يرصد الكاتب المصري عبد الله النديم صاحب مجلة الأستاذ الأسبوعية المصرية،ـ التي بدأت في الصدور منذ عام 1892م، أثرًا من آثار الاحتلال الاجنبي للعالم الإسلامي، وهو أثر يبدو من تاريخ المقال الذي كُتب في إبريل من عام 1893م، أي بعد 11 عامًا فقط من الاحتلال الانجليزي لمصر، ونظيره الفرنسي لتونس.. أنه كان شديدة الوطأة، خطير الانعكاس في الآداب والحياة الاجتماعية لمصر آنذاك، فالنديم الذي عُرف عنه فكاهته وطرافته ودعاباته، يرصد بمنتهى الجدية والحزن – في هذا المقال- أثر الفحش والبغاء والمواخير على الشباب في البلدان العربية، وعلى أموال الناس، بل وعلى النساء اللاتي كن يتأثّرن بهذه العوائد «الهمجية» كما يصف النديم؛ لذا فإن المقال وثيقة مهمة للتاريخ الاجتماعي لمصر الحديثة تحت ظل الاحتلال.


الشرق الهادئ المستقيم

مَنْ قابلَ بين بلاد الشرق قبل استيطان الأوروبيين بها وقبل استيلاء بعض دول أوروبا على بعضها، وبين حالتها الراهنة من حيث الآداب العامة رأى فرقاً كبيراً، وتبايناً عظيماً؛ فإن الواقف على عادات الشرقيين وقواعد أديانهم يعلم أن المسلمين والمسيحيين والإسرائيليين يرون تحريم الزِّنا من الجهة الشرعية وقبحه من الجهة العقلية، ويرون صيانة الأعراض من الواجبات، ومع خروج نساء الريف مكشوفات الوجوه كنساء عرب البادية واليهود؛ فإنه ما كان يجرأ رجل على التعرّض لامرأة بشيء يمسّ الشّرف، ولو وقع شيء من ذلك لهلك في الحال بإيقاع أهلها به، وربما أوقع به أجنبي منها.

لم توجد بَغِيٌّ في بيت متظاهرة بالبغاء بل تتستر بقدر ما يمكن خوفاً من عِلم الحكومة بها فإن الحكومات الشرقية كانت محافظة على الآداب الشرعية والحقوق الشخصية

وكان الناس على اختلاف أديانهم يتحاشون وجود النساء معهم في المجامع، واختلاطهم بهن في الأفراح، ويمتنع كل الامتناع دخول امرأة في مجمع لهو. وإذا لعب الهوى بعقل امرأة تركَت بلدها وإقليمها وسكنت في بلد آخر خوفاً من فتك أهلها بها، ولا يمكنها أن تنتسب إلى أهلها أو تخبر باسمها الأصلي، بل تُغيّره وتدعي النسبة لغير أهلها ستراً عليهم وخوفاً من عثورها بهم.

ولا توجد بَغِي في بيت متظاهرة بالبغاء بل تتستر بقدر ما يمكن خوفاً من عِلم الحكومة بها فإن الحكومات الشرقية كانت محافظة على الآداب الشرعية والحقوق الشخصية؛ فكانت إذا عثرت ببغيّ عاقبتها وأبعدتها خشية أن يسري ضررها على جارتها بإفسادها عقولهن بما تغرسه فيها من تزيين البِغاء، وتحسين مجامع الفساق، ومدح الغلمان، وذم الاحتجاب وغير ذلك مما تحتال به على هتك الأعراض، وإخراج المخدرات على الطرقات بالحيل والإيهام؛ فكانت الأعراض مصونة، والرجال آمنون على بيوتهم غابوا أو حضروا؛ لعدم اشتغال أفكارهم بشيء يشوّش عليهم من جهة النساء، وإذا سافر أحدهم سفراً بعيداً أو قريباً أوصى جاره على بيته فيتعهّد أهلَه وأولاده، ويقضي حوائجهم، ويغار عليهم غيرته على أهله، ويحافظ عليهم محافظته على بيته وعرضه، وربما جاور الرجل أخاه من الصغر إلى الشيخوخة ولم يتّفق له أن رفعَ بصره لشباك أخيه مرّة، فضلاً عن تعرّضه لحُرمه، وكان الرجال المسلمون أبعد خلْقِ الله عن الخمر، والإسرائيليون لا يشربونها إلا في الأعياد، والمسيحيون لا يشربون منها إلا القليل في أوقات مخصوصة، أما نساء الأقسام الثلاثة فإنها ما كانت تذوقها، ولا كان الرجال يُدخلونها عليهن لعلمهم أن ما بعد سكر المرأة إلا الافتضاح والميل على البغاء.


أسباب العدوى

فلما تداخل الأوروبيون في البلاد الشرقية بالتجارة والتغلُّب أفسدوا أخلاق الرجال والنساء بما أدخلوه فيهم من مُسمّى مدنيتهم التي هي الرجوع إلى البهيمية؛ حيث دخل الشرقُ الكثيرَ من نسائهم البغايا، وفُتحت المحلات جهاراً، وتعرّضن للشبان والكهول في الطرقات، وتزيَّنّ بأحسن ما يمكنهن، وخرجْنَ يعرضْنَ أنفسهن على المارة في الطرقات، فاستَمَلْنَ عقول الشبان، ثم جذبن ضعفاء العقول، وما زِلْنَ يتنقلن من صورة إلى أفظع منها حتى دخلْنَ البيوت زائرات فأفسدْنَ أخلاق كثير من النساء الشرقيات، ثم اتخذَهُن الفُسّاق وسائط فلَبِسْنَ الملابس البلدية، ودُرْن في بيوت الأحرار، فعَمَّت البلوى، وأخذ نساء الشرق يتجرأن على الخروج من البيوت سراً، ثم تظاهرن فخرجن جهراً، ثم تمادَيْنَ حتى صارَت المرأة تتركُ زوجها، وتفتحُ لها محلاً في بلده أو حارته، وانتهى الأمرُ بشُرب النساء الخمر، فزاد التهتُّك، وضاعت أعراض كثيرة، وافتضحت مخدرات، وذهب مجد بيوت عالية بخروج بعض نسائها لهذا الأمر الشنيع، ثم ترقَّى الفجورُ إلى أن صار النساء يحضُرْن مجالسَ اللهو، ويذهبن إلى «التياتُرات»، ويرقُصْنَ في «البالو» بأنفسهم بحضور أزواجِهن، ويشربْنَ الخمور في المواخير ومجامع الأوباش، وهم بحضرة رجالهن، وصار الرجلُ لا يأْمَن أخاه على زوجته، والجار لا يخاف إلا مِن جاره، ووقعت الشبهةُ على كلِّ مارّ في الطريق، وأصبح أصحاب الأعراض النقية في حروب شديدة بما يقاسونه من السعي خلف الصيانة والحفظ، والخوف من الانحدار في هذا التيار القبيح الذي جَرَف البيوت المقفلة على مَن فيها، فهدَم أسوار صيانتها، وزلزل أركانَ عفّتها، وتركت من كان فيها كالدر في الصدف مُبتذلاً بين الناس مُعرضاً للفساد.

وقد وقف الناسُ على أسرار بعضهم، فحدَّث كلٌّ صاحبه بمن يعرفها من النساء، وما فعله من القبيح، وأخذَ كلٌّ يُشيع ما سمعه عن امرأةِ غيره، وهو لا يدري أن غيره يُشيع على امرأته ما هو أشنع وأفظع، وقد تهاونت الحكوماتُ الشرقية في هذا الباب تهاون الراضي بهذا الابتذال، وربما رخّص بعضها فيه بأمر وعالج البغايا للزناة بأطباء من عنده بدعوى المحافظة على الصحة، ولو حافَظَت على الأعراض ما وقَعَت في هذا العار الشنيع.

وقد زاد ضرر الزُّناة حتى صاروا يتكلمون في أعراض الطاهرات المصونات كذباً وافتراء، ويرمونهن بالقبيح بغياً وعدواناً، وصار البغايا كذلك يسمون أنفسهن بأسماء نساء البيوت العالية، والنساء الطيبة البريئة من هذه الدنيئات.


في تونس المصيبة أعظم!

وهذه أمور لم تكن معهودة في الشرق قبل تجوّل الغربيين فيه، وكنا نتألم نحن معاشر المصريين من هذا العيب القبيح والخروج المذموم؛ ظناً منا أن ما أدخله الإفرنج في بلادنا من المصائب لم يُصَب به غيرنا، ولكننا علمنا من أحوال تونس ما هو أقبح وأشنع، فعلمنا أن ذلك أمر مقصود لكل دولة أوروبية حلَّت بلاداً شرقية؛ لحلِّ عروة الدين التي هي العروة الوثقى في الجامعة العصبية، والالتئام الوطني.

فقد رأينا في جريدة الزهرة التونسية حال كلامها على الحكومة الفرنساوية ما نصُّه: «وليس لها من مأثرة حميدة تُذكر، أو صُنع جميل يُشكر؛ سوى تكاثرِ الفواحش والفساد والإضرار بالعباد، فمنذ تغيّرت الهيئة البلدية السابقة؛ عَظُم مُصاب المومسات الأوربيات، وتفاقم خطبُ انتشارهن بين الحرائر في معظم الشوارع المعتبرة، وفي حارات الأهالي والأجانب، وكثرت أسواق الفجور واشتدّت وطأة انتصابهن بالشوارع وأبواب دكاكينهن، وتجاذَبَهن أثواب العابرين، واتَّسع خرق اعتدائهن على الجيران، والعبث براحتهم بألوان المنكرات آناء الليل وأطراف النهار، وما لجيرانهم من ظهير ولا نصير يُقدِّمون العرْض حالات، ولا يجابون ويشتكون ولا يُسْمَعون، وكيف يُرجى الإصلاح من إدارة مهملة مستبدة معتدية على القوانين لا دأب لها إلا استخلاص «الفرنكين» ونصف معلوم الاختبار الطبي من ساكنات حواني مصدرة بفرش لا تبعد ذراعين عن أبوابها بدون أن تأخذها في هذا العار لومة لائم».

وبعد كلامٍ طويل في الإدارة وسوء أعمال الأجانب فيها قالت: «وطالما كتبنا المقالات المسهبة، والاستلفاتات المطوّلة، وبيّنا سوء الحالة الراهنة، وهتك الإدارة البلدية لحرمات النظامات والعوائد بإباحتها للمومسات السُّكني حيث يَشأْن، وإحداثها أسواقاً للفسوق بأحسن مراكز، وأهم شوارع مدينة توفّرت فيها محاسن المدنية، وحافظ أهلُها على قوانين الحياء والآداب العامة، فلم تكتَرثْ بشيء من ذلك، ولم يزدها إلا عناداً، وكأنَّ لسان حالها يقول: إني أفعل ما أشاء وأخالف القوانين والعاجز من لا يستبد!».

ثم أطالت في هذا الموضوع بما يوقف كلّ شرقي على توحيد وجهة الأوروبيين في إفساد أعراض الشرقيين وعقولهم، وإذهاب أموالهم ومعتقدهم بما يُدخلونه عليهم من هذه المصائب والدواهي، ولكننا معاشر المصرين لم ندخل تحت الحماية الإنكليزية دخولَ تُونس تحت الحماية الفرنساوية، فماذا يمنعنا من المحافظة على الآداب والقوانين الشرعية فيما يختصُّ بالعِرْض وصيانته، ونبعد المومسات والبيوت السِّرية عن مساكنِ الأحرار، ونحجِر على كل امرأةٍ ذات بَعل أو بيت شريف الوصولَ إلى البقعة النجسة التي تتعيَّنُ للبغايا، ونُشدِّد العِقاب والنكال على مَن هَتَكت حِجابَ عِفَّتها من أي بيت كانت ردعاً وزجراً وحفظاً لذوات المجد والشرف، ومَن يرى مانعاً من ذلك؟!


نداء إلى الخديوي «عباس» وحكومته

ولكننا معاشر المصريين لم ندخل تحت الحماية الإنكليزية دخولَ تُونس تحت الحماية الفرنساوية، فماذا يمنعنا من المحافظة على الآداب والقوانين الشرعية فيما يختصُّ بالعِرْض وصيانته؟

والأوربيون عند اختلاطهم بنا لم يشترِطوا علينا التخلّي عن بعض أحوال ديننِا، والتنازل عن عوائدنا وشرف بيوتنا، وإنما كان ذلك بتهاونِ الرجالِ في خروج النساء من البيوت، وتغاضي الحكومة عن امتداد القبائح وانتشارها، والتوسع للنساء في المجامع وأماكن الملاهي، وابتذال الرجال في السُّكر، وسهرهم في البيرة والخمَّارات وبيوت العاهرات، وتركهم نساءهم يتقلَّبْنَ على جمر الانتظار حتى وقَعَ الملالُ وجرَّ إلى الخبل والخلل، ثم إلى تكاثُرِ العلل والتعوُّد على الزلل، وأصبَحت الطُّرقات ممتلئة بالمومسات في صُوَر الحرائر، وفُتِحت القهاوي لرقْص الشَّرقيات بين أهلهن والأجانب، وأسودَّ وجهُ المجد بما يُسفِّه أحلامَ الشرقيين، ويُلحقهم بالقرود في التقليد الأعمى.

ضحكت علينا الأمم بكل ما يُضحك به على الأطفال؛ نخدم ونصنع ونزرع فإذا حصَّلنا شيئاً من المال صرفناه للأجنبي والأجنبية حتى أصبحوا أغنياء، وأصبحنا فقراء!

فنحن نُقسم على الحكومة بما علمته مِن شرف الصيانة ومجد الاحتجاب، وما متَّعت به رعاياها قبل ذلك مِن قَطْعِ عُروق الفسادِ وعِقابِ الزناة، وإصلاح شأن الشبّان أن تغيثنا بتدارك الخطْبِ قبل أن يقعَ فيه العظيمُ والحقيرُ، ويرجع الناس إلى البهيمية بمزج الأنساب بطريق العيثِ والإفساد، ووقوع البلاد في مصائبِ التلوّثِ بالقبيحِ إلى درجةٍ لا يُمكنُ تداركها؛ فإننا نَرى هذا الأمر يزيدُ كلَّ يوم بقدْرِ ما كان يحصلُ منه في قرن قبل هذه الأيام السوداء.

ولا يعزّ على الحكومة اتخاذ طُرق الصيانة، وكفِّ البُغاة عن أعراض الحرائر، وهي في قبضة الأمير الغيور على الحرمات حضرة الخديوي الأفخم مولاي الشَّهم عبَّاس باشا الثاني (الخديوي عباس حلمي تولى الحكم من 1892- 1914م) ولا همّ له إلا إصلاح شؤُونِ بلاده، وتقدُّم الأمة في الآداب، وحفظها من كلّ ما يُثلم الشرف، وقد عَهِد إلى وزيره الشهير بصدْقِ الوطنية ذي الدولة رياض باشا الذي يهمهُ في هذا الشأن ما لا يهم غيرهُ؛ لشدة غيرته على آداب الأمة، وصيانة حقوق أهل بلاده المقدسة. ونحن على يقين مِن سَماع هذا النداء، وإجابة الطلب؛ فقد اتَّسعَ نِطاق الفُسّاق، وراجت أسواق الفسوق، وغَفَلَ الشبانُ الأغرار عمَّا وراء ذلك من ضَياع المجد، وسوء المصير؛ إذ لم يجدوا زاجراً يردعهم عن غوايتهم، ويردَّهم إلى ما هو الأنفع الأصلح لهم، خصوصاً أبناء الأغنياءِ الذين شبّوا على السَّرَف والتلف، وبعدوا عن طُرق الكمالِ، واسترسَلُوا خلف الشهوات آذانهم، لم يتعبوا في تحصيل شيء مما يُنفقونه حتى يعرفون قيمته، وإنما جَمَعهُ آباؤهم من وجوه شتى فتسلَّط عليه هؤلاء السفهاء الأغبياء بالصرف فيما يجلبُ العارَ والنارَ، وأبقوا لهم السؤال عنه يوم لا ينفع مال ولا بنون، فعليهم أن يُساعدوا الحكومةَ بالحجْزِ على أبنائهم، والتجسُّسِ عن أحوالهم، وزجْرِهم بما يَرُدُّهم عن هذا الطريق الهمَجي، ويكفي ما فات؛ فقد ضحكت علينا الأمم بكل ما يُضحك به على الأطفال، ونحن عن مقاصدهم ساهون؛ نخدم ونصنع ونزرع فإذا حصَّلنا شيئاً من المال صرفناه للأجنبي والأجنبية حتى أصبحوا أغنياء، وأصبحنا فقراء، وكل ذلك طرأ علينا بعدم المحافظةِ على عوائدِنا الدينية والوطنية، وتهاون القادة وتساهلهم، والدواء غير متعذَّر إذا بحثتِ الحكومةُ في هذا الأمر العظيم، وحافظت على المال والعِرْضِ بوضع الحدود والأوامر النافذة، ولا نلبثُ أن نراها اجتهدت وفعلت، وما ذلك على الله بعزيز.

المراجع
  1. مجلة الأستاذ المصرية، العدد 34 – القاهرة 1893م.