.

وتمَد العادات والتقاليد في السعودية، السلطة السياسية، بقوة لا مرئية، على حساب السلطة الدينية، لكنها محسوسة، فالقبائل المدعومة من السلطة، تلعب دورًا موحدًا ضد النزاعات، رغم تراجع زخم القبيلة والقبائلية، بعد تبدل دوائر المصالح في النظام الاقتصادي الجديد، وتعوض جهات الحكم السلطات الدينية عن ذلك، بدعمها ماديا بشكل سخي، وخاصة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، رغم كل اللغط الذي شابها في السنوات الأخيرة، كما تُمنع وسائل الإعلام الرسمية، من نقد مفتي المملكة، أو أعضاء هيئة كبار العلماء.

في مقابل ذلك، جرى كبح جماح هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي كانت تُربك النظام على نحو كبير، وظهر ذلك بوضوح في عام 2016 حين صدرت مجموعة من القيود التي حرمتها من بعض صلاحيات الشرطة التي كانت تمنحها نفوذا هائلا على سياقات الحياة الطبيعية للمواطنين.


أهداف النظام السياسي تكليف ذاتي

استعانت قطر بالشيخ يوسف القرضاوي لتقديم برنامج ديني بقناة الجزيرة، لزيادة شعبية القناة، ومن ثم دعم قطر إعلاميا.

تسيطر الأنظمة العربية بشكل كامل على آليات بث وترويج الرسائل الإيديولوجية التي تريدها، إلى شعوبها، فالبرامج المدرسية التي يشترك فيها التعليم الديني تتماشى مع وجهة نظر السلطة، لتجد لنفسها طريقًا آمنًا حتى دون أن تطلب الدولة ذلك؛ بات هنالك رقيب ذاتي موجَّه إلى حيث يريد الحاكم ويوّلي وجهه.

في مصر علي سبيل المثال، ستجد المناهج الدراسية وأسئلة الامتحانات المترتبة عليها تُصاغ وفق مجريات الأحداث السياسية، وما انتهت إليه وفق الرؤى الرسمية المعتمَدة؛ فرغم تقارب المدة الزمنية بين نتائج ثورة 25 يناير/كانون الثاني وموجتها في 30 يونيو/حزيران، إلّا أن الرسالة التعليمية تغيّرت لجيل واحد بمضامين مختلفة وربما متضاربة.

بالطبع الدولة كانت مسئولة بدرجة كبيرة، إلّا أن راجين «ذهب المعز» من المسئولين عن التعليم، يقع عليهم مسئوليات مضاعفة، سواء كانت تتعلق بمجالهم الذي لا يجب أن يكون ساحة للعب في عقول الطلاب، أو المسئوليات الأخلاقية التي تقبع على ما يبدو في ذيل اهتماماتهم .

وكذلك الحال في السعودية، فالكتب الدراسية تُصاغ بطريقة لصيقة بالتفسيرات الوهابية، بحيث تسجّل تقسيمات حادة ليس فقط بين المسلمين وغير المسلمين، بل هي تتخذ أيضًا خطًا صارمًا حيال ما تعتبره ممارسات ومعتقدات إسلامية قويمة، الأمر الذي يصب بالنهاية، في دوائر انغلاق المجتمع، وزيادة جرعات التعصب فيه.