محتوى مترجم
المصدر
In These Times
التاريخ
2016/04/29
الكاتب
Slavoj ŽiŽek

في بعض الأحيان، تصبح الوجوه رموزا للقوى المجهولة التي تقف وراءها. ألم تكن ابتسامة جيرون دايسيلبلوم، رئيس مجموعة اليورو، الغبية رمزا للضغط الوحشي الذي مارسه الاتحاد الأوروبي على اليونان؟ مؤخرا، اكتسب منتدى الشراكة التجارية والاستثمار عبر الأطلسي (TTIP)، وهو ابن العم الأوروبي لمنتدى الشراكة الاقتصادية الإستراتيجية عبر المحيط الهادئ (TTP)، رمزًا جديدًا وهو: الوجه البارد للموفوضة التجارية للاتحاد الأوروبي سيسيليا مالمستروم التي كان ردها على المعارضة الشعبية لمنتدى الشراكة التجارية والاستثمار عبر الأطلسي بالقول: «أنا لا أستمد شرعيتي من الشعب الأوروبي».

الآن، ظهر على الساحة رمز جديد على شاكلة السابقين وهو: فرانس تيمرمانس، أول نائب رئيس للمفوضية الأوربية والذي، في 23 ديسمبر 2015، وبَّخ الحكومة البولندية لاعتمادها قانونًا جديدًا يُخضِع المحكمة الدستورية البولندية لسلطة الحكومة. أدان تيمرمانس أيضًا القانون الذي يسمح للبرلمان البولندي بتغيير جميع المديرين التنفيذيين لشركات الإذاعة والتلفزيون العامة في البلاد. وفي نقدٍ فوريٍّ، طالب القوميون البولنديون بروكسل: «بممارسة المزيد من القيود على سَنّ القوانين وتحذير البرلمان والحكومة بشأن ديمقراطية وسيادة الدولة».

من وجهة نظر اليسار الليبرالي، فإن وضع الأسماء الثلاثة السابقة في سلسلة واحدة ليس أمرًا سليمًا، فدايسيلبلوم ومالمستروم يمثلان ضغط البيرواقطية في بروكسل، والتي تفتقد لشرعية ديمقراطية، على الحكومات المنتخبة ديمقراطيًا، في حين تدخل تيمرمانس في أحيان كثيرة لحماية ما لا خلاف عليه من استقلال القضاء وحرية الصحافة. وقد تبدو المقارنة مجحفة بين ضغط النيوليبرالية الوحشي على اليونان وانتقاد تيمرمانس المبرر لبولندا، ولكن ألم يكن رد فعل الحكومة البولندية دليلا على تعرضها للضغط؟ فتيمرمانس ضغط بالفعل على حكومة منتخبة ديمقراطيا في دولة ذات سيادة.

في الآونة الأخيرة، عندما كنت أجيب على أسئلة قرَّاء «زود دويتشه نسايتونج» (جريدة ألمانية يومية)، حول أزمة اللاجئين: كان السؤال الأكثر جذبا للاهتمام هو سؤال الديمقراطية، لكن بنظرة يمينية شعبوية متطورة. لقد دعت أنجيلا ميركل دعوتها المعروفة لمئات آلاف اللاجئين بالتوجه لألمانيا: من أعطاها حق الدعوة؟ وجهة نظري هنا لا تدعم الشعبوية المعادية للمهاجرين، ولكن لإلقاء الضوء على حدود الشرعية الديمقراطية. نفس الأمر ينطبق على أولئك الذي يدعون لفتح الحدود كليا: هل يدركون أن طلبهم، بما أن الديمقراطيات هنا هي ديمقراطيات دول قومية، يعني إرجاء الديمقراطية، أو بمعنى آخر ، السماح بحدوث تغيير ضخم دون تشاور ديمقراطي؟

أنا لا أخشى حتى أن أقول أن السياسات التحررية لا يجب أن تكون مقيدة مسبقا بالإجراءات التشريعية الديمقراطية الرسمية.

نواجه هنا نفس الإشكالية القديمة: ماذا يحدث للديمقراطية إذا كانت الأغلبية تميل للتصويت لصالح العنصرية وقوانين التعصب الجنسي؟ مِن السهل حقيقة تخيُّل أوربا أكثر ديمقراطية بمواطنين أكثر انخراطا في تشكيل حكومات أغلبيتها قائم على الأحزاب الشعبوية المعادية للمهاجرين. أنا لا أخشى حتى أن أقول أن السياسات التحررية لا يجب أن تكون مقيدة مسبقا بالإجراءات التشريعية الديمقراطية الرسمية.

بالطبع، لا يوجد ممثل سياسي جيد يعرف ما هو الأفضل للشعب، ويحق له فرض رأيه على الناس رغما عنهم (كما فعل الحزب الشيوعي الستاليني). ومع ذلك، فعندما تشكل إرادة الأغلبية انتهاكًا واضحًا للحريات الأساسية، فللمرء الحق، بل يكون لزوما على المرء، معارضة تلك الأغلبية. هذا ليس سببا لبغض الديمقراطية؛ بل فقط إشارة إلى أن الديمقراطية في حد ذاتها ليست مؤشرا على الحقيقة. وكقاعدة عامة، الانتخابات تعكس الحكمة العادية التي تقررها الأيديولوجية المهيمنة.

من ثمَّ، يجد نُقَّاد الاتحاد الأوروبي اليساريون أنفسهم في مأزق. فهم يستنكرون «عجز الديمقراطية» في الاتحاد الأوروبي، مقترحين خططا لجعل اتخاذ القرارات في بروكسل أكثر شفافية، لكنهم في الوقت نفسه، يؤيدون الإدارة «الغير ديمقراطية» في بروكسل ضد التوجهات «الفاشية» المشرعنة ديمقراطيًا. ما يكمن وراء هذا التناقض هو هذا الذئب المتوحش الكامن في اليسار الأوروبي: فخطر فاشية جديدة محتملة تجسد في الشعبوية اليمينية المعادية للمهاجرين. وعليه، فإن هذا الشبح يجب النظر له باعتباره العدو الرئيسي الذي يجب التوحد ضده، بما في ذلك (ما تبقى من) اليسار الراديكالي وحتى الليبراليون الديمقراطيون السائدون (بما في ذلك مسئولو الاتحاد الأوروبي أمثال تيمرمانس): تصور أوربا الآن كقارة تنحدر نحو فاشية جديدة تتغذى على كره هيستيري وخوف لا حدود له من العدو الديني–العرقي، والذي يكون غالبا هو (المسلمون). وفي حين أن هذه الفاشية الجديدة سائدة في بعض بلدان أوربا الشرقية مثل: المجر، بولندا، … إلخ، فإنها آخذة في الصعود في دول أخرى في الاتحاد الأوروبي حيث يُرى اللاجئون المسلمون على أنهم غزو يهدد الحضارة الأوروبية.

ربما لهذا السبب كان يجب أن يموت فورتين لأنه دليلٌ حي على أن تناقض اليمينية الشعبوية مع الاستقامة الليبرالية ليس حقيقيا.

لكن هل هذه فاشية حقا؟ كثيرا ما يستخدم هذا المصطلح لتجنب التحاليل المفصلة. فالسياسي الهولندي بيم فورتين، والذي قتل قبل أسبوعين من الانتخابات التي كان متوقعا له الفوز بخُمس الأصوات فيها، كان شخصية متناقضة: فقد كان يمينيا شعبويا تمثل آراؤه (بالنسبة للأغلبية) تمام «الصحة السياسية»، كان مع ذلك مثلي الجنس أيضًا، كانت لديه علاقات جيدة مع العديد من المهاجرين، وحس ساخر بالفطرة، … إلخ؛ باختصار ، كان جيدا، ليبراليا متسامحا إزاء كل شيء إلا مبادئه السياسية الأساسية. لقد عارض فورتين المهاجرين الأصوليين لافتقارهم للتسامح تجاه المثلية الجنسية، حقوق المرأة، الاختلافات الدينية، …إلخ. لقد جسد فورتين التلاقي بين الشعبويّة اليمينية والاستقامة السياسية الليبرالية. ربما لهذا السبب كان يجب أن يموت، لأنه دليلٌ حي على أن تناقض اليمينية الشعبوية مع الاستقامة الليبرالية ليس حقيقيا، بل أننا نتعامل مع وجهين لعملة واحدة.

لقد مجّدَ العديد من اليساريين الليبراليين، مثل يورغن هبرماس، الاتحاد الأوروبي «الديمقراطي»، الذي لم يكن -واقعيا- موجودًا أبدًا. حتى أن سياسات الاتحاد الأوروبي في الآونة الأخير ليست سوى محاولة يائسة لجعل أوربا أكثر ملاءمة للرأسمالية العالمية. ينم النقد اليساري الليبرالي المعتاد للاتحاد الأوروبي –والذي يرى أن الأمور بخير، هناك فقط «عجز في الديمقراطية»– عن نفس سذاجة نقاد الدول الشيوعية الذين أيدوا الشيوعيين وتحسروا على غياب الديمقراطية في الوقت ذاته. في كلتا الحالتين، يكون انحصار الديمقراطية جزءا لا غنى عنه في هيكل البناء.

وفي إشارة لانتخابات ائتلاف اليسار الراديكالي «سيريزا» في اليونان، في ديسمبر/كانون الأول 2014، نشرت صحيفة الفاينانشال تايمز عمود بعنوان: «الحلقة الأضعف في منطقة اليورو هي الناخبون». في عالم السيدة الوردية (لقب الفاينانشال تايمز) المثالي هذا، تتخلص أوروبا من تلك «الحلقة الأضعف» وتختبر اكتساب القوة لفرض تدابيرها الاقتصادية بشكل مباشر. لذلك فإن إجراء الانتخابات وظيفته تأكيد ما اتفق عليه الخبراء بالفعل. فكما قال مسئولو الاتحاد الأوروبي، وكذلك رئيس وزراء ايطاليا السابق ماريو مونتي، من قبل: «أولئك القابعون في السلطة لا يجب أن يسمحوا لأنفسهم بالالتزام كليا بالبرلمانيين».

لذلك، فإن الطريقة الوحيدة لمواجهة «عجز الديمقراطية» داخل الرأسمالية العالمية ككيان سيكون عبر كيانات عابرة للحدود القومية. من ثمَّ، فإن الدول القومية لا تخدم كحصن ضد الرأسمالية العالمية، يرجع ذلك لسببين: الأول، أنه أمر بديهي لضعف موقفهم في مواجهة الاقتصاد كقوة عالمية؛ السبب الثاني، هو أن القيام بهذا الأمر يستلزم وجود دولة قومية ذات سيادة قادرة على التعبئة القومية الأيديولوجية، بالتالي تجعل نفسها عرضة للشعبوية اليمينية. اليوم، تعتبر بولندا والمجر من الدول القومية المعارضة للعولمة.

التناقض الأساسي الكامن في الرأسمالية العالمية: أن فرض نظام سياسي عالمي من شأنه التوافق مع النظام الرأسمالي العالمي أمر مستحيل.

يقودنا هذا إلى التناقض الأساسي الكامن في الرأسمالية العالمية: أن فرض نظام سياسي عالمي من شأنه التوافق مع النظام الرأسمالي العالمي أمر مستحيل من الناحية الهيكلية، وليس سبب هذا أن تنظيم انتخابات عالمية أو مؤسسات عالمية أمر مستحيل تجريبيا، بل لأن السوق العالمي ليس محايدا، فالآلة العالمية لا تطبق نفس القواعد على الجميع. فالأمر يتطلب حقلا كبيرا من الاستثناءات، وانتهاكًا للقواعد الخاصة، بما في ذلك التدخلات الاقتصادية (العسكرية) وما إلى ذلك. لذلك، فيما يتجه اقتصادنا أكثر وأكثر نحو العالمية، فإن «القمع» المجهول في الاقتصاد العالمي يظهر في السياسة: بخاصة القواعد الراسخة القديمة (الدينية والثقافية والعرقية) للهويات. هذا التوتر هو ما يعرف مأزقنا اليوم: فالتداول العالمي الحر للسلع قائم على توسيع الاختلافات والانقسامات الاجتماعية. فالسلع تنتشر أكثر وأكثر، فيما تسجن الناس جدرانٌ جديدة أكثر وأكثر (من أول الجدران المادية مثلما هو الحال في الضفة الغربية وبين الولايات المتحدة والمكسيك) لإعادة التأكيد على الهويات العرقية والدينية.

هل هذا يعني أنه علينا تجاوز مسألة دمقرطة أوروبا كطريق مسدود؟ بالعكس، هذا يعني، وبالذات بسبب أهميتها المركزية، أنه علينا التعامل مع الأمر بشكل جذري. فالمعضلة الأكثر جوهرية هي: كيف يمكن تحويل نُظُم حياتنا الاجتماعية الأساسية، من الاقتصاد إلى الثقافة، لكي تصبح الديمقراطية وحرية اتخاذ القرار حقيقة وليست مجرد طقوس لإضفاء شرعية على قرارات مأخوذة بالفعل في مكان آخر.