الأماكن كالبشر، تسكنها روحٌ ما، تألفها وتألفك أو تتنافران وتختلفان، وهو التواصل الذي يمكن أن تشعر به مع بلد أو مدينة ما، أو مع أحد الشوارع أو البيوت، أو حتى مع ما هو دون ذلك، كحالتي مع تلك الغرفة الصغيرة المكتظة بالمكاتب الدراسية، غرفة باحثي الدراسات العليا بالجامعة. منذ أن دخلت إليها واخترت مكتبي بها أول هذا العام الدراسي، وأنا أشعر أن لها روحا ما، وأن هناك ألفة بيننا أو سابق معرفة، وكما تظل تدقق وترجع البصر في وجه إنسان تشعر أنه مألوفٌ لديك، وتظل تخمن أين يا ترى رأيته مسبقا، أو هل يشبه أحد الوجوه المألوفة لديك، قضيت أوقاتا طويلة والروح اللاهية لهذه الغرفة تتشكل في ذهني بأشكال متباينة، خصوصا في أوقات الملل أو الإرهاق الذهني، وتترآى لي وقاطنيها في أحوالٍ وهيئاتٍ عديدة.


المسرح العبثي

أول ما تبادر إلى ذهني في أيامي الأولى هو عبثية الحالة الإنسانية في هذه الغرفة، فالباحثون ينتمون إلى جنسياتٍ مختلفة، بل من مجالات دراسية متباينة، نظرا لاحتواء المعهد الذي أدرس به على تخصصات داخلية كثيرة، من الدراسات الإسلامية، إلى الأدب واللغة، إلى السياسة والاقتصاد والتاريخ، إلى الدراسات التخصصية الكردية والخليجية والفلسطينية، وهذا الخليط غير المتجانس من البشر (نتيجة اختلاف اللغات والثقافات والأيديولوجيات ومجالات الدراسة والطباع الشخصية) كان عليه أن يتعايش معا في غرفة صغيرة، نحو ثماني ساعات يوميا على الأقل، لمدة ثمانية أشهر في العام الدراسي ، لذلك كنت كثيرا ما أشعر أننا داخل هذه الغرفة كممثلين تُركوا بدون نص أو اتفاق مسبق على الأدوار، وكنت أستمتع ونحن نرتجل لكي نملأ فترات العرض، وكيف يحاول الأوروبي والخليجي، أو السلفي والشيعي، أو الكردي والتركي أن يتواصلا معا متجاوزين هذه الحواجز التي تبدو كحدود لامرئية تفصل بين مكاتبهم، مع ما كان ينتج عن ذلك في أحيان كثيرة من سوء تفاهم مؤسف أو صداقاتٍ غير متوقعة.


الكهف

اكتشفت بعد فترة قصيرة أن هذه الغرفة تسمى الكهف، ربما نتيجة كونها في الدور الأرضي تحت سلم المبنى، وهي تسمية عرفية أصبحت مستقرة لدرجة أنها صارت تستخدم في مراسلات البريد الإلكتروني لإدارة المعهد (Cave)، وطبعا نحن ساكني هذا الكهف من البشر البدائيين أو الحيوانات الكامنة!

لكن في الحقيقة، فإن منظر الطلاب وهم منهمكون في مكاتبهم، محاطون بالكتب المصفوفة حولهم، وفوق الرفوف حول رءوسهم، كانت تشعرني بأنهم نوعٌ من القوارض داخل هذا الكهف، وكأن هناك نفقا خفيا يحفرونه أمامهم بدأب، حتى عندما كنت أحادث أحدهم فيرفع رأسه لينظر إليّ كان يبدو أحيانا وكأنه أرنبٌ بريٌّ يبرز رأسه من داخل جحره، بل أحيانا حين يغيب أحد الباحثين عدة أشهر في دراسة ميدانية ليعود مرة أخرى وسط ترحيب زملائه، كان هذا طقسا يمكن تشبيهه برجل الكهف الذي يخرج في رحلة صيدٍ مدة من الزمن ليعود بفريسةٍ يعكف عليها في جحره مرة أخرى.


الدير

هل فكرت مرة أن الأكاديميا هي رهبنة من نوع جديد، ربما من النوع الذي بشّر به أوجست كونت؟! هل أدركت يوما كيف يشبه الأكاديميون الرهبان في الانكفاء على القراءة والتدريس وإعداد الأوراق البحثية، معتزلين الحياة الحقيقية ومكتفين بالحديث عنها والتأليف حولها؟! إن كان ذلك لا يصح على إطلاقه، خصوصا في دراسات المجالات التطبيقية، فإنه يصح بشكل أكيد في دراسات العلوم الاجتماعية والإنسانية.

على الرغم أيضا من أن بعض الباحثين في الغرفة لا يبدون كرهبان، بل كمستثمرين في المجال العلمي، فهم عمليون إجرائيون بشكل مزعج، تقتصر غايتهم في الحصول على لقب أكاديمي يحسن مستقبلهم الوظيفي، فإن هذه الغرفة جمعتني بباحثين أقرب إلى الرهبان من أوجه عديدة، بعضهم دخل إلى دير الأكاديميا فرارا من إحباطات شخصية أو عامة، يحاول أن يعتزل العالم الذي صدمه، وبعضهم تستغرقه حالة وجدانية صوفية وهو منهمك في قراءته وبحثه أو حتى حين يتحدث عن موضوع دراسته إليك، لكن الأهم هم أولئك الذين يبدون في براءة وحيرة الذين لم يخرجوا من صومعتهم من قبل، حتى أنك لتعجب كيف يمكن لأمثال هؤلاء أن يدركوا الحياة بتعقيداتها فقط من منظار الكتب والأبحاث.

قد دخلت الدّير أستنطق فيه الناسكينا فإذا القوم من الحيرة مثلي باهتونا غلب اليأس عليهم، فهم مستسلمونا وإذا بالباب مكتوب عليه… لست أدري!
الطلاسم – إيليا أبو ماضي

إلى أين ستقلني هذه الغرفة؟!

هل بقي شيء آخر من سحر هذه الغرفة؟! نعم بالتأكيد، في أمسيات الشتاء الطويلة، حين يخيم الليل سريعا وكثيفا على مدينة إكستر الهادئة بالريف الإنجليزي الجنوبي، وتلف الظلمة بإحكام الغابة المحيطة ببناية المعهد المميزة، يمتد ضوء الغرفة إلى الخارج عبر نوافذها متحديا هذه الظلمة، فأتخيلها وكأنها طائرة تحلق ليلا، أو غواصة تسافر في أعماق محيط، وأتساءل: أين ستقلني هذه الغرفة بعد ثلاث أو أربع سنوات؟! وإلى أين يا ترى أقلت السابقين الذين مازالت أشباحهم تحل بالغرفة حين يحدثني عنهم بعض الرفاق الأقدم عهدا وهم يشيرون إلى مكاتبهم ويتحدثون عن ذكرياتهم معهم وما فعلته بهم الأيام؟! ومن هم يا ترى الذين سيحلون في هذه المكاتب بعدنا؟! وهل سيبقى بها شيء من ذكرانا الحاضرة ليكون شبح الماضي الذي يثير خيال أحد الوافدين الجدد، فيشعر بألفة محيرة وغير مبررة مع غرفة صغيرة مكتظة بالمكاتب الدراسية؟!