نحن لسنا بريمر، والدستور ليس دستور بريمر، إنه مجرد مشروع للمناقشة بموجب القرار 2254، الذي نص على تشكيل حكم تمثيلي وغير طائفي، لصوغ دستور جديد وإجراء انتخابات.

بهذه الكلمات رفض وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، الاتهامات الموجهة لبلاده على أنها مثل الاحتلال الأمريكي للعراق الذي وضع دستورًا لها، شرعّن للطائفية والانقسام حتى اليوم، ويعيد التاريخ نفسه هذه الأيام في سوريا وعلى خطا العراق، تسير سوريا نحو طائفية وتقسيم مقنن ودستوري، وجاءت روسيا لتخط هذا الطريق حينما طرحت مسودة دستور لهذا البلد خلال اجتماعات أستانة والتي اختتمت في 25 يناير/كانون الثاني الماضي.


مواد تمهد للطائفية والانقسام

جاءت مسودة الدستور بمواد عامة تتحدث عن الحقوق والحريات، ولكن وضعت ألغامًا ستكرس للطائفية والانقسام كما حدث في دستور العراق ولبنان، ومن المرجح أن روسيا وضعت ذلك حتى تكون الحكم بين سوريا المقسمة، ولتضمن وجودها الدائم، فالجميع سيحتكم إليها في حال حدوث خلافات، وهذا سيحدث دائمًا إن انتهت التسوية بهذه الطريقة.

ونظرة على بعض مواد هذه المسودة تكشف الخطر الكبير الذي ينتظر سوريا في حال اعتمدت كدستور يحكم مستقبل هذا البلد، فقد اقترحت المسودة إمكانية تغيير حدود الدولة، كما في البند الثاني من المادة التاسعة، وهي «أراضي سوريا غير قابلة للمساس، ولا يجوز تغيير حدود الدولة إلا عن طريق الاستفتاء العام»، وتعتبر هذه المادة تمهيدًا لإمكانية فصل مناطق الأكراد أو التخلي عن مناطق لصالح حزب الله المتواجد في لبنان على الحدود مع سوريا.

ونص المشروع في البند الثاني من المادة الرابعة على اعتبار اللغتين العربية والكردية متساويتين في أجهزة الحكم الذاتي الثقافي الكردي ومنظماته، وذلك في خطوة جديدة قد تمهد لانفصال الأكراد أو تشكيل النظام الفيدرالي كما حدث لإقليم كردستان في العراق.

ومن أخطر المواد التي تكرس للطائفية ما نصت عليه المادة الـ54، فقد نصت على مراعاة التمثيل النسبي لجميع المكونات الطائفية والقومية لسكان سوريا في التعيينات الحكومية، مع تخصيص بعض المناصب لتمثيل الأقليات، وهذا سيجعل الأوضاع رهينة للتوازنات الطائفية وليس وفقًا للمصالح السياسية.

وفي توجه من روسيا برغبة من النظام السوري ومن ورائه إيران لتقنين الميليشيات العسكرية الطائفية كما في لبنان والعراق، نصت المسودة على أن يبقى الرئيس قائدًا للجيش والقوات المسلحة، وقيادة التنظيمات المسلحة الأخرى. وتريد روسيا مستقبلًا تقنين وضعية «الفيلق الخامس – اقتحام»، والذي أعلن عن تأسيسه نظام بشار الأسد في سوريا في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، بدعم منها حتى يكون ذراعها العسكرية مستقبلًا في سوريا، فجيش النظام أصبح ضعيفًا وطائفيًا ومواليًا لإيران، إلى جانب ميليشيات أخرى شكلها النظام بدعم إيراني، لتكون على غرار الحرس الثوري وحزب الله والحشد الشعبي.

وفي مقابل هذه المواد المضافة، تم حذف المادة الثالثة من الدستور الحالي التي تنص على أن «دين رئيس الجمهورية الإسلام»، وأن «الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع»، فروسيا تتخوف من دولة دينية تسيطر إيران على نظامها وتفرض طابعها الديني، لذا أكدت موسكو أكثر من مرة تمسكها بعلمانية سوريا، تحت ستار لم شمل الجميع.


المعارضة ووهم القدرة على الرفض

ذهبت المعارضة إلى مفاوضات أستانة مرغمة، بعد تخلي داعميها عنها، وهزائمها وخاصة بعد خسارتها في حلب، إلى جانب وصول دونالد ترامب إلى إدارة البيت الأبيض، ورأت روسيا أن الظروف مواتية لفرض أجندتها السياسية على الجميع بعد أن فرضت بشكل كبير وجودها العسكري.

رفضت المعارضة السورية المشاركة بمؤتمر أستانة مسودة الدستور الروسي أو حتى إبداء تعديلات عليها، واتهمت موسكو بتكرار أخطاء السلطات الأمريكية في العراق، وقالوا إن الدستور الذي تكتبه دولة أخرى، لن يكون فاعلًا كأداة سياسية، وأشاروا إلى أن المهمة الرئيسة في الوقت الراهن هي دعم الهدنة، وليس وضع دستور جديد.

ويتضح من رفض الفصائل المشاركة في مفاوضات أستانة، أنها رفضت المواد الطائفية بالدستور، إلى جانب أن قبولهم بهذه المسودة يعني الانصياع للترتيبات الروسية، فهم ما زالوا يعولون على دعم بعض القوى لهم مثل الولايات المتحدة وتركيا أو السعودية رغم تراجع هذا الدعم بشكل كبير، وقد تمثل ذلك في سماح الجميع بسقوط حلب.

ومن المرجح أن يقبل الجميع في النهاية بوثيقة سياسية مثل هذا الدستور، فهو جاء ليقر ما يحدث على الأرض، والحديث عن إمكانية حكم المعارضة لسوريا بالكامل شيء مستبعد وكذلك بشار لن يقدر على ذلك، وبالتالي ليس أمامهم إلا دولة طائفية على غرار لبنان أو العراق، أو دويلات مقسمة، فالأكراد لن يقبلوا بسيطرة المعارضة عليهم وكذلك الموالون للنظام، إلى جانب وجود فاعلين أقوياء على الأرض لن يقبلوا بالمعارضة أو النظام وهم جبهة النصرة وداعش.


بريمر جديد لسوريا

جاءت مسودة الدستور المقترح لتعيد ما فعله دستور الحاكم الأمريكي للعراق، والذي وضع دستورًا للعراق كرّس للطائفية والمحاصصة المذهبية، أفضت إلى ما فيه العراق اليوم من انقسام وحرب وأهلية وانتشار للتنظيمات والميليشيات الطائفية مثل ميليشيات الحشد الشعبي ومن على شاكلتها و«داعش» ومن على دربها، وحكومات ووزراء طائفيين.

وليس أدلّ، على أن مسودة الدستور الروسي المقترحة لسوريا تشبه في نصوصها ونتائجها المتوقعة لدستور رئيس إدارة الاحتلال الأمريكي في العراق بول بريمر في العامين 2003-2004، من نفي موسكو هذا التصور مؤكدة أن هذا الاقتراح لن يكون بريمر آخر لسوريا. وقالت المتحدثة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخروفا، يوم 27 يناير/كانون الثاني الماضي: «إننا لا نحاول فرض قرار خاص بنا، إنما ندعو الأطراف السورية إلى الشروع في العمل الصعب لإعداد هذا القانون الأساسي».

وأوضحت أن هذا هو الوقت الملائم لكتابة الدستور قائلة: «تم توفير الظروف لمثل هذا العمل، وتم إحلال نظام وقف إطلاق النار، ووُضع حد لسفك دماء الأشقاء. ونأمل في أن يؤكد الطرفان عدم وجود أي بديل للتسوية السياسية في سوريا».

بهذا التصريح رد بول بريمر على اتهامه بتكريس الطائفية في العراق، ويبدو أن هذا في طريقه إلى سوريا بتنفيذ روسي، يؤيده كثير من القوى الدولية والإقليمية حماية لمصالحها، فلا يهمهم وحدة سوريا أو شعبها.


الدستور لم يأتِ بجديد

المحاصة الطائفية في العراق أمر مؤسف، ولكن هذا الخيار كان اضطراريًا بسبب تركة نظام صدام حسين الذي دمر النسيج الاجتماعي وأسس حكمه بالاعتماد على السنة في مراكز القوة

كشفت مسودة الدستور عما يجري بالفعل في سوريا، ففي البداية كانت الثورة لأجل إزاحة النظام، ولكن تحولت الآن لحرب مذهبية، فالعلويون يتمسكون بمناطقهم واستعانوا بشيعة الخارج لدعمهم، والأكراد سيطروا على مناطقهم ويهجرون العرب منها، حتى السنة؛ وكذلك المعارضة السنية تتمسك بمناطق معينة وحدثت مفاوضات لتبديل أراض معينة مثل بلدات الكفريا وفوعة ومضايا والزبداني.

ولعلم إيران أنها لن تخضع سوريا بالكامل لنفوذها بسبب وجود أكثر من لاعب في هذا البلد الذي تكالب عليه الجميع، عملت على خلق ما يعرف بسوريا المفيدة، وتكوين دويلة طائفية شيعية لربطها بلبنان والعراق.

وكشفت صحيفة الجارديان البريطانية أن المنطقة الواقعة بين العاصمة السورية دمشق والحدود اللبنانية، التي هجرها السوريون بسبب اندلاع المواجهات بين المعارضة والنظام، تتعرض لتغيير ديموغرافي، وخاصة بعد الانتصارات الأخيرة لجيش النظام في حلب، فقد بدأ أفراد شيعة يعودون إليها وليس السنة الذين كانوا فيها من قبل، ولقلة شيعة سوريا استعانت بشيعة لبنان والعراق!

وحتى قبل أن توضع هذه النصوص الطائفية في الدستور فإنها وضعت على الأرض ابتداءً، وتكشفها مناطق التمركز لكل طائفة أو عرق، وفي حال تم الوصول إلى تفاهمات سياسية ستراعي هذه التفاهمات رغمًا عن الجميع، ولن تزال إلا بعد فترات زمنية طويلة إن جاءت سلطة قادرة على صهر الجميع، والذي لم يكن موجودًا بالأساس قبل الثورة.


غضبت فصائل المعارضة السورية من نص المسودة المقترحة على علمانية الدولة وإلغاء ديانة رئيس الجمهورية، وعروبة سوريا، وهي محقة في ذلك، لكن هذه النصوص موجودة في الدستور الحالي فماذا فعلت، سوريا أصبح يتحكم فيها الإيرانيون والروس وأخرجتها الجامعة العربية من عضويتها.

ويبدو أن روسيا أرادت بهذه النصوص إشغال المعارضة بالخلافات الجانبية، فالسوريون لن يتخلوا عن لغتهم أو هويتهم العربية ولن يبدلوا دينهم، ولكن ما يجري على الأرض هو ما سيحسم الأمور وليس مجرد نصوص تكتب، فكم من دساتير وقرارات دولية انتهكت وهي مكتوبة من أجل السوريين.