ربما لا يكون الحديث عن الفقراء والبسطاء وحياة الناس في المناطق الشعبية جديدًا على الدراما المصرية، ولكن المخرج «هاني خليفة» بالتعاون مع الكاتبين «محمد رجاء»، و«إياد عبد المجيد» استطاعوا أن يقدموا رؤية جديدة مميزة ومختلفة، عكست روح الحارة الشعبية من جهة، وقدمت واقعًا حيًا قد يبدو مأساويًا بدون مبالغة في الدراما، ولكنه الواقع المؤسف الذي يحيط بهؤلاء البسطاء في تلك الأحياء.

في دراما اجتماعية واقعيّة قدّم لنا «هاني خليفة» هذا العام مسلسل «الحساب يجمع» في ثاني تعاون بينه وبين كاتب العمل «محمد رجاء» والنجمة «يسرا» يدور المسلسل حول عائلة «نعيمة/يسرا»، التي تعمل كرئيسة خادمات في منطقة شعبية بالوراق، وتحاول أن تبذل كل ما بوسعها لكي توفّر لبناتها «منّة»، و«هانا» مستوى معيشة محترمة وكريمة بعيدًا عن الذل والشقاء الذي عانته هي من الخدمة في البيوت.

كما نتعرّف على العالم المحيط بها والمشكلات التي تعانيها بسبب توريدها للخادمات إلى بيوت الأغنياء، من جهة أخرى تنشأ عداوة بينها وبين «الحاج نور/محمود عبد المغني» الذي يريد أن يستولي على بيوت سكان هذه المنطقة لكي ينشئ على أرضها مشروعًا استثماريًا كبيرًا.


الصراع بين عالمي الخير والشر

يدور صراعٌ مكتوم وبسيط بين عالمين متقابلين يدور فيهما المسلسل بهدوء، عالم الأغنياء من جهة وعالم الفقراء من جهةٍ أخرى، ولكن الدراما الذكيّة توضح أن الخير ليس حكرًا على الفقراء ولا الشر والتسلط خاصٌ بالأغنياء وعالمهم، ولكن يدور الخير والشر بين هؤلاء وأولئك.

وتكشف لنا شخصيات العمل عن خباياها وما يعتمل في نفوسها، وكيف يكون الثراء الفاحش دافعًا للجرائم، كما يكون الفقر والحاجة وقسوة ظروف الحياة دافعًا أيضًا للسرقة والخيانة، ويبدو الفرق بين هؤلاء وأولئك في طبيعة تعاملهم مع الخطأ وإدراكهم له، وكيف يبقى الضمير مؤثرًا في حياة الفقراء البسطاء، ويغلب فيهم حرصهم على الحلال في حياتهم.

ورغم وجود هذا الصراع الواضح في المسلسل فإنه ليس محور المسلسل فحسب، ولكن ظهر معه عدد من الخيوط الثانوية التي تجعل منه عملًا مترابطًا يعكس عالمًا واسعًا لا يقتصر حتى على عالم الحارة الشعبية، بل يتجاوزها ليعكس طرفًا من حياة أصحاب النفوذ والأموال ومشاكل حياتهم.

ولعل أكثر ما يجذب انتباه المشاهد للمسلسل ويجعله شغوفًا بمتابعته هو التحام العناصر والحكايات الثانوية في المسلسل مع عناصره أو حكايته الرئيسية، وقدرة الكاتب والمخرج على تصوير تلك الشخصيات وأدوارها كلها على أنها شخصيات مهمة في العمل ليست مجرد إضافة أو «حشو»، ولكنه حكاية مهمة في نسيج العمل ككل.

ولا يتبيّن ذلك منذ بداية المسلسل، ولكن مع مواصلة الحلقات والتعرف على خيوط الشخصيات وما يربط بينهم، إذ يبنى السيناريو بطريقة عنكبوتية يبدأ بالحكايات الثانوية التي تتشعب وتبتعد، حتى نستكشف أن خيوطها تلتقي كلها دفعة واحدة وترتبط بالبطلة والشخصية الرئيسية «نعيمة» من قريبٍ أو بعيد.


تفاصيل عالم الحارة الدقيقة

استطاع مهندس الديكور «يحيى علام» أن يخلق تفاصيل عالم الحارة الشعبية بواقعية شديدة، برز ذلك ابتداءً في المكان الرئيسي «موقع التصوير» الذي اختاره هو تبة عالية تطل على النيل في حي الوراق، واستعان بمحتويات هذا المكان الطبيعية، وأضافها إلى ديكور الموقع، سواء كانت الأشجار أو المراكب الشراعية وغيرها.

كما ظهرت المقاهي الخشبية وبيوت أهل الحارة جميعًا التي حرص على أن يضفي على كلٍ منهم ملامح خاصة، سواء في تصميم الشبابيك أو الأسقف أو الحيطان وألوانها وتشققات الجدران فيها، كما نلحظ ذلك في عدد من البيوت ومحتوياتها البسيطة، وحتى محتويات الغرف وتفاصيلها الدقيقة

لم تكن تلك الواقعية في ديكورات الأماكن فحسب، بل كان ملاحظًا بشدة على ملابس شخصيات العمل التي صممتها «مي جلال» أنها الأكثر ملاءمة لسكان الحارة، إذ نكتشف أن أكثر بطلات المسلسل مثلًا محجبات، وهو ملمح ذكي وواقعي في آنٍ معًا، ذلك الحجاب الشعبي البسيط الذي تظهر به «يسرا» وبناتها في أغلب المشاهد، وكذلك الفنانة «بوسي»، و«ندى موسى» وغيرهن، وهو ما يعكس هذه الطبقة الفقيرة بجلاء.

حتى أن البنت المتعلمة التي تصوّر فيديوهات على الإنترنت بحجابها، يعرض عليها أحد المنتجين أن تقدم برنامجًا من إنتاج شركته بشرط أن تخلع حجابها ولكنها ترفض، ولعلها الفرصة الأولى للفنانة الملتزمة «منى عبد الغني» التي ظهرت بشكل طبيعي بحجابها هذه المرة، رغم أنها قدمت شخصيةً سلبية للأم المتسلطة والداعية ذات الوجهين، وأدت دورها البسيط باقتدار.

اقرأ أيضًا:الحارة المصرية في دراما رمضان 2017

من جهة أخرى جاء «الحوار» في المسلسل كعنصرٍ أساسيٍ بارز، وكان لافتًا للنظر أنه رغم حدوث كل تلك المشكلات والمشادات فإن الكاتب استطاع أن ينقل حوارًا واقعيًا، ولكنه غير مزعج للمتفرجين، كما درج على ذلك عدد ممن قدموا الحارة الشعبية، وكأن الشتائم والألفاظ النابية هي وحدها التي تقدّم تلك المناطق، على العكس من ذلك ظهرت طريقة الحوار بين الأم وبناتها وطريقة تعامل الأم البسيطة مع مشكلاتها ومواجهتها، كل ذلك من خلال حوار بسيط وواقعي في الوقت نفسه.

ولا الحرام ينفع .. ولا الفساد بيدوم خليها ع اللي بيشفع ما يباتش ليّه مظلوم بكرة الحساب يجمع .. وينصف المحروم اعمل لآخرك يا صاحبي .. هيا دامت لمين اغلط وراجع روحك .. لو كنت م الأشقيا يتوب عليك يا ابن آدم .. ويسد عنّك دين
كلمات تتر المسلسل للشاعر «مدحت العدل»

الحكايات الثانوية المؤثرة

لم تكن حكاية «نعيمة» وبناتها هي محور العمل فحسب، بل عكس الكاتب عددًا من مشكلات الفقراء والأغنياء الاجتماعية على السواء، لاسيما علاقة الآباء بالأبناء، فرأينا الأب الثري «دكتور رأفت/ سامح السيد» الذي يفرض وصايته على ابنه ويرفض سفره وابتعاده عنه، وتسعى أخته سعيًا حثيثًا لكي يترك زوجته التي ترفض عمالة الأطفال وتعامل البنات الخادمات باحترام وعناية.

في الوقت نفسه نجد الابن الفقير يطرد أمه من بيته لكي يعيش في المنزل هو وزوجته «عائلة أم كامل/عايدة رياض»، بالإضافة إلى حكاية الأم «منى عبد الغني» الداعية التي تدعو الناس للخير والتعامل مع الناس برحمة وسواسية في برامج التلفزيون في الوقت الذي ترفض فيه زواج ابنها من بنت الخادمة الفقيرة!

الجميل أن كل تلك الحكايات الثانوية التي تبدو بعيدة ترتبط معًا وتعكس كلها مواقف وحالات هؤلاء الأسر العائلات على اختلافها، وكيف أن الثراء والغنى قد يكونان نقمة على صاحبها وليس نعمة، وكيف تقسو الحياة على هؤلاء وأولئك بالقدر نفسه، ويبقى الفارق هو طريقة مواجهة المشكلات والتعامل معها.

إذ بدا في المسلسل مثلًا أن الأم الفقيرة هي التي تضحي دائمًا، وهي التي ترضى لنفسها بأقل ظروف العيش لكي يسعد أبناؤها، في الوقت الذي نجد فيه الأب الثري يفرض تحكماته على ابنه الذي لا يستطيع الفكاك منه، بل ربما يدفعه دفعًا لأن يطلق زوجته!

تأتي كل هذه الحكايات متصلة منفصلة بحكاية المسلسل الرئيسية، مما يجعل حضورها واقعيًا ومؤثرًا، ليس مجرد «حشو» أو ملأً للحلقات الثلاثين، بل على العكس يشعر متابع المسلسل أن هذه الحكايات المسترسلة الممتدة يمكنها أن تطول وتمتد أكثر من أيام شهر رمضان، ويخرج وقد تعاطف مع شخصيات العمل وحالته العامة المرسومة بدقةٍ وعناية.

بين هذا وذاك تبدو المشكلات التي تتعرّض لها «نعيمة» وكأنها بلا نهاية، فما إن تتخلّص من مشكلة حتى تظهر لها أخرى، وما إن تسعى في حل مشكلة أو يبدو لها أن مشروع حياتها الذي تحلم به أصبح قريب المنال حتى تكتشف أن مصيبة أخرى تحل عليها، ورغم أنها تخرج من كل هذه المشكلات بطريقة عادية جدًا ولكنها تبقى مفاجئة في كل مرة.