تكمن جودة الحكاية في قدرتها على إيهامنا بتصديقها، وتُقاس حدة الصراع بمدى قوة الشر لا الخير. يمكنك دائمًا أن تخلق أبطالاً أخيارًا محبوبين، ولكن الأشرار الذين يمكننا أن نحكي عنهم معدودون.

لطالما كانت هذه معضلة الدراما المصرية، على مستوى السينما وكذلك على شاشات التليفزيون. فالأشرار عندنا نمطيون للغاية، يملكون وجوهًا عابسة وأصواتًا جشاء، عيونًا جاحظة وحواجب ثقيلة، على غرار حواجب كفار قريش السينمائية الشهيرة، هم أشرار شكلاً ومضمونًا بشكل صريح للغاية، وكأن الكتاب والمخرجين يريدون أن يوفروا أي جهد ذهني على الجمهور لاكتشاف الحبكة، حتى أنك يمكنك أن تعرف الشرير من النظرة الأولى حتى ولو شاهدت الأحداث من منتصفها.

الأمر قديم وممل، ومثير للضحك، ولكنه ما زال مستمراً. ولذا وحينما يضيف كتاب ومخرجون مصريون بعضًا من ملامح الحقيقة لأشرارهم، يصبح الأمر مفاجأة سعيدة. وللبحث عن هذه المفاجأة اخترنا أن نصحبكم اليوم في جولة بين أشرار دراما رمضان هذا العام.


هل كان سيد قطب شريراً كاريكاتورياً حتى في بيته؟

«وحيد حامد» كاتب كبير، وقد أبدع من قبل في تقديم شخصيات حقيقية للمنتمين لتيار الإسلام السياسي، حتى ولو كان من أشد معارضيهم. المثال الأوضح على ذلك كان شخصية «علي الزناتي» في فيلم «طيور الظلام» الذي كتبه حامد وأخرجه «شريف عرفة». هو محام منتمٍ لإحدى جماعات الإسلام السياسي، يقدمه حامد وعرفة في صورة الشرير الانتهازي بالطبع، ولكنه شرير يمكن تصديقه، بنفس الدرجة التى يمكن بها فهم صديقه «فتحي نوفل» الذي جسده «عادل إمام»، فتحي الذي يتحول لانتهازي في جانب آخر هو جانب السلطة.

الشاهد هنا أن «علي الزناتي» المحامي الإسلامي لم يظهر كشرير نمطي طوال الوقت، وحينما يجتمع مع صديقه فتحي في إحدى المرات يتقبل دعوته للعزف على العود والغناء سويًا، «علي» في النهاية إنسان يملك جانبا طيبا وبإمكانه الاستمتاع بلحظات صداقة حقيقية.

اقرأ أيضا:«سيد» و«نعمة» وفن المكياج في أوروبا والدول المتقدمة

الأمر نفسه تكرر مع حامد وإن كان بنسبة أقل وبعد سنين طويلة من خلال شخصية «حسن البنا» في الجزء الأول من الجماعة، حسن البنا الذي جسده «إياد نصار» ليس شريرًا نمطيًا بشكل مكتمل، للبنا في الجزء الأول من الجماعة لحظات سعادة وحزن حقيقي تمكننا من التعامل معه كإنسان.

أما ما ذهب إليه وحيد حامد في الجزء الثاني في التعامل مع شخصية «سيد قطب» فهو يخالف تمامًا كل ما ذكرناه. سيد قطب شرير نمطي وكاريكاتوري للغاية، يرفع حاجبه الثقيل والمصطنع بشكل واضح ككفار قريش السينمائيين، ويتحدث بنبرة غاضبة أو خبيثة على أفضل تقدير، حتى ولو كان ذلك في بيته وبين أخواته أثناء وجبة عشاء عائلية!

حوارات قطب كلها شريرة، لدرجة يبدو معها غريبًا أنه من المفترض كان قياديًا بارزاً أو رجلاً له أتباعه حتى اليوم. ويبدو من الظلم تقييم أداء الممثل «محمد فهيم» في هذا الدور لأن النص لم يعطه مجالاً للتعبير عن أي شيء سوى الشر، وهو شر سطحي لا يناقش أفكار قطب، ولا يحللها، ولا يوفيها حقها من النقد وهي تستحق الكثير، خصوصًا وأنها أثرت على أجيال من صانعي العنف وجالبيه.

كما لم يساعد فهيم مكياجه على الهرب من الأداء الكاريكاتوري الذي حاول فيه الاقتراب من الشكل على حساب المضمون. أنا هنا لا أناقش الوقائع التاريخية التي يحق لحامد أن يصيغها في معالجته الدرامية كما يشاء، ولكني أناقش قدرة التجسيد على إيهامنا بتصديقه.


لأن أمناء الشرطة هم فقط من يقتلون

يتبنى مسلسل «كلبش» للمخرج «بيتر ميمي»، بشكل شبه كامل، الرواية الرسمية عن التعذيب داخل أقسام وسجون مصر، حيث تحمل هذه الرواية المسئولية كاملةً لأمناء الشرطة وتُبرئ الضباط منها تمامًا، وهو ما يثبت ما تكرره هذه الرواية أن التعذيب والقتل داخل مقرات الاحتجاز يجب أن يتم وضعه تحت خانة «الحالات الفردية».

تدور أحداث المسلسل حول ضابط شرطة نمطي للغاية وبطولي للغاية، يتورط الضابط في جريمة قتل ملفقة لشاب ثوري يمثل صورة نمطية للغاية عن جيل يناير وثوراه. على الرغم من ذلك يظهر الشرير الذي اختاره صناع المسلسل بشكل أقل نمطية مما كنا ننتظره، نجح ميمي بلا شك في توظيف المغني «دياب» في دوره التمثيلي الكبير الأول، يجسد دياب دور «زناتي السيد زينهم» أمين الشرطة القاتل والمتمرس في ألعاب الكر والفر وتلبيس الاتهامات ودس الأحراز وغيرها.

اقرأ أيضا:التوليفة الآمنة: لماذا تتشابه مسلسلات رمضان كل عام؟

وفي نفس الوقت يظهر زناتي كرجل مصري حقيقي منتمٍ لمنطقة شعبية، يحب زوجته ويحزن بسبب عدم قدرته على الإنجاب، كما يبدو متأثرًا بشدة بطفولته التي عانى فيها من قسوة زوج أمه. زناتي شرير ذكي يحمل ملامح الحقيقة ولا يمكن التنبؤ بكينونته الشريرة من النظرة الأولى.

تبدو حكاية ميمي حقيقية في بعض جوانبها، كما أنها مصاغة بشكل تشويقي جيد في كثير من الجوانب الأخرى، وهو ما جعلها تحظى بمتابعة كبيرة من جمهور دراما رمضان، ولولا السردية الأمنية التي تتبناها في إطارها الكبير وصورتها النمطية عن جيل الشباب لكنا من الممكن أن نشاهدها كعمل جيد.


جوكر باسل خياط يعزف منفرداً

تنقلت بإبقاع لاهث في اليوم الأول لدراما رمضان بين القنوات لاستطلاع الحلقة الأولى من أكبر قدر ممكن من المسلسلات، لم يكن «30 يوم» في الخطة ولكنني تعثرت فيه، وكانت حلقته الأولى كافية لجذب اهتمامي لمتابعته حتى الآن. والفضل الأكبر في ذلك يرجع لجوكر «باسل خياط» بكل تأكيد.

«30 يوم» للكاتب «مصطفى جمال هاشم» والمخرج «حسام علي»، تدور أحداثه في إطار تشويقي عن حكاية طبيب نفسي ومريض نفسي يطارده داخل لعبة – أو تجربة كما يسميها – من 30 يومًا. الطبيب النفسي هو «طارق» ويجسده «آسر ياسين» والمريض النفسي هو توفيق/ سامح المصري ويجسده «باسل خياط».

تعتمد الحكاية بشكل أساسي على تحرك يومي من توفيق يترتب عليه ورطة يقع فيها طارق، وداخل تفاصيل هذا التحرك وهذه الورطة تدور باقي شخصيات المسلسل. لم يتم وصف توفيق بالجوكر في أي لحظة من أحداث المسلسل ولكن الرابط بينهما يبدو أقوى من أن يُغفل. لدرجة أن الحساب الرسمي لقناة DMC التي تعرض المسلسل بشكل حصري أصبح ينشر مقاطع من المسلسل تصف شخصية باسل خياط صراحةً بالجوكر.

شخصية الشرير التي يجسدها خياط تبدو كأنها تنتمي بالفعل لأشرار القصص المصورة، هو ذكي جدًا وصاحب كاريزما لا يمكن تجاهلها. تتميز شخصية توفيق أيضًا بثلاث نقاط قوة تتفرد بهم عن أي شرير رمضاني آخر، أولاً، ضحكة مميزة تبدو كتوقيع شخصي له، وثانياً، هويته البصرية السوداء حيث يظهر دائمًا بقميص أسود وبنطال أسود ومعطف طويل أسود يضيف لهم قبعة سوداء في بعض الأحيان، وثالثًا، قصة قديمة مؤثرة توفر تبريرًا محتملاً لأي فعل شرير/مجنون قد يقدم عليه.

اقرأ أيضا:الكوميديا في مسلسلات رمضان: الضحكات تتقهقر

حاول صناع العمل إضافة تفصيلة رابعة وهي ارتباط توفيق بموسيقى الجاز والتي وفرت خلفية موسيقية جيدة لأحداث التشويق، ولكنها تعرضت لفخ التكرار ولم تتطور بشكل كافٍ لتوفر نقطة قوة تزاحم النقاط الثلاثة السابقة، والتي وفرت على كل حال ارتباطًا وثيقًا بين جمهور المسلسل والشخصية، لدرجة جعلت الشرير داخل الحكاية محبوبًا لديهم أكثر من البطل في بعض الأحيان.

الجدير بالذكر أن «باسل خياط» قد ذكر في حديث خاص حول أحداث المسلسل أنه رأى شخصية توفيق كجوكر عربي حينما قرأ النص للمرة الأولى، ولكن ما يبدو مثيرًا بشكل أكبر هو ما ذكره خياط عن رحلته هو نفسه مع العلاج النفسي من قبل، وعن ارتباطه بحبيبة سابقة لم يستطع التخلي عن ذكراها إلا بمساعدة طبيب نفسي، توفر هذه الحكاية الحقيقية مصدراً شخصيًا لمشاعر جوكر باسل خياط داخل أحداث المسلسل، مصدراً قد يكون تم استخدامه بشكل لا واعي، مصدراً قد يكون أهم من جوكر هيث ليدجر الذي اتفقنا جميعا أنه تأثر به.

قد يكون هاجسنا الأهم حاليًا هو الطريقة التي سينهي بها حسام علي ومصطفى جمال هاشم حكاية شريرهما، وخصوصًا بعد النجاح الكبير الذي حظي به باسل خياط بعد مجهوده المتميز في تجسيده.

شرير باسل خياط قد لا يبدو حقيقيًا، وقد لا نتوقع منه لحظات صدق وطيبة نادرة، ولا عيب في ذلك طالما أنه شرير فانتازي منتمٍ لعالم القصص أكثر من انتمائه لعالم الحقيقة. وعلى الرغم من ذلك فهو يبدو أكثر واقعية شكلاً ومضمونًا من كثير من أشرار الدراما الرمضانية. وهذا هو أكثر ما يثير السخرية.