غنيُّ عن الذكر أن عبقرية «تميم البرغوثي» ليست خارقة للتوقعات بتاتًا. فهو لا يخرج عن كونه النتاج المنطقي لائتلاف جينات «رضوى عاشور، ومريد البرغوثي»!.

كما أنه لا داعي للتأكيد على أن نشأته بين هذين القطبين العبقريين، في مناخ يتنفس فيه -من إيمانهما وأعمالهما- قضايا الأمة، وبالأخص واسطة عقد آلامها فلسطين؛ قد ألقت بظلالها البديعة والكثيفة على إشراقاته، فأغدقت عليه بوفرة من خامات المشاعر والأفكار، والآلام الشخصية واللوعات العامة، ما جعله وإن كان الأخير زمانه، أن يأتي من هذه الأمة وبها وفيها ولها، بما لم يستطِعْهُ الأوائل!.

من شعر «تميم» ما يصلح من تقليدية بنائه لمقارعة المعلقات في سوق عكاظ، ومنه ما يصلح لتعليم جنون وفنون الشعر الحديث وانطلاقات أساليبه.

وكذلك من نافلة القول أن نؤكد أن من شعر «تميم» ما يصلح من تقليدية بنائه لمقارعة المعلقات في سوق عكاظ، ومنه ما يصلح لتعليم جنون وفنون الشعر الحديث وانطلاقات أساليبه.

ومن نافلته أيضًا بيان أن «تميم» هو معادلة صعبة تجمع بين وجدانية الشاعر الذائب في ألم عشق أمته، وعقلانية تدريس العلوم السياسية في جامعة جورج تاون، الموجودة على أرض أمريكا أسْ مصائب هذه الأمة (بعد الأمة نفسها طبعًا!).

وكذلك فلا حاجة لي لتوضيح ما أراه من الواضحات؛ بالتأكيد على أن «تميم» يقارَن بـ«ابن الرومي» في لوْعاتِه، وبـ«أبي تمام» في حماساتِه، وبـ«المتنبي» في حكمته وحصرياتِه. وأن شعره أبرز تطبيق لقاعدة السهلِ الممتنع. فهو قريبٌ على بعدٍ، بعيدٌ على قُرب.

أما الأهم عندي من كل ما سبق في الافتتاحية المبتسرة السابقة، والذي أراهُ من الواجبات وليس من نوافل القول، هو أن تميم -حتى الآن- لم يفجعْني في امتحان الربيع العربي -أو الذي كان ربيعًا- كما فعل معظم مثقفينا ونخبتنا، فانحاز دائمًا وأبدًا في كافة معتركاته للإنسان العربي، ونبل قضايا ثورته وتحرره.

وحتى أراه قد أفلت أخلاقيًا وانحاز للإنسان في أخطر المنعطفات بالنسبة له في زمن المذابح الذي نعيشه، ألا وهي الثورة السورية، والتي أشكلت على «تميم» كثيرًا، وهو الذي كان قد كرّس جزءًا ليس بالهين من شعره ونفسه من قبل لمحور إيران -حزب الله- «الأسد» عندما كانت مقارعة إسرائيل، ودعم المقاومة الفلسطينية شاغله الأكبر قبل أن تستهويه الشياطين، فيحاول أن يسوِّق لنا أن الانتصار على إسرائيل لا بد له من قصف منازل السوريين بالبراميل!

والآن ننتقل من المقدمات -على أهميتها- إلى صلب القضية الشائكة التي مرَّ عليها «تميم» مروره المتميز، وإن كنت أراه لم يحسم كل جوانبها -ومن يقدر- وإن أبدع في سردها.

الشاعر البصير يستشرف المستقبل، حتى وإن غرق في حاضره، ويخاطب الإنسان أيا كان عنوانه وزمانه، إذ أن كلماته تذوب في كل روح، وتمس أعماق كل نفس.

كتب «تميم» أبيات شعرية لمناسبة أخرى قبل أيام من أحداث الربيع العربي، لكن مغزاه المتجدد، وصدق معانيه يوحيان للناظر أن «تميم» قد كتبه البارحة!.

والمقطع الذي أتناوله من شعر «تميم» في هذا المقال، قد كتب لمناسبة أخرى، قبل أيام الربيع العربي. لكن مغزاه المتجدد، وصدق معانيه، يوحيان للناظر أن «تميم» كتبه البارحة!

تساؤلُ في الخلفية؛ هل لنا أن نحلَمَ كباقي مخلوقات الله، ونحن غارقون في زمن المذابح تتندر بنا الأمم، ويقتل بعضنا بعضًا عيانًا، ونفر من موتٍ سريعٍ على يد «أخٍ» يقصفنا بنيرانه، أو آخر يعذبنا ويصعقنا حتى الموت، أو آخر يفجر نفسهُ فينا، إلى موتٍ بطيءٍ في شاحنة مهجورة على حدود باردة كالجليد.

الحُلم؛ ما الإنسان إلا حلمُ فصبرٌ -طال أو قصر- حتى يحققه!

لكننا نعيش في دهرٍ عضوض عبوس، قد يتركنا أحياناً نفرُّ منه إلى أحلامِنا، لكنه يُنفدُ منا الصبرَ والروحَ والعمرَ والإحساس، فلا نقوى إلا على الحُلمِ وكفى. وحتى هذا لا نلبث توقظنا منه مفزوعين أناتُ المذبوحين، وزفرات المعتقلين، وأشلاءُ المقصوفين، وآهات المُلتاعين، وحسراتُ المحبطين.

لكن أخطر جوانب الأمر عند «تميم»، هو أن يدفعنا زمن المذابح إلى اعتياد قهر الأحلام، فنخسر ما بقي منا.

لقد أكدت الأعوام الخمس الأخيرة خاصة نصفها الثاني، أن طريق أمتنا لدنيا البشر ما زال طويلًا، ومن كان مثلنا ذا حلمٍ سيطول بهِ مداه، وستتخطَّفُهُ في دربهِ الخطوب، وتقارعُه الكروب، فلا بد له -بكل ما بقي في نفسه منه!- أن يحميَ حلمَه، خاصة من نفسِه!

فما أضعف الإنسان وهو يواجه دهرًا سفاكًا أنانيًا، سيقضيه صبرًا مرًا على حُلمٍ كان قابَ قوسيْنِ أو أدنى، فأضحى مسافة النجوم ولو مؤقتا، والدهرُ كما قال تميم: «ليسَ جنائنيا، ولا غرسُ النوى من طبعِه».

وإذًا ….

فمن كان ذا حلم وطال به المدى، فليحمه،
وليحم أيضا نفسه من حلمه!
فالحلم يكبر أدهرا في يومه.

يتضخم الحُلمُ حتى يحتلَّ كل فضاءات الوعي واللاوعي، ومع كل إحباط، يتمدد الشوق إلى الحُلم، ويزداد الهروب إليه، والانغماس فيه، حتى تتكاثر الإحباطات على صاحب الحُلم، فإذ بكل هذا الشوق للحلم الذي يبتعد رويدًا رويدًا، وتنطفئ التماعاته حثيثا، ينقلبُ إلى فيضان من اليأس والقنوط.

فيجد المرء نفسه وقد نسي نفسهُ لما نسي حلمها البعيد الذي كان جوهرَها، فيخسرُ كل شيءٍ عندما ينهار على رأس كيانه سقف الطموحات والأحلام بعد أن تحطمت روافعه من الصبر والشوق والشغف.

فيزيدُ ديْنُ الدهرِ حتى يستحيل.

فإذا استحال: ترى ابنَ آدمَ قانِعًا من كل شيءٍ بالقليلْ.

وهنا تنطلق صرخة «تميم» الهادرة القاطعة، لتحاول كسر حلقة اليأس والإحباط التي يضيقُ خناقُها أكثر فأكثر، ويذكرنا معاشرَ المتجهين لهذه الدوامة القاتلة بأن هذا القنوط لا يليقُ بنبل مقاصدنا، ودماء شهدائنا، وعزمات صبرنا، ونصاعة قضيتنا:

لا تقبلوا بالقبحِ يا أهلي مكافأةً على الصبرِ الجميلْ.

والمنطق بسيط كالفطرة النقية.

فالصبرُ طولَ العمرِ خيرٌ من خلاصٍ كاذبٍ.

ما فيهِ من صفةِ الخلاصِ سوى اسمِهِ.

إذا فأمام مذابحهم احلموا، واصبروا، ولنعضَّ عليهما بنواجذ الأمل والإصرار.

أما «تميم» فما زال له معنا وقائعَ لا تنتهي أعاننا الله على إتمامِها.