في مايو/أيار الماضي صدر العدد الأول باللغة العربية من المجلة الأردنية «ماي كالي» وجاءت إحدى مقالاته بعنوان «الست أم كلثوم في القضية الجندرية» لتعيد طرح أقاويل قديمة عن كون «أم كلثوم» مثلية الجنس.

«ماي كالي» هي مجلة إلكترونية أردنية تأسست عام 2007 وتصدر باللغة الإنجليزية، ومؤخرًا أضيفت إليها النسخة العربية. وتعرف المجلة نفسها بأنها مهتمة بشئون الأقليات الجنسية بمختلف أطيافها (المثليين، والمثليات، وثنائيي الميول الجنسية، والمتحولين جنسيًا، وحاملي صفات الجنسين، واللاجنسيين).

تناقلت العديد من المواقع العربية المقال المنشور بمجلة «ماي كالي» ووصفته بأنه تحقيق صحفي يستقصي القضية باستفاضة للمرة الأولى منذ عقود، كما أثنت على الجهد الإعلامي لكاتبه العراقي «موسى الشديدي». قد يبدو الأمر صادمًا للبعض، في حين لا يخفى على البعض الآخر أنه ليس بالجديد تناقل مثل هذه الأقاويل، في هذا التقرير نفند كلام الكاتب العراقي، ونرد على كافة ادعاءاته وبالرجوع لنفس المصادر التي استقى منها.


اقتباسات مجتثة

عرفت كذلك أني أصغي لأم كلثوم وهي تأخذني إليها، لأنها ليست مطربة أنثى. ليس تماما. وجهها ليس جميلًا كوجوه النساء ولها رئتان هائلتان، ثدياها كبيران لكن رقبتها غليظة لتستطيع احتواء حنجرتها، ولأن صوتها أكثر من جنس واحد فهو يطلع حتى قبة الرحم، ويهبط حتى بئر الخصيتين. صوت بلا جنس والاثنان معًا. كلام أغانيها في مذكّر يتضمن التأنيث، ولقبها الست. الست فقط كأنه توكيد لما ليس مؤكدًا، ليس بديهيًا.

اعتمد كاتب المقال على عدد من الاقتباسات المجتثة من سياقها، وساقها كأدلة على نظريته في كون أم كلثوم سحاقية، كان من ضمنها الاقتباس السابق من رواية «أهل الهوى» للكاتبة اللبنانية «هدى بركات». وهذا الادعاء لا يعتد به بأي حال من الأحوال، فالنصوص الأدبية لا ترقي إلى الحقائق التاريخية، النص الأدبي ما هو إلا من خيال الكاتب، ومهما بلغ من التوافق مع وقائع حقيقية إلا أنه يبقى مجرد «صرحٍ من خيال» كما تقول الست.

كان حب الشاعر «أحمد رامي» لأم كلثوم حبًا حقيقيًا كبيرًا ونادرًا، وكان هذا الحب مصدر أغانيه التي كتبها لها من وحيها، وقد بلغ عدد هذه الأغاني فيما يقول بعض المؤرخين 137 أغنية من بين 283 أغنية غنتها أم كلثوم طيلة حياتها الفنية.

وفي جزء آخر من المقال أورد كاتبه هذا الاقتباس من كتاب «لغز أم كلثوم» للكاتب الصحفي الكبير «رجاء النقّاش» يتحدث فيه عن علاقة أم كلثوم بالشاعر أحمد رامي، ثم أعقب هذا الاقتباس بقوله «ورد هذا النص تحت عنوان الزواج المستحيل، وحتى نهاية الكتاب لم يوضح بشكل قاطع لماذا كان مستحيلًا»

تعمد كاتب المقال هنا تضليل القارئ بجلب اقتباس ليس له أي علاقة بموضوع المقال فقط للإشارة إلى عنوان الفصل الذي ورد فيه هذا الاقتباس، ثم ذهب لأبعد من ذلك بالكذب المباشر على القارئ والقول بأن كاتب النص الأصلي لم يوضح مقصده من هذا العنوان ولم يُجب على سؤال «لماذا كان زواج رامي من أم كلثوم مستحيلا؟»، ولو أن كاتب المقال كلّف نفسه عناء استكمال هذا الفصل حتى نهايته لوجد الإجابة صريحة ومباشرة في هذا الاقتباس:

وفي هذا الإطار يمكننا أن نتصور علاقة الحب بين رامي وأم كلثوم، ولعلنا نحس أن الاثنين معا كانا خاضعين لنوع من الأقدار لا يمكن لأحد أن يغيرها. فرامي كان بحاجة إلى حبه ليكتب قصائده الرائعة المشتعلة الصادرة عن قلب مخلص متصوف شديد النقاء، وأم كلثوم كانت بحاجة إلى قصائد رامي العاطفية لكي تغني للناس ما يعبر عنهم جميعًا، وليس ما يعبر عنها وحدها. ولذلك كان الزواج مستحيلا بين الاثنين، فهما يشبهان المطر والنهر، فلو توقف مطر «رامي» لما فاض نهر «أم كلثوم»، ومن المستحيل أن يصبح المطر والنهر شيئًا واحدًا، وإن كانت الصلة بينهما هي أصل كل شيء في الطبيعة.
رجاء النقاش – لغز أم كلثوم – ص 117

كل رجال «الست»

اتجه كاتب المقال بعد الحديث عن أحمد رامي إلى سرد سيرة الرجال في حياة أم كلثوم وأشار إلى ثلاثة منهم هم؛ الموسيقار «محمد القصبجي» والملحن «محمود الشريف»، والدكتور «حسن الحفناوي»، وقال ما نصه:

أعلنت الصحف ذات صباح بأنه أصبح زوج الست، إنه محمود الشريف، لما كان فنانًا شعبيًا يقف على أول درجات السلم، لكن الطلاق أخذ مجراه بعد أقل من أسبوعين لأسباب لا يعرفها أحد بشكل مؤكد. وقع محمد القصبجي الموسيقار الكبير عواد فرقة أم كلثوم حتى آخر يوم له في عشقها، لكن قصة حبه كانت من طرف واحد يقال أنه تعذب فيه كثيرًا. أما من يمكن أن نعتبره زوجها الحقيقي الوحيد، فهو الطبيب حسن الحفناوي والذي تجمع المصادر بأنه كان طبيبها أكثر منه زوجها، واستمر زواجهما حتى وفاتها.

بهذه العبارات المقتضبة أنهى كاتب المقال حديثه عن الرجال في حياة أم كلثوم، دون أي تعليق من جانبه يوضح القصد من ذكر هذه الأسماء دون غيرها، وكأنما يقول للقارئ «هكذا كانت علاقات أم كلثوم العاطفية، وهذا ما يؤكد ميولها الجنسية الشاذة»، في حين أن الحقيقة على النقيض التام من هذا الزعم، ناهيك عن أنه جانبه الصواب في كثير من القليل الذي ذكره. وتكفي هنا الإشارة إلى علاقة واحدة أغفلها كاتب المقال تهدم الأساس الواهي الذي بني عليه نظريته وهي زواج أم كلثوم من الصحفي الكبير «مصطفي أمين».

في التحقيق الصحفي الذي نشرته جريدة الأهرام في ملحقها الصادر يوم الجمعة 28 يناير/كانون الثاني 2000، تحت عنوان «نغم مصر الجميل» والذي تضمن أحاديث متعددة حول شخصية أم كلثوم من ضمنها حديث مع الأستاذ «سمير خالد إبراهيم» ابن الشيخ خالد شقيق أم كلثوم، قال فيه: «لقد نشأت مع أم كلثوم في بيتها بالزمالك، وأذكر أن والدي وافق على زواجها من أحد كبار الصحفيين، وقد تزوجته لمدة عشر سنوات» غير أنه لم يذكر اسم هذا الصحفي.

وقد أكد الكاتب الكبير «رجاء النقاش» على هذه الواقعة في كتابه «لغز أم كلثوم»، وأضاف أنه قد علم من أحد كبار المسئولين في الدولة أنه – أي المسئول الكبير – في عام 1960 وقعت في يده الأوراق الخاصة بمصطفى أمين وكان من بينها عقد زواج رسمي بين مصطفى أمين وأم كلثوم.

ترددت الكثير من الأقاويل عن زواج أم كلثوم من مصطفي أمين إلا أن الثابت فيها أن هذا الزواج كان سريًا ولم ينكشف أمره إلا بعد انفصالهما بفترة طويلة، حتى أن البعض ذهب إلى أن عقد الزواج تم اكتشافه في عام 1965 بين أوراق مصطفى أمين أثناء القبض عليه لاتهامه بالتجسس لصالح الولايات المتحدة.

وهنا يأتي السؤال الأهم؛ إذا كانت أم كلثوم قد تعمدت إخفاء زواجها من مصطفى أمين لمدة عشر سنوات كاملة، فكيف يصدق زعم كاتب المقال بأنها كانت مثلية الجنس؟


قبلة الست

مرة أخرى حاول كاتب المقال ليّ الحقائق لإثبات نظريته الشاذة فأشار إلى صورة مشهورة لأم كلثوم وهي تتلقي قبلة فموية من سيدة أخرى وأعقبها باقتباس من الكتاب الشهير «شاهدة على انحرافات صلاح نصر» لكاتبته «اعتماد خورشيد»، تقول فيه: «كانت هناك المطربة الكبيرة التي فاقت شهرتها الآفاق، ولكنها كانت مصابة بشذوذ مصادقة النساء والفتيات الصغيرات».

هذا أيضا من قبيل تضليل القارئ والكذب عليه. فأما الصورة فليس لها أي دلالة، فالتقبيل بين النساء ليس بالأمر المستهجن في الثقافات الشرقية على العكس منها الثقافات الغربية، وهناك مئات الصور والمشاهد من الأفلام المصرية التي تبثها التلفزيونات العربية كل يوم دون أن يؤولها المشاهد هذا التأويل الشاذ، كتلك الصورة من فيلم «إشاعة حب». وأما اعتماد خورشيد فالرد عليها أكثر من الأخذ منها، فلا يخفى على الكثيرين أن كتابها الشهير مليئ بالمغالطات والمبالغات، وأنها لم تترك أحدًا لم تنل منه أو تأكل من لحمه.

أحد مشاهد فيلم "إشاعة حب"
أحد مشاهد فيلم «إشاعة حب»

ختم الكاتب موسى الشديد مقاله باقتباس آخر للمفكر «إدوارد سعيد» تحدث فيه بشكل مباشر عن أقاويل ترددت عن ميول أم كلثوم الجنسية. وبالفعل قال إدوارد سعيد هذا الكلام في مقاله الشهير «تحية لراقصة شرقية» إلا أنه لم يزد عن كونه أسلوبا خبريا، فلم يعلق عليه لا بالتأكيد ولا بالنفي، وكل ما قاله أن أقاويل ترددت في حياتها عن ميولها الجنسية، غير أن الجمهور تجاوز هذه الأقاويل لما لها – أي أم كلثوم – من مكانة كبيرة على المستوى الفني والوطني. وانتهي الحديث عند هذا الحد ولم يتطرق إليه إدوارد سعيد مرة أخرى في باقي المقال.

During her lifetime, there was talk about whether or not she was a lesbian, but the sheer force of her performances of elevated music set to classical verse overrode such rumours. In Egypt she was a national symbol, respected both during the monarchy and after the revolution led by Gamal Abdel Nasser.
من مقال «Homage to a belly-dancer» – سبتمبر 1990

مقال «دوت مصر» المحذوف

في أبريل/نيسان من العام الماضي 2015 نشر موقع «دوت مصر» تقريرًا بعنوان «هل كانت لأم كلثوم ميول سحاقية؟» ثم حذفه بعد ساعات قليلة. كتب هذا التقرير «إسلام الرفاعي» المشهور بحسابه على موقع «تويتر» والذي يحمل اسم «الخرم». واستطاع أحد المواقع أن ينقل نص المقال قبل أن يتم حذفه. وهو المقال نفسه الذي استشهد به «موسى الشديدي» في مجلة «ماي كالي».

وإذا صح ما تم نقله على أنه مقال «دوت مصر» المحذوف، فليس هناك ما يقال عنه سوى أنه تقرير قصير يطرح نفس التساؤل استنادًا إلى علاقات أم كلثوم العاطفية غير الناجحة على كثرة عشاقها من الرجال، غير أن كاتبه يضيف في آخر التقرير فقرة قصيرة يقول فيها «فعند النظر لكلمات أم كلثوم نلاحظ أنها مزيج بين لغة المذكر والمؤنث، في إشارة قوية لكونها امراة خارج إطار الجنس بمفهومه الواضح وقتها، فالتفكيك اللفظي لأغانيها وأدائها ربما يلمح بشكل أو بآخر لميولها الجنسية، التي تداولها البعض على استحياء.»

ونفهم من هذا الكلام أن الكاتب استدل على ميول أم كلثوم الجنسية من كلمات أغانيها، وإذا مددنا الخط على استقامته، فهل يمكننا أن نستنتج من هذه النظرية أن الملايين من عشاق أم كلثوم، والذين هم بالضرورة من عشاق مثل هذه الكلمات، هم أيضًا يضمرون ميولا جنسية شاذة؟

المعروف لرواد مواقع التواصل الاجتماعي أن «إسلام الرفاعي» كاتب هذا التقرير، أو كما يحب أن يشير لنفسه بـ«الخرم»، يكتسب شهرته الواسعة من استخدامه المفرط للألفاظ النابية والبذيئة، وأن غالبية منشوراته على موقع «تويتر» يختلط بها الجد بالهزل، حتى أنه في تعليقه على المقال المنشور بمجلة «ماي كالي» قام بنشر مجموعة من الصور لأم كلثوم وذيلها بتعليقات ساخرة وإشارات زائفة.

كما يبدو للقارئ الكريم أن الأمر كله لا يتخطى حدود الإشاعات الكاذبة التي تفتقر إلى الحد الأدنى من الشواهد المنطقية التي تعزز مجرد كونها قابلة للشك والبحث. وهو ما يدفعنا إلى القول بأن مثل هذه المقالات والتقارير لم يكن الهدف منها استقصاء الحقيقة أو مجرد الطرح المهني والمحترم لقضية قد تهم الرأي العام، بقدر ما كان الغرض الأساسي هو «البروباجندا» والدعاية الإعلامية باستخدام محتوًى أجوف وصاخب، أو على حد تعبير المثل الشعبي «طق حنك».