ما قرأتُ شيئًا جديدًا، إلا أحسستُ أنني أجهل الكثير، وأن دون ما أتمناه لنفسي يومًا بعيدًا
الطاهر مكي في كتابه «دراسة في مصادر الأدب»

الطاهر مكي ومسيرة حافلة

يعد الأستاذ الدكتور الطاهر أحمد مكي الذي وافته المنية صباح الخامس من أبريل/ نيسان 2017 عن عمر ناهز 94، أحد أبرز أساتذة الأدب العربي ونقده في العصر الحديث. فقد حصل على الليسانس الممتازة من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة عام 1952م، ثم على دكتوراه الدولة في الأدب والفلسفة من كلية الآداب بجامعة مدريد المركزية عام 1961م.

ولعل سعيه للحصول على هاتين الشهادتين، إضافة إلى مطالعاته الذاتية، هو ما فتح بين يديه الباب واسعا ليكون أستاذا وباحثا موسوعيا تتعدد دراساته لتصل إلى بضعة وعشرين كتابا فيما بين التأليف والترجمة والتحقيق.

فجاءت دراساته جامعة بين أطراف الأدب العربي تاريخيا وجغرافيا. أما تاريخيا، فقد امتدت لتصل ما بين الأدب الجاهلي والأدب العربي الحديث. وأما جغرافيا، فقد جالت تلك الدراسات بين الأدب العربي في حواضره المشرقية وفي مغاربه الأندلسية. كما لامست بعض تلك الدراسات مجالَي التاريخ والفلسفة.

وقد كان من أبرز مؤلفات الأستاذ الدكتور الطاهر مكي كتابه «امرؤ القيس: حياته وشعره» و«دراسة في مصادر الأدب» و«دراسات أندلسية في الأدب والتاريخ والفلسفة» و«الشعر العربي المعاصر: روائعه ومدخل لقراءته» و«القصة القصيرة: دراسة ومختارات».

كما تجاوزت بعض تلك المؤلفات حدود آداب القطر العربي لتعقد وشائج صلات بينها وبين غيرها من الآداب العالمية، فأسهم بثلاثة كتب في مجال الأدب المقارن، هي: «الأدب المقارن: أصوله ومناهجه»، و«في الأدب المقارن: دراسات نظرية وتطبيقية» و«مقدمة في الأدب الإسلامي المقارن».

أما إذا نظرنا إلى ترجمات الدكتور مكي – رحمه الله – وتحقيقاته، فإننا نلفي عددا وافرا له من الترجمات، منها: «الحضارة العربية في إسبانيا» لليفي بروفنسال، و«التربية الإسلامية في الأندلس» لخوليان ديبيرا، و«مع شعراء الأندلس والمتنبي» لغرسية غومث، و«الفن العربي في إسبانيا وصقلية» لفون شال، و«الأدب الأندلسي من منظر إسباني» لعدد من المستشرقين الإسبان، و«مناهج النقد الأدبي» لإنريك أندرسون إمبرت.

وقدجاءت هذه الترجمات بجانب إسهاماته مجال التحقيق، فقد كان له فيه نصيب، حيث حقق كتابي «طوق الحمامة» و«الأخلاق والسير» لابن حزم الأندلسي، وكتاب «تحفة الأنفس وشعار سكان أهل الأندلس» لابن هذيل.

وقد كانت تلك الدراسات الموسوعية كافية لأن تدفع عددًا من الباحثين في أرجاء الوطن العربي لتناول جهود الأستاذ الدكتور الطاهر مكي في مجالي الأدب والنقد. كما أهلته تلك الدراسات لأن يحصل على جائزة الدولة التقديرية في الأدب (1992م)، ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى مرتين، إضافة إلى انتخابه عضوًا بمجمع اللغة العربية بالقاهرة، وعضويته في المجالس القومية المتخصصة، والمجلس الأعلى للثقافة، والمجلس الأعلى لدار الكتب.


أضواء على بعض دراسات الطاهر مكي

إذا أردنا أن نسلط الضوء على بعض أبرز مؤلفاته، فقد كان من أولها زمنيا كتابه «امرؤ القيس: حياته وشعره» الذي صدرت طبعته الأولى عام 1968م، وتوالت طبعاته حتى وصلت إلى الطبعة الثانية عشرة.

فعلى الرغم من كثرة ما أولته مصادر الأدب العربي من إشارات إلى حياة الشاعر محل الدراسة، وعلى الرغم أيضا من كثرة تناول الدراسات الحديثة له فيما قبل صدور هذا الكتاب، جاء هذا الكتاب ليبين عن شخصية الدكتور مكي العلمية، وهي الشخصية التي تسعى إلى أن تأتي دائما بالجديد؛ ولذا فقد مثّل هذا الكتاب إضافة ثرية للترجمة للشاعر محل الدراسة، حيث نزع منهج الدكتور مكي، رحمه الله، في ترجمته لامرئ القيس خلال ذلك الكتاب نزعة التحقيق التاريخي.

محاولا من خلال ذلك المنهج توثيق الروايات التاريخية وقبولها أكثر من تجريحها، حتى لو كانت هذه الروايات مختلفة حول حدث واحد؛ وذلك تبعا لقاعدة ارتضاها، وهي «أن الاختلاف بين الناقلين أدعى إلى اليقين، فحيث يقتضي الواقع أن تختلف الرواية، وأن يتعذر الإجماع بين الرواة، تكون هذه أقرب إلى العقل والصدق من أقوال يتفرق رواتها في الأمصار، ويبعد بهم العهد، ويكون اعتمادهم على الذاكرة»[1].

ولم يكن هذا التوثيق عند الدكتور الطاهر مكي تابعا لهوى، أو ضرورة يطلبها مسير البحث، بل إنه قام على آليات منهجية تطلعنا على براعته العقلية في معالجة النصوص التاريخية، وقدرته على التأليف بينها، أو التعليل لأحداثها بتعليلات أضبط وأحكم من المذكورة ضمن الرواية التاريخية، أو تعديل الرواية بما ورد خلالها من نصوص شعرية.

كما أن هذا المنهج الذي اختطه لنفسه في ذلك الكتاب يشير إشارة واضحة إلى نظرة الدكتور مكي العامة إلى تراثنا العربي والإسلامي، وهي النظرة التي تتجه إلى الدفاع عن ذلك التراث وتوثيقه والإبقاء عليه، بدلا من تجريحه وانتقاصه واتهامه بالزيف.

يعد كتابه «دراسة في مصادر الأدب» أحد أبرز معالم التأليف في مسيرة الدكتور مكي البحثية، وهو الكتاب الذي صدرت طبعته الأولى عام (1968م)، وهو العام نفسه الذي صدرت فيه الطبعة الأولى كذلك لكتابه «امرؤ القيس: حياته وشعره».

لكن الفارق بين الكتابين أن المؤلف لم يقرب كتاب «امرؤ القيس حياته وشعره» بأي تعديل منذ صدور طبعته الأولى، في حين أنه أضاف لكتاب «دراسة في مصادر الأدب» جزءا قيما في طبعته السادسة الصادرة عام (1986م).

فصار بذلك الكتاب في صورته الكاملة متناولا دراسة وافية لعشرة مصادر أدبية مشرقية وأندلسية، إضافة إلى مبحث واف عن «مصادر الشعر الأولى» الذي يعرض لعدد وافر من مختارات الشعر العربي القديم، مطبوعة كانت أو مخطوطة، شائعة كانت أو نادرة.

وقد قام منهج هذا الكتاب على وصف المصدر ببيان مادته وخطته ومنهجه، والتأريخ له من خلال ذكر مناسبة تأليفه وعصرها وتتبع مراحل ذلك التأليف إن وجدت، وتعليل معظم الظواهر التي يعرض لها، وتصحيح ما قد يكون في المصادر محل الدراسة من أخطاء، وتقييم المصدر وتحديد مكانه في قائمة المصادر، إضافة إلى تقصي مواطن مخطوطات كل مصدر ونشراته وشروحه.

وبذلك، فإن هذا المنهج يطلعنا على طبيعة شخصية الدكتور مكي البحثية التي تطمح إلى استيفاء موضوع الدراسة من جميع جوانبه، دون أن يثنيه عن ذلك وعورة السبل الموصلة إلى المعلومة، كما يطلعنا هذا المنهج على قدرة الدكتور مكي على إحياء المعلومة الجافة التي قد يصد عنها القارئ؛ وذلك لأنه ما كان يعرض معلومات هذا الكتاب عرضا سطحيا مباشرا، وإنما كان يوصف ويصحح ويعلل ويقيم.

فإذا أردنا أن نطالع نموذجا من إسهامات الدكتور الطاهر مكي – رحمه الله – في دراسة الأدب الأندلسي، فإن كتابه «دراسات أندلسية في الأدب والتاريخ والفلسفة» يعد شاهد صدق على هذا الإسهام تأليفا وترجمة. فقد حوى هذا الكتاب أربع عشرة دراسة مؤلفة أو مترجمة، على أن التأليف كان صاحب النصيب الأوفى، حيث استقل التأليف بتسع دراسات، في حين حازت الترجمة خمس دراسات لأربعة مستشرقين.

وقد جاءت هذه الدراسات جميعا دالة على العقلية الموسوعية للدكتور مكي، حيث تجاذبت هذه الدراسات ثلاثة مجالات بحثية، ما بين أدب وتاريخ وفلسفة، بعضها جاء في صورة مقارنة بين الأدب الأندلسي والأوربي مثل دراسة «الشعر الأندلسي وتأثيره في الشعر الأوربي» للمستشرق الإسباني أنخل جونثالث بالنثيا، أو في صورة مقارنة بين الفلسفة العربية الأندلسية ونظيرتها الأوروبية، مثل دراسة «الأصول العربية لفلسفة رايموندو لوليو» للمستشرق الإسباني خوليان ريبيرا.


الأستاذ الأكاديمي

لا يفوتنا في ختام هذه الكلمة أن نشير إلى جهود الأستاذ الدكتور الطاهر أحمد مكي الأكاديمية، فهو الأستاذ بقسم الدراسات الأدبية بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، ورئيس أسبق لهذا القسم، ووكيل أسبق لتلك الكلية العريقة لشئون الدراسات العليا والبحوث.

كما عمل أستاذا للحضارة العربية بثلاث جامعات بكولومبيا بأمريكا اللاتينية، وأستاذا للأدب العربي بعدة جامعات مصرية وعربية.

وقد حاضر خلال هذه المسيرة الحافلة عشرات الآلاف من الطلاب، كما أسهم في إعداد مئات الباحثين والنقاد من خلال إشرافه على رسائلهم العلمية أو مشاركته في لجان مناقشتها. فرحمه الله رحمة واسعة جراء هذا العطاء الحافل الذي استمر أكثر من نصف قرن!


[1] د / الطاهر أحمد مكي: امرؤ القيس .. حياته وشعره ص 13. دار المعارف. ط6 (1993م) .