هل قابلت في حياتك شخصاً يقترف أشياء فظيعة ويستطيع أن ينظر في عينيك دون أن يفزع؟ أن تنظر في وجه الآخر يعني شيئين، أنك تقر بإنسانيته، وأنك تؤكد في الوقت ذاته إنسانيتك أنت.

هي قصة حياة فتاة أفريقية ولدت في بلدة تدعى «بايو» تقع في مكان ما في «مالي» يختطفها تجار العبيد مع آخرين ويسيرونهم ثلاثة أشهر مكبلين في أصفاد خشبية ومعدنية من رقابهم وأيديهم وأرجلهم، يطعمونهم ويسقونهم بالكاد، حتى يكدسوهم جميعاً في سفينة لتعبر بهم المحيط إلى الولايات المتحدة قبل أن تستقل عن بريطانيا ويبيعونهم في سوق العبيد، ثم تكافح الفتاة التي تؤكد دوماً أن اسمها هو «أميناتا دياللو» ابنة «مامادو دياللو» الصائغ و«سيرا كوليبالي» القابلة.

هذا اختصار مخل لرواية «كتاب الزنوج»، ولكن لا يمكننا أن نسرد تفاصيل أكثر، لأنك عندما تقرأ الرواية ستحصل على أكثر من مجرد كلمات يمكن تلخيصها في بضعة أسطر، فالكاتب «لورانس هيل» لم يكتب فقط قصة حياة «أميناتا دياللو» إنما سطر مأساة كاملة في 496 صفحة، سوف تلتهمها كلها في يومين على الأكثر من فرط أهميتها.

أحدهم يعرف اسمي

يمكنك أن تقرأ أوراقًا بحثية عن تجارة العبيد إبان القرن الثامن عشر، ويمكنك أن تشاهد أفلاماً مهمة تناقش الموضوع، ولكن الرواية شيء آخر تماماً، فعندما تتكاتف اللغة الجميلة المكتوبة بعناية فائقة مع التفاصيل الذكية، مع قدرة الفن على صياغة أعمق المشاعر الإنسانية وأكثرها قسوة، مع خيالك كقاريء، وقتها فقط ستدرك كم كانت المأساة كبيرة.

كان الكاتب «لورانس هيل» متمكناً جداً من تأطير المأساة، ومعالجتها برشاقة وعمق، والأغرب أنه تمكن جداً من أن يتقمص دور المرأة الراوية، واستطاع أن يحكي عن مشاعرها وكأنه يشعر مثلها، هو ليس امرأة ولم يعاصر العبودية وفي الغالب لم يقابل من بدأ حياته حراً ثم استعبد نظراً لتباعد الأجيال، ومع ذلك، أنت عندما تقرأ «كتاب الزنوج» ستشعر أنك تجلس بين يدي «أميناتا دياللو» لتسمع قصتها بحذافيرها دون أي تحريف أو نسيان.

الرواية صدرت في 2009 في كندا تحت عنوانها الأصلي «كتاب الزنوج»، والذي يرمز للسجل الذي تم تدوين جميع أسماء العبيد الذين انتقلوا إلى مستعمرة «نوفا سكوشا» ليبدأ عصر الحرية الكاذبة، ثم تم طباعتها تحت اسم «أحدهم يعرف اسمي» في الولايات المتحدة الأمريكية، لأن عنوانها الأصلي لم يكن مناسباً للمجتمع الأمريكي.

سبعة وخمسون عاماً من الكفاح

الرواية تتبع مسار حياة البطلة منذ عام 1745 إلى عام 1802 والتي كانت مليئة بالأحداث التي يمكننا أن نطلق عليها بطولية بضمير مستريح، ورغم كثرة المغامرات التي تخوضها البطلة طوال حياتها، فالرواية لا تنتمي أبداً لأدب المغامرات والرحلات، وإنما غاصت عميقاً في نفسية فئة عانت من الإنسانية أكبر معاناة، فحياة بطلة الرواية زادت صعوبة لأنها كانت شخصية ذكية ومتعلمة وترغب في استعادة حريتها، ربما لو أذعنت بطلة القصة لأقدارها منذ البداية لم تكن لتتحمل كل تلك الصعوبات.

بالطبع القصة تحكي حياة امرأة خيالية وليست شخصية حقيقية، ولذلك فقد كانت جرعة الدراما مكثفة في شخصية واحدة، يمكنك أن تعيب هذا على الرواية حيث إنه لا أحد قوي على الدوام ومصمم للأبد، خاصة في ظل ظروف العبودية، ولكن الخيال يبرر كل شيء، خاصة إذا كان خيالاً جميلاً مرسومًا بعناية فائقة.

ورغم أن الحكاية تحدث في القرن الثامن عشر في زمن العبودية، إلا أنك ترى بعض لمحات ما زالت تحدث إلى يومنا هذا، بإمكانك أن ترى البطلة وهي تعاني في بيت مالكها الأول «السيد أبلبي» من المهانة والدونية، ويمكنك أن ترى نفس الأشياء تحدث حولك في أي منزل يمتلك خادمة أفريقية في القرن الواحد والعشرين، رغم أن زمن تجارة العبيد انتهى، إلا أن الإنسان ما زال يحمل إرثاً من القسوة لا يمكن أن يتخلى عنه بسهولة.

وحتى تغريبها في البلاد للبحث عن فرص أفضل، واستغلال من يغرون العبيد بتوفير الحرية والحياة الكريمة، يمكنك أن تقرأ عنه في صحفنا اليوم تحت أسماء براقة مثل عقود العمل والكفيل والهجرة، كلها مسميات مختلفة لنفس المبدأ، ربما بظروف أفضل مما كان يحدث قديماً في الرواية، ولكنها عبودية أنيقة، واستغلال متنكر، في النهاية الإنسان – أي إنسان – لا يمتلك حريته كاملة.

الصراع الأبدي الذي لا نهاية له

بين الدراما المكتوبة والمرئية صراع دائم، يمكنك أن ترجح كفة الرواية المكتوبة نظراً لتفاصيلها الكثيرة واهتمام الكاتب بها خاصة لو كان عملاً متقنًا، مع إضافة خيال القارئ الخصب الذي يخلق عالمًا ثريًا للمادة المقروءة، ويمكنك في أحيان أخرى أن ترجح كافة الدراما المرئية سواء كانت فيلماً أو مسلسلاً لأنك ترى خيالاتك مجسدة مع أداء الممثلين الذي لو كان جيداً كفاية سيجعلك تستمتع بالمشاهدة.

في «كتاب الزنوج» تظل متحيراً في ترجيح إحدى الكفتين على الأخرى، فقد كان المسلسل القصير المكون من ست حلقات فقط جيداً، خاصة مع أداء «أونجانو إليس» التي قامت بدور البطولة،أداء سلسًا وحقيقيًا وكأنك تشاهد «أميناتا دياللو» بدمها ولحمها، ولكن لمن قرأ الرواية بتمعن سوف يحبطه المسلسل كثيراً.

المسلسل قلل حجم المأساة في تفاصيل صغيرة ولكن محورية جداً، مثلاً الكوخ الذي كانت تنام فيه البطلة مع زميلتها «جورجيا» في مزرعة مالكهم «السيد أبلبي» كان مفروشاً بالحصير في المسلسل رغم أنه لم يكن كذلك في الرواية، تفصيلة صغيرة ولكنها قللت حجم المعاناة، أيضاً جعلوها في المسلسل تفقد طفلاً واحدًا رغم أنها فقدت اثنين في الرواية، وأعطوا دوراً أكبر وأكثر محورية لزوجها «شيكورا»، بل جعلوه يموت بين يديها وتودعه، رغم أنها فقدته لسنوات في الرواية قبل أن تعرف أنه مات غرقاً في المحيط.

بعض الشخصيات تم إغفالها أو تغيير مساحتها عن الرواية الأصلية، والكثير جداً من الأحداث التي حدثت على سفينة العبيد تم اختصارها رغم أنها كبيرة الأهمية في إعطاء المأساة حقها، وأداء «شايلين ديكسون» التي قامت بدور البطلة في طفولتها لم تكن على المستوى المتوقع لمن قرأ الرواية وتابع أحداثها، لم تقم بمشهد واحد يجعل قلب المشاهد يرتجف، ربما لأنهم في الأساس لم يعطوا دورها حقه فقد استغرقت طفولة «أميناتا» المسروقة حلقة واحدة فقط، وربما لأن إمكانياتها كانت حقاً أقل مما يتطلبه الدور/ المأساة.

في العموم فإن «كتاب الزنوج» رواية قيمة جداً ليس فقط لأنها تحكي حكايات صعبة أو مأساوية، ولكنها أيضاً رواية مليئة بالحقائق التاريخية المهمة التي تغني عن قراءة الكثير من المقالات الجافة عن زمن العبودية، وهذه هي وظيفة الفن أحياناً، فالتثقيف الممتع أهم وأكثر تأثيراً من عشرات الكتب الأكاديمية التي لا تستفز القلب، وقد نجح «كتاب الزنوج» في أن يعطيك جرعة تثقيفية لعقلك مع تمرين مهم للقلب على كراهية القسوة.