نحن لا نماري في أنّ الحضارة العربية الإسلامية، مثلها مثل الحضارة المسيحية اللاتينية، مارست التفكير في العقل. لكن ليس كل تفكير في العقل مثل أي تفكير في العقل. فحتى التفكير في العقل له نسبيته التاريخية والحضارية. فالحضارة التي تفكر في العقل لتؤسس استقلاليته هي غير الحضارة التي تفكر في العقل لتؤسس تبعيته. وإن يكن ثمّة من فارق يميز تميزًا جوهريًا بين «إبستمي» [نظرية المعرفة] العصور الحديثة عن «إبستمي» القرون الوسطى فهو بالتحديد فارق استقلالية العقل من تبعيته. وإن يكن ثمّة من «إبستمي»، أي نظام للمعرفة العقلية، قابلة للتوصيف بأنها «قروسطية» فهي بالتحديد تلك الإبستمي التي تجعل، في الطرف اللاتيني المسيحي من الفلسفة خادمة اللاهوت، وفي الطرف العربي الإسلامي من العقل تابعًا للنقل.
جورج طرابيشي: نظرية العقل

كان ذلك النص بمثابة الحافز على البحث في إشكاليات العقل العربي الإسلامي، وأسباب تدهوره، ولما كانت الفلسفة كما يقول نيغيل واربورتون: «نشاط، طريقة تفكير في أنواع بعينها من المسائل. ومن أهم ما يميزها استعمالها للبرهان المنطقي» أو كما يراها جيل دولوز: «الحقل المعرفي القائم على إبداع المفاهيم»، أو كما يصفها كارل ياسبرز قائلا: «إنّ الفلسفة هي البذرة الأولى والزهرة الأخيرة للتفكير العقلي»؛ وجب أن تكون إشكاليات وأزمة الفلسفة معبرة بالضرورة عن إشكاليات وأزمة العقل.

وحين التحدث عن أزمة الفلسفة في العالم الإسلامي في الوقت الراهن، لا يمكن إغفال البعد التاريخي لاشتغال المجتمعات الإسلامية بالفلسفة، والوقوف على أهم الإشكاليات المثارة حولها مثل: أصالتها، وتسميتها، ومصادرها، وعلاقتها بالدين، وعوامل النهضة، وأسباب الردة، وآراء الغربيين فيها، وعلاقتها ببعض الاتجاهات المتداخلة معها كالكلام والتصوف، ثم أهم الانتقادات الموجهة إليها من داخل التيارات الإسلامية، وعلاقتها بالسياسة ونظم الحكم.

وذلك كله إنما بهدف الوصول إلى فهم ملامح الأزمة القائمة في الوقت الحاضر، والتي تتعدد أنماطها من اصطدام ببعض الاتجاهات الأصولية والسلفية، وصولًا إلى الفجوة بين التنظير والتطبيق، أو بين المشتغلين بالتنوير الفلسفي والمجتمع، ومرورًا بمعضلات دراسة الفلسفة أكاديميًا في جامعات عالمنا العربي والإسلامي.


هل هناك فلــــسفــة إســـلامية عربية؟!

من أكثر الإشكاليات شيوعًا بين الباحثين في الفلسفة التي اشتغل بها المسلمون: إشكالية أصالة الفلسفة الإسلامية من عدمها. ذلك أن قد ذهب بعض الباحثين إلى أنَّ المسلمين لم تكن لهم فلسفة خاصة بهم، إنما فقط اقتصر دورهم على نقل التراث اليوناني والاعتناء به، بمعنى أن الفلسفة الإسلامية – حسب ذلك الرأي- ماهي إلا الفلسفة اليونانية لكن مكتوبة بلغة عربية. واختلف النظر عند أصحاب ذلك الاتجاه إلى العوامل والأسباب المؤثرة في غياب القدرة على التفلسف الأصيل عند العرب والمسلمين، فمنهم من ذهب إلى نفي القدرة على التفلسف استنادًا للتمييز حسب الجنس نفسه، ومنهم من أرجع ذلك إلى العوامل البيئية والظروف الاجتماعية.

يرى المستشرق كارل هينريش بيكر أنه بينما تخضع الروح الإسلامية للطبيعة الخارجية، فتفنى الذوات الفردية في كل لا تمييز فيه، نجد أنّ الروح اليونانية وهي روح آرية، تمتاز بالفردية واحترام الذاتية، وهما محك النظر الفلسفي، ولهذا فقد كان اليونانيون أقدر على التفلسف من المسلمين.

ومن المستشرقين الذين اعتمدوا على الدراسات اللغوية في تقسيمهم الشعوب إلى سامية وآرية، أرنست رينان وليون جوتيه. ويصرّح أرنست رينان في كتابه «تاريخ اللغات السامية» بأنّه أول من قرّر أنّ الجنس السامي دون الجنس الآري، وأنّ العقل السامي لا يقوى على الإبداع الفلسفي؛ لأنّ الوحدة والبساطة هما الطابع الذي يميّز الجنس السامي الذي يعتبره جنسًا غير كامل. أمّا العقل الآري فإنه يمتاز بالكثرة والتعقيد وهما طابع الجنس الآري المتفرّد بوجود قدرات ثابتة عبر التاريخ. وبناءً على هذا الرأي فإنّ العرب لم يصنعوا شيئًا أكثر من أنّهم نقلوا التراث اليوناني الفلسفي والعقلي إلى المسلمين في عهد ازدهارهم.

كذلك يرى ليون جوتيه أنّ عقلية الدين الإسلامي (السامية) من حيث أنّه دين مُفرّق وغير عقلي يعادي التفكير الحر، ويعارض أشد المعارضة الفلسفة اليونانية الآرية العقلية، أنه كعقل سامٍ عاجز عن استنباط القوانين الكلية، وبالتالي يتعذر عليه إنشاء فلسفة مبدعة أو حضارة راقية.

إنّ هذا الفريق يرى أنّ الفلسفة الإسلامية العربية ليس فيها من الأصالة شيء، وما هي إلا فلسفة اليونان بلا إبداع أو تجديد، ويُرجِع ذلك إلى الطبيعة السامية التي هي دون الآرية في زعمهم، استنادًا إلى تقسيم الأجناس طبقًا لاتجاه بعض علماء اللغات. وهذا التقسيم بعيدًا عن أنّ تقدم العلم الحديث تجاوزه، ولم يعد استخدام تلك المصطلحات دقيقًا إلا بطريقة صورية، إنّما يظهر إجحافه كما يرى الدكتور مـحمد علي أبو ريان في كتابه (تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام): أنّ علماء الأنساب أكدوا أنّ حضارة من يُسمون بالآريين قد شارك فيها غيرهم. ثم إنّ الأصل في تقسيم البشر إلى أجناس إنما يرجع إلى أبحاث علماء اللغات، فكيف يمكن إذن أن يُطبّق التصنيف اللغوي على السلالات والأجناس، وليست هناك علاقة حتمية بين اللغة والسلالة؟، حيث إنّ اللغة شيء والسلالة شيء آخر تمامًا.


معوقات أخرى للأصالة

لكن هناك من رأى أسبابًا أخرى أرجع عدم وجود إبداع في الفلسفة الإسلامية -في رأيه- يتجاوز الفلسفة اليونانية إليها، فالمؤرخ الألماني تنمان في كتابه «المختصر في تاريخ الفلسفة» يرى أن الذي أعجز العرب عن الإبداع الفلسفي في تصوره هو كتابهم المقدس الذي يعوق النظر العقلي الحر. وتعلّق العرب بالخرافات وتأثرهم بالأوهام، وسيطرة مذهب أرسطو عليهم وتطبيقه على قواعد دينهم الذي يتطلب إيمانًا أعمى.

والفيلسوف فيكتور كوزان يرى في كتابه «دروس في تاريخ الفلسفة»، أنّ المسيحية أكمل الأديان، والدين المسيحي ناسخ لجميع الأديان، وهو إنساني واجتماعي إلى أقصى الغايات. والمسيحية هي التي أنتجت الحكومات النيابية، وهي أصل الفلسفة الحديثة. أمّا الأديان الأخرى التي لا تزال موجودة، مثل البراهمية والإسلام، فلم تقدم شيئًا للإنسانية إلا الانحلال الموغل والاستبداد المطلق.

ويرى برتراند راسل في كتابه «تاريخ الفلسفة الغربية» أنّ الفلسفة العربية ليست بذات خطر من حيث أصالة الفكر؛ فرجال كابن سينا وابن رشد، لا يزيدون في جوهرهم على شرّاح. وإذا أطلقنا القول على وجه التعميم، قلنا إنّ آراء الفلاسفة المصطبغين بقدر أوفر من الروح العلمية، مستمدة من أرسطو ومن أتباع الأفلاطونية الجديدة، في المنطق والميتافيزيقا، وهي مستمدة من جالينوس في الطب، ومن مصادر يونانية وهندية في الرياضة والفلك. ويرى أيضًا أنّ الفلسفة الدينية عند المتصوفة مزيجًا من العقائد الفارسية القديمة، ثم يرى أن قد أبدى المؤلفون باللغة العربية بعض الأصالة في الرياضة والكيمياء لكن أصالتهم في الكيمياء إنّما جاءت نتيجة عرضية لأبحاثهم في استخراج الذهب من المعادن الخسيسة، ويرى أنّ المدنية الإسلامية أيام مجدها كانت تدعو إلى الإعجاب في الفنون وفي كثير من الأساليب الفنية، لكنها لم تُبيّن شيئًا من القدرة على التفكير التأملي “المستقل” في الأمور النظرية؛ فأهميتها التي لا ينبغي أن يقلّل من شأنها، هي أهمية الناقل.

ويرى المستشرق البريطاني ألفريد جيوم في فصل «الفلسفة والإلهيات» من كتاب «تراث الإسلام» أنّ الفلسفة المسماة بالفلسفة العربية، التي يُشار إليها في الأدب الغربي بين الحين والحين، إنما في رأي طائفة من كتاب الغرب ليست إلا خليطـًا من آراء القدماء لا تجانس بين مواده المتنوعة، وأنهم منتهون إلى أن ليس هناك شيء اسمه “فلسفة عربية” وإلى أنّ الشعوب الناطقة بالضاد لم تفعل شيئًا أكثر من أنها استولت على الفلسفة اليونانية التي كانت شائعة بين المسيحيين من أهل سوريا، والمثقفين من أهل حرّان الوثنيين، ثم أضافت إليها بعض عناصر استمدتها من فارس والهند.


رأي مخالف

لم يوافق كل مؤرخي الفلسفة في الغرب على تلك النظرة، بل هناك طائفة لم تقل بهذا الحكم، وذهبوا إلى أنّ الفلسفة الإسلامية تملك كيانًا خاصًا بها، تميّزت به عن مذهب أرسطو ومفسريه، وأيضًا عن الآراء الهندية والفارسية. فقد وجد جوستاف دوجا في كتابه «تاريخ الفلاسفة والمتكلمين من المسلمين» أنّ مذاهب المعتزلة والأشعرية من الثمار البديعة التي أنتجها الجنس العربي، واستنكر متسائلًا: هل يظن ظانّ أنّ عقلًا كعقل ابن سينا لم ينتج في الفلسفة شيئًا طريفًا وأنه لم يكن غير مقلد لليونان؟

بل لقد ذهب رينان نفسه إلى القول بـ «أنّ الحركة الفلسفية الحقيقية في الإسلام ينبغي أن تُلتمس في مذاهب المتكلمين». وكذلك ليون جوتيه، رغم نظريته للجنس العربي الآنفة الذكر، إلا أنّه رأى أنّ الفلاسفة الإسلاميين لم يألوا جهدًا في القيام بواجبهم من ناحية التوفيق بين الدين والفلسفة، وأنهم قد أبدوا في ممارستهم على ما فيهم من دقة وعناية خصالًا منقطعة النظير، ونفاذًا وبُعد نظر، وأنّ رأيهم فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال هو معقد الطرافة في هذه الفلسفة اليونانية الإسلامية.

كذلك يرى الدكتور مصطفى عبد الرازق في كتابه «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» أنّ صيحة العصبية الدينية والجنسية قد خفّت في أواخر القرن التاسع عشر حتى إذا أقبل القرن العشرون كاد أن ينعقد الإجماع بين مؤرخي الفلسفة في الغرب على أنّ الفلسفة الإسلامية قد كمّلت نقص أرسطو بتوضيح نظرية الإمكان.

كذللك يقول المستشرق الفرنسي الألماني الأصل سالمون منك ما يخالف به منتقدي أصالة الفلسفة الإسلامية: «يمكننا أن نقول في الجملة: إنّ الفلسفة لدى العرب لم تتقيد بمذهب المشائين صرفًا، بل هي توشك أن تكون تقلّبت في كل الأطوار التي مرّ بها العالم المسيحي، ففيها مذهب أهل السنّة الواقفين عند النصوص، ومذهب الشك، ومذهب التولد، بل فيها مذاهب شبيهة بمقال اسبينوزا ومذهب وحدة الوجود الحديث».

ونحن إن أردنا البتّ في مدى أصالة الفكر الفلسفي الإسلامي، وهل للمسلمين فلسفة أم مجرد نقل وتقليد لليونان، إنّما يجب علينا أن نطرح تساؤلات تُحدد المعايير أولا، فهل الاستفادة من فلسفة اليونان يناقض بالضرورة أصالة الفكر الفلسفي الإسلامي؟ أليست المعرفة العلمية والفلسفية الإنسانية هي معرفة تراكمية؟ وهل كل فلاسفة المسلمين لم يأت أحدهم بجديد زاد به على فلسفة اليونان؟ ثم ما حدود الفلسفة هل يدخل فيها الكلام والتصوف، والعلوم الطبيعية؟ وقد كان للمسلمين باع كبير في تلك المجالات، استفادوا فيها من الآخر، وزادوا عليها.

لكن هل الأزمة حقًا في مدى أصالة الفكر الفلسفي الإسلامي، أم هل الأزمة هي أزمة إبستمولجية؟ وأزمة العلاقة بين العقل والنقل في تاريخ الفلسفة والفرق الإسلامية. فالتساؤلات الأهم التي ينبغي أن تُطرح: ما نتائج الانشغال بالفلسفة في العالم الإسلامي على الصعيد المعرفي؟ وهل دار العقل الإسلامي في فلك النص ولو في الأصول فقط؟ أم تحرّر وأصبح يُفكر في العقل باستقلالية نقدية؟

المراجع
  1. إبراهيم إبراهيم ياسين: مدخل إلى الفلسفة الإسلامية ( دار بلال للطباعة والنشر، المنصورة، 2004).
  2. ألفرد جيوم: تراث الإسلام، الجزء الأول، فصل الفلسفة والإلهيات (الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2015).
  3. برتراند راسل: تاريخ الفلسفة الغربية: الفلسفة الكاثوليكية (الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2012).
  4. جورج طرابيشي: نقد نقد العقل العربي: نظرية العقل (دار الساقي، بيروت، 1996).
  5. صلاح رسلان: مقدمة في الفلسفة الإسلامية (دار الثقافة العربية).
  6. مصطفى عبد الرازق: تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية (الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2010).
  7. هنري كوربان: تاريخ الفلسفة الإسلامية (دار عويدات للنشر والطباعة، بيروت، ط2، 1998).
  8. نيغيل واربورتون: الفلسفة الأسس (الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2009).
  9. يوحنا قمير: أصول الفلسفة العربية (دار المشرق، ط6، بيروت، 1991).