أثرت الحركة النسوية الأمريكية في الخطاب النسوي العالمي، ولا سيما في أوروبا الغربية؛ وذلك لاتساع مساحة الإرث الثقافي المشترك بين أمريكا وأوروبا. ويمكن الحديث عن إرهاصات وعي نسوي منظم جماعي في أمريكا منذ منتصف القرن التاسع عشر. قبل ذلك بحوالي ثلاثة قرون كانت هناك كتابات فردية متفرقة في أنحاء مختلفة من أوروبا تناولت حقوق المرأة على استحياء في سياق قيم النهضة والتنوير.


رسالة إلى إله الحب

تشير سيمون دي بوفوار (1908 – 1986) وهي من رائدات الحركة النسوية الفرنسية، إلى أن أول من حملت القلم للدفاع عن بنات جنسها كانت الكاتبة الإيطالية الفرنسية كريستين دي بيزان (1364 – 1430) في كتابها: «رسالة إلى إله الحب»[1]. وفي مقولة تلخص قصة الحركة النسوية الأمريكية تقول ماريا بيا بوئيثوس، أشهر نسويات السويد: «في ستينيات القرن التاسع عشر وسبعينياته كانت نساء العالم تتابعن عن كثب الحركة النسائية الأمريكية لتكون لهن مصدر إلهام. تبدلت مقاليد الأمور الآن وأصبح لزامًا على الحركة النسائية في الولايات المتحدة أن تنسج على منوال باقي نساء العالم».[2]

في إشارة إلى الإخفاقات التي توالت على الحركة النسوية الأمريكية منذ منتصف ستينيات القرن العشرين بعد بدايتها القوية في منتصف القرن التاسع عشر، ولتبسيط ذلك سنعتمد ما ستقر عليه أغلب مؤرخي تلك الحركة من تقسيمها إلى 3 موجات على مستويات الفكر والممارسة والتنظيم.


الملكية والتصويت: ثم الصراع مع الرجل

بدأت أول دعوة منظمة لحقوق المرأة في أمريكا قبل بريطانيا بقليل بانعقاد مؤتمر «سينيكا فولز» (19 و20 يوليو 1848 – نيويورك) وحضره 300 شخص منهم 40 رجلاً، وكان اليوم الأول قاصرًا على الحضور النسائي.[3] وتأثرت منظمات هذا المؤتمر وبخاصة لوكريشيا موت وإليزتبيث ستانتون بالزخم الذي اكتسبتاه من حضور مؤتمر «لندن ضد الرق» (1840) حيث تعارفتا. ومن خلال المؤتمر النسوي الأول (1848) ظهر اتجاه نحو تبلور خطاب نسوي لأول مرة، لكنه لم يكن، بأي حال، شاملاً أو متماسكًا، إذ كان يفتقر إلى العمق النظري الذي ظهر لاحقًا.

تميزت الحركة المنبثقة عن «سينيكا فولز» بالتركيز على الحق في التصويت وحقوق الملكية الخاصة المنفصلة عن الرجل، وكان من أهم عيوب المؤتمر قلة – أو انعدام – تمثيل المرأة الأفريقية الأمريكية.

ومع اندلاع الحرب الأهلية (1860) انقسمت الحركة النسائية حول حقوق النساء الملونات، لكن سرعان ما التأم شمل الحركة بعد انتهاء الحرب. وفي 1920 توج نضال الحركة بالتعديل التاسع عشر في الدستور الامريكي الذي منح النساء، لأول مرة في التاريخ الأمريكي، حق التصويت، وكان هذا علامة فارقة في تاريخ الموجة النسوية الأولى. جدير بالذكر أنه في هذه المرحلة لم يكن هناك سوى اهتمام ضئيل بالحقوق التقليدية (حق العمل، الراتب المتساوي، الإجهاض، …إلخ)، وكان الاهتمام منصبًا على الملكية والتصويت.

وبصدور كتاب بيتي فريدان: «القداسة الأنثوية» (1964) انتهت الموجة الأولى وبدأت الثانية. بدأت النظرية تتخذ نمطًا صراعيًا بين الرجل والمرأة، وظهرت المطالبة بالمساواة المطلقة والحرية في الإجهاض، والمساواة في العمل والرواتب، والقضاء على الخطاب الذي يعتبر المرأة أداة متعة لا غير.

هذه الموجة (الثانية) استمرت حتى بداية التسعينات، ومن انتصارات الحركة فيها، مجموعة تشريعات أضافت الكثير لنضال النسويات منها إقرار المساواة في الأجور (1963)، تجريم التمييز الجنسي في العمل (1964)، إقرار الحق في الإجهاض (1965)، إنشاء المنظمة الوطنية للمرأة NOW التي أصبحت بيتي فريدان أول رئيسة لها.

وكانت هناك عدة تشريعات مماثلة في قضايا التعليم والذمة المالية والطلاق والزواج في الثمانينات والتسعينات. مثلاً، تم التقدم بقانون حق المرأة في الطلاق دون سبب أو ضرر يقع عليها، ولكن لم يتم إقراره إلا في 2010.

إجمالاً، تتميز الموجة الثانية ببدايات خطاب شامل ومتماسك دشنته فريدان في كتاب «القداسة الأنثوية». وتتميز هذه المرحلة أيضًا، بتشعب وتفرع المنظمات والاتحادات، وأيضًا الخلافات مع بوادر ظهور بعض تيارات ما بعد الحداثة في أواخر التمانينات، وهي تيارات لم تكتفِ بالمساواة مع الرجل ولكنها تعادي الرجل وتؤمن بأفضلية الأنثى ومركزيتها، بحيث لم تعد بحاجة إلى الرجل أصلاً.


الموجة النسوية الثالثة: ما بعد الحداثة

تأثرت هذه الموجة بعمق بفكرة ما بعد الحداثة في الخطاب الغربي، وفي رأيي المتواضع لم تكن كل تداعيات ما بعد الحداثة سلبية. ومن أهم إيجابياتها فكرة «نسبية الثقافات» والانتماءات من حيث جدارتها وأحقيتها في تمثيل نفسها وأنساقها القيمية في الحيز العام. كان هناك قطاع نسوي في الموجة الثانية لا يعنى إلا بحقوق المرأة البيضاء. وقامت الموجة الثالثة تحت تأثير ما بعد الحداثة بتصحيح هذا الوضع، وفي هذا الإطار شكلت الموجة الثالثة تحديًا من زاوية إعادة تعريف المفاهيم النسوية الأساسية التي جاءت بها الموجة الثانية [4].

أما عيوب الموجة النسوية الثالثة في أمريكا فتتلخص في التشظي والانقسام والرؤية الصراعية للعلاقة مع الرجل. بالنسبة للتشظي فيمكن الحديث الآن عن ثورة في الحركة النسائية من ناحية عدد الفروع، فهناك نسويات: لاهوتية، وجنسية وسوداء، …إلخ.

وبحسب الباحثة الفرنسية كريستين بارد، أستاذة التاريخ بجامعة أنجيه، وصاحبة «النسوية أبعد من الأفكار السائدة» (2012)، فقد خرجت إلى العلن في الأعوام العشرة الأخيرة حركات نسوية جديدة. ويلاحظ في الغرب، تحول الاهتمام والمناقشات من مسائل اجتماعية، كالمساواة في الأجور، إلى أخرى ثقافية ومعنوية، كـ«المعايير البيولوجية الأخلاقية أو المتصلة بالديانات»، وتتساءل كريتين بارد عما إذا كانت هذه المسائل «قرائن على موجة نسوية جديدة».

وتدور المناقشات اليوم حول تبلور موجة نسوية ثالثة، والمعايير التي يجب اعتبارها في التصنيف هي توجه الحركات النسوية ووسائل عملها وإطار العمل. ولا يلاحظ، في شأن التوجه، أمر جديد فعلاً، بل يغلب الثبات والتمسك بالخط الذي سدد خطى «حركة تحرر النساء».

والحركات الراهنة تحتسب تضافر أشكال التمييز وتشابكها: التمييز العرقي، والتمييز الاجتماعي، والتمييز الجنسي. ولا تقتصر على توجه «أبيض» و«غربي»، ولكن الإطار السياسي والاقتصادي والثقافي اليوم، مقارنة بنظيره في عقد السبعينات، يختلف اختلافًا حادًا. فالتيارات التي تناهض الحركة النسوية تفوق سابقاتها تنظيمًا و(دعوى) مشروعية. ومثال هذا: المطاعن في «نظرية الجندر».[5]

ومن الملاحظات المهمة أن الحركة النسوية – وهي في الموجة الثالثة من تاريخها – ما تزال تخضع لقراءات خاطئة. فبحسب الناشطة السياسية الأمريكية ناعومي وولف هناك قراءة «خاطئة إلى حد خطير للحركة النسائية، فقد اتضحت معالم الحركة النسائية في الستينيات والسبعينيات بفضل مؤسسات تابعة لليسار – في بريطانيا، كانت تتحالف غالبًا مع الحركة العمالية، وفي أمريكا ولدت من جديد بالتزامن مع ظهور اليسار الجديد – ولهذا السبب نشأ افتراض مفاده أن الحركة النسائية ذاتها لابد أن تكون يسارية. والواقع أن الحركة النسوية تنسجم فلسفيًا إلى حد كبير مع قيم محافظة، ومؤمنة بحرية الإرادة بشكل خاص».[6]


حديث المستقبل

كانت البدايات النسوية الأمريكية مزدهرة، وكانت هناك إنجازات مفعمة بالأمل في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين. لكن هناك 4 إشكاليات رئيسة أدت إلى إضعافها منذ منتصف الثمانينيات. أول الاشكاليات أن رائدات الحركة منذ 1848 حتى الآن فشلن تمامًا في تحديد هوية الحركة: هل هي سياسية أم فلسفية أم اجتماعية، وهذا أدى إلى خلط وانشقاقات، وبخاصة إبان بداية الموجة الثالثة التي حصدت عواقب هذا الغموض. الإشكالية الثانية تتعلق بتأثير السياسة الخارجية الأمريكية السلبي على الحركة، وبخاصة بعد الحرب العالمية الثانية.

فقد أفقدت هذه السياسة قابلية الحركة للتواصل الفعال مع مثيلاتها في العالم وما يشمل ذلك من تبادل خبرات. وفي النهاية، فإن إشكالية الحركة النسوية الأمريكية الآن هي نفسها أزمة ما بعد الحداثة بنسبيتها وعدميتها. رابعًا، هناك اشكالية تكاد تكون موجودة في كل المجتمعات البشرية الآن بدرجات متفاوتة، هي إشكالية النزوع الاستهلاكي والتسليع الجنسي للمرأة. لقد حاولت الحركة النسوية الأمريكية في مرحلتي: الجذور والفروع تحريك المياه الراكدة وكانت لها الريادة في وقت ما، وهي تواجه الآن تحديات ما بعد الحداثة.


[1] انظر تاريخ النظرية النسوية: هنا.

[2] انظر سوزان فالودي: الحركة النسائية – مؤسسة قطر.

[3] سارة جامبل: النسوية وما بعد النسوية، ترجمة أحمد الشامي، المشروع القومي للترجمة، مصر 483.

[4]HISTORY AND THEORY OF FEMINISM.

[5] كريستين بارد: الحركة النسوية وتياراتها «الجديدة»، جريدة الحياة اللندنية، 12/ 11/ 2013، إعداد: منال نحاس.

[6] ناعومي وولف: الحركة النسوية الرجعية في أمريكا، جريدة الراية القطرية، 7/ 8/ 2011.