في شهر أبريل من هذا العام غادر عالمنا المترجم طلعت الشايب، والأستاذ الطاهر أحمد مكي، وقبلهما بأشهر الأستاذ عبد القادر عبد اللي، قابلت الأستاذ طلعت الشايب في الدوحة عدة مرات في زياراته المتكررة لمؤتمرات الترجمة، كانت روحه جميلة، ودائما ما يقابلك بابتسامة صافية، ويجيب على من يسأله ويتناقش معه بدماثة، وتجمعه مع المترجمين الآخرين جلسات نقاش ومزاح. قدم مداخلة أمينة عن تجربة المركز القومي للترجمة وذكر الإيجابيات والسلبيات لأنه كان قريباً من إدارة المركز.

كان يزور الدوحة وهو يحمل آخر إصداراته من الكتب المترجمة يهديها للأصدقاء وللمؤسسات الثقافية، ولم تنقطع صلته بالدوحة منذ أن غادرها في التسعينيات، فلديه معارف وأصدقاء من المثقفين تعرف إليهم خلال إقامته أكثر من 12 عاماً في الدوحة. رأيته يحتفي بمقابلته الدكتور ماهر شفيق فريد في أحد مؤتمرات الترجمة ممازحاً له، فهما لم يلتقيا بسبب إقامة الدكتور ماهر شفيق فريد في لندن وتقابلا أخيراً في الدوحة. توفي طلعت الشايب وهو في صالون أدبي يتحدث عن تجربته في الترجمة: أصابته أزمة قلبية نقل على إثرها للمستشفى، وهكذا مات على ما عاش يدندن حوله ويثري الثقافة العربية بترجماته.

ولد طلعت الشايب عام 1942 بقرية البتانون بمحافظة المنوفية، تفتحت عيناه على مكتبة والده أحمد أفندي التي كانت تضم العديد من الكتب والمجلات الثقافية، درس والده في الأزهر ومدرسة المعلمين واشتغل بالتدريس في عشرينيات القرن الماضي، مما قرأه باكراً العقد الفريد وديوان المتنبي والإمتاع والمؤانسة ومروج الذهب، وكانت حوله المجلات الأدبية مثل المقتطف والهلال والكاتب المصري والرسالة، كانت أسماء مثل طه حسين والرافعي ومحمد حسين هيكل تتردد عليه كأنهم أقارب أو أصدقاء قدامى لوالده.

التحق بعد ذلك بكلية المعلمين بالقاهرة بقسم اللغة الإنجليزية عام 1958، وتعرف على أعمال مترجمة لأعلام مثل محمد مندور وحسن عثمان وإبراهيم زكى خورشيد ومحمد غنيمى هلال وعبد العزيز توفيق جاويد ومحمد بدران وسامى الدروبي، وكان من بين من أخذوا بيده إلى هذا المجال أساتذة مثل عبد الله عبد الحافظ ونظمي لوقا ومحمد علي العريان وسعد الجبلاوي.

تخرج في كلية المعلمين عام 1962، وعمل مدرساً للغة الإنجليزية بالمدارس الثانوية في الإسكندرية وشبين الكوم والقاهرة خمس سنوات، مارس خلالها العمل السياسي في إطار منظمة الشباب الاشتراكي آنذاك، وقرأ في هذه الفترة في السياسة والاقتصاد والإنسانيات، وكان الزخم الثقافي ما زال مستمراً في مصر في الستينات.

دخل الجيش عام 1967 وفي نفس العام حدثت النكسة، ومع جهود إعادة بناء القوات المسلحة ورفع كفاءتها القتالية، تم استدعاء الملازم أول طلعت الشايب مطلع 1969 إلى القاهرة من جبهة القنال ضمن مجموعة من ضباط الاحتياط والجنود من خريجي أقسام اللغات لدراسة اللغة الروسية دراسة مكثفة في كلية القادة والأركان، للتعامل مع الخبراء والمستشارين السوفييت الذين تدفقوا على مصر، هنا سوف تتيح له الظروف العمل في ترجمة الكتابات العسكرية والترجمة لكبار قادة الأركان مثل محمد عبد الغني الجمسي (وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة)، وكمال حسن علي (قائد القوات المدرعة في حرب أكتوبر وأصبح وزير دفاع بعد ذلك)، وغيرهما من كبار القادة، وترجم في هذه الفترة ثلاثة كتب عسكرية، وتعرف إلى أحد الجنرالات السوفيت الذي كان ينادية بالنقيب تلاتوف بدل طلعت، وعلى هامش النقاشات العسكرية جمعهم نقاشات عن الأدب الروسي من خلال نقاشات عن دوستويفسكي وجوركي وتولستوي وشولوخوف، وأشعار بوشكين وباسترناك وأخماتوفا وغيرهم، والتي استفادها وتعرف عليها من ترجمات سامي الدروبي.

ككاتب ومترجم حر غير مرتبط بعمل حكومي، سيكون لدى مترجمنا الوقت الكافي للسفر والمشاركة في الملتقيات الثقافية، وزيارة معارض الكتب، وتحكيم بعض جوائز الترجمة.

ترك القوات المسلحة عام 1974 ليعود للعمل المدني مدرساً للغة الإنجليزية في مصر، ثم في الكويت معاراً من وزارة التربية والتعليم، قبل أن يشد الرحال إلى الدوحة عام 1980. وبرغم أن عمله في الدوحة في مجال الإدارة (شركة قطر للبتروكيماويات)، إلا أنه اتصل بالوسط الثقافي وشارك في بعض البرامج الإذاعية، وشارك بدعوة من الناقد رجاء النقاش في الكتابة والترجمة في مجلة الدوحة التي كان يرأس تحريرها النقاش آنذاك، ثم أشرف على باب ثقافي بعنوان «نافذة على الثقافة العالمية» خلفاً لمحرره الأستاذ محمد العزب موسى، وبعد توقف مجلة الدوحة عام 1986، شارك في مجلة أخبار الأسبوع، وفي مرحلة مختلفة كانت جريدة الراية تنشر عموداً أسبوعياً له بعنوان «كَتب يَكْتب»، وجريدة الشرق عمودًا آخر بعنوان «بث مباشر»، وفي جريدة الوطن كان يكتب مقالاً أسبوعياً بعنوان «جسور ثقافية».

أتاح له العمل في الدوحة السفر في إحدى الرحلات فقام بزيارة الهند لأعمال خاصة بشركة قطر للبتروكيماويات وأجرى على هامش الزيارة حواراً طويلا مع الصحفى الهندي الشهير «كارنجيا»، محاور نهرو وعبد الناصر، ونشر الحوار على صفحة كاملة بجريدة الراية بتاريخ (27 يناير 1985)، أتاحت له الإقامة والعمل في الخليج أن يشعر بأن الخليج ليس نفطاً فحسب، بل بشر يصنعون الحياة على حد وصفه.

غادر الدوحة عام 1992، وانتقل إلى المرحلة الثالثة في تجربته كمترجم: من الترجمة العسكرية، إلى الترجمة الصحافية في الدوحة، ثم إلى مرحلة الكتابة والترجمة في الصحافة المصرية في مجلات مثل الهلال وأدب ونقد و إبداع والثقافة الجديدة والشعر وأخبار الأدب والأهالى. كما تولى رئاسة تحرير سلسلة «آفاق الترجمة»، التي قدمت الكثير من العناوين المهمة المترجمة إلى العربية.

ككاتب ومترجم حر غير مرتبط بعمل حكومي، سيكون لدى مترجمنا الوقت الكافي للسفر والمشاركة في الملتقيات الثقافية، وزيارة معارض الكتب، وتحكيم بعض جوائز الترجمة، إلى جانب القراءة والكتابة وترجمة كتب كاملة، وفي عام 1995 ستصدر دار شرقيات بالقاهرة أول كتاب مترجم له وهو حدود حرية التعبير: تجربة كتاب الرواية في مصر في عهدي عبد الناصر والسادات، وهو دراسة للكاتبة السويدية مارينا ستاج، كما ستصدر له دار شرقيات كتاب المثقفون لـبول جونسون، وهو الكتاب الذي يستعرض العديد من فضائح وتناقضات مشاهير المثقفين بداية من جان جاك روسو إلى نعوم تشومسكي، ثم ترجمة رواية فتاة عادية لآرثر ميللر، ورواية عاريا أمام الآلهة للكاتب الهندي شيف كومار ورواية اتبعي قلبك للإيطالية سوزانا تامارو ورواية البطء لميلان كونديرا والحمامة للألماني پاتريك زوسكند.

ثم يترجم مع الهيئة العامة لقصور الثقافة ترجمة رواية الملاك الصامت لهينريش پول، والرواية الإيطالية الحرير لأليساندرو باريكو التي ترجمها عام 1998 بعد صدور ترجمتها الإنجليزية في وقت قصير، تلك الرواية الصغيرة التي تقرأ في جلسة واحدة، قرأتها قديما وما زلت أتذكر فرحتي بها وحزني على أنها قصيرة، وفيها من الرقة وعذوبة السرد الكثير.

وترجم بعد ذلك كتاب مختارات من الخرافة الصينية بعنوان أنا القمر. وفى 1998 ستصدر دار سطور ترجمتة لكتاب صمويل هنتنجتون العمدة صدام الحضارات وإعادة صنع النظام العالمي، ويصدر كتاب مختارات من مكتوب لپاولو كويلهو وهوس العمق وقصص أخرى لـپاتريك زوسكند، ومختارات من الشعر العالمى بعنوان أصوات الضمير، كما ينشر المجلس الأعلى للثقافة ترجمة رواية الخوف من المرايا لـطارق علي، وكتاب فكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي لآرثر هيرمان، وترجمة رواية بقايا اليوم لـكازو ايشيجورو وهي الرواية التي حصلت على جائزة البوكر وتحولت إلى فيلم عام 1993 بطولة أنطوني هوبكنز وإيما تومسون.

في الفترة ما بين 2003 و2006 عمل الأستاذ طلعت مستشارا ومنسقا عاما للمشروع القومى للترجمة (المجلس الأعلى للثقافة)، مع مواصلة نشاطه فى الترجمة ليصدر له في تلك الفترة ترجمة كتاب الحرب الباردة الثقافية: دور المخابرات المركزية الأمريكية في الآداب والفنون لفرانسيس ستونر سوندرز، وترجمة كتاب تيتز روكي بعنوان في طفولتي: الطفولة في السيرة الذاتية العربية، ومحنة الكاتب الأفريقي للأمريكي تشارلز لارسون، والفنون والآداب تحت ضغط العولمة للهولندي چووست سمايرز أحد أبرز رموز الحركة العالمية لمناهضة العولمة، كما قام بتحرير موسوعة الأعمال الكاملة لرئيس وزراء ماليزيا مهاتير محمد، وترجمة ثلاثة كتب منها هي: الإسلام والأمة الإسلامية وخطة جديدة لآسيا والتحدى.

لا أعرف للأستاذ طلعت نصوصاً ذاتية أو أدبية خاصة به، وفي كثير من ترجماته لا يكتب مقدمات لها، فقد جعل قوله هي ترجمته، والترجمة جاءت من اختياره الذي ينم عن عقله وذوقه

في 2007 أنشئ المركز القومى للترجمة، عمل به الأستاذ طلعت الشايب مساعداً لمديره ومشرفاً على المكتب الفني به حتى أبريل 2010، بعدها قدم استقالته للتفرغ للقراءة والكتابة والترجمة والمشاركة في المؤتمرات الثقافية وورش الترجمة، وفي الفترة من 2010 أصدر له المركز القومي للترجمة ترجمة لكتاب الاستشراق الأمريكي لـدوجلاس ليتل، وهو عمل موسوعي يتناول دور الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط منذ 1945، وترجمة كتاب نحو فهم للعولمة الثقافية لـپول هوپر، وترجمة كتاب غياب السلام لـنيكولاس جويات، كما قام بمراجعة عدد من الكتب، من بينها موسوعة كمبردچ للفكر السياسي في القرن العشرين، وجدل الإسلام والمعرفة في عالم متغير، وهو رسالة دكتوراه للباحثة منى أباظة، وقد انتهى في العامين الأخيرين من ترجمة ثلاثة كتب للمركز القومي للترجمة هي الأبيض المتوسط: بحر ليس كمثله بحر من تأليف چون نورويش، وأدب الحرب الباردة وهو مجموعة دراسات حررها أندرو هاموند، والعقيدة العسكرية من تحرير بيرت تشاپمان، ورواية كتاب صلاح الدين لطارق علي.

يشرح الأستاذ طلعت الشايب سر صنعته فبعد أن يفرغ من قراءة الكتاب ويعجب به، يحتشد بعد ذلك في تحضير ما يسميه (مكتبة المترجم)، وهي الكتب والدراسات حول الموضوع، لتعينه تلك الكتب على كتابة مقدمة الكتاب والهوامش، وهو ينقل النص باللغة العربية دون أن يدهس القارئ العربي بمصطلحات وكلمات غامضة، لا يستنكف مترجمنا من سؤال المتخصصين، فعندما ترجم كتاب الباحث الأمريكي آرثر هيرمان: فكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي، استعان بخبرة ومعرفة الدكتور عبد الغفار مكاوي – عليه رحمة الله – بالفلسفة الألمانية وكذلك باللغة الألمانية.

من المهم وجود تكوين ثقافي للمترجم يتيح له إتقان الترجمة، وفهم سياق الحديث ومعنى النص، والأستاذ طلعت يذكر في هذا الصدد قصتين عن الترجمة الشفوية لهما علاقة بمفهوم السياق: حينما ترجم لقاء بين رئيس هيئة العمليات آنذاك سعد الشاذلي وكبير مستشاري إدارة المدرعات الروسي، ففي حديث الچنرال الروسي وردت عبارة نقلها إلى الشاذلي على هذا النحو «…وكأنه يبيع الماء فى حارة السقايين».

لم يقاطع الشاذلي الترجمة ولم يقاطعه، ولكنه بعد انتهاء اللقاء سأله «… إيه يا حضرة الضابط؟ هما الروس عندهم حارة سقايين برضه؟» شرحت له أن الچنرال الروسي قال عبارة بالروسية ترجمتها الحرفية «لماذا تذهب إلى تولا ومعك ساموڤارك؟» (وهو وعاء معدني يستخدم لتحضير الشاي) وأوضح أن تولا مدينة مشهورة بصناعة الساموڤار، ولذا لا مبرر لأن يحمل المسافر إليها ساموڤارا معه، وأضاف له مستعرضًا ثقافته ما يقوله الإنجليز «لماذا تحمل الفحم إلى نيوكاسل؟».

أما الموقف الثاني، أثناء ترجمته لخطاب الرئيس السادات الشهير في يوليو 1972، الذى أعلن فيه الاستغناء عن خدمات عدد من الخبراء والمستشارين السوڤييت فيما كان يسميه «وقفة موضوعية مع الصديق». فى محاولة لذكر السوڤييت ببعض الخير قال الرئيس السادات إن الاتحاد السوڤيتى قام بالواجب عندما توفي الرئيس عبد الناصر عندما أرسل وفدا رفيع المستوى للعزاء برئاسة كوسيجين الذى جاء «ومعاه الصينية». فترجم الأستاذ طلعت الشايب «ومعاه الصينية» بأنهم وقفوا معنا فى تلك الظروف الصعبة، ولكن الحيرة ظلت مرتسمة على وجوه المستمعين إلى الترجمة من الروس، وبخاصة بعض المترجمين الذين التقطت أسماعهم كلمة «الصينية»… ومما عقد الأمر أن العلاقات السوڤيتية الصينية كانت متوترة فى تلك الأيام! وبعد الاجتماع سأل المترجم الروسي ماذا كان يقصد الرئيس بالصينية؟ فذكر لهم عادات القرى المصرية في إرسال الصواني أو الطعام إلى أسرة المتوفى كنوع من المشاركة الوجدانية، وقد توقع المترجم الروسي قبلها أن الأستاذ طلعت يخفي عنهم شيئاً!

لا أعرف للأستاذ طلعت نصوصاً ذاتية أو أدبية خاصة به، وفي كثير من ترجماته لا يكتب مقدمات لها بنفسه، لذا فقد جعل قوله هي ترجمته، والترجمة جاءت من اختياره الذي ينم عن عقله وذوقه، وذوقه تولد من حرفة القراءة، فكل نصوصه اختارها بعد القراءة وبميل شخصي، فلقد كان يختار أن يترجم الكتاب بعد أن يقرأه ويجده يستحق أن يترجم إلى العربية عدا كتبه العسكرية وترجمته لكتاب صدام الحضارات لصموئيل هنتجنتون الذي ترجمه بطلب أحد الناشرين، خلاصة حياة طلعت الشايب هي الاجتهاد دون نخبوية المثقفين، وكذلك التمكن من اللغة العربية يقول العقاد: «ولا يخفى أن التمكن من اللغة عمل لا يدل على شيء كما تدل عليه الترجمة، لأن المنشئ مطلق في تفكيره وتعبيره، أما المترجم فله قيود من كلام المنشئ الأصيل. ولولا قدرة عنده على التصرف بالمعاني والكلمات، لما استطاع التوفيق بين كلامه وفكر غيره في هذه القيود»، والدرس الآخر مساعدة الآخرين من المترجمين الشباب أن ينضموا للحلقة ولتجربة الترجمة، فلقد ساعد المترجمين الشباب بود وبفرح وبشعور بمسؤولية المعلم الذي يأخذ بيد التلاميذ، رحمه الله.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.