ولد المخرج لويس بونويل (22 فبراير 1900 – 29 يوليو 1983) في قرية قلندية، مقاطعة تيرويل، في إسبانيا. نشأ في أسرة برجوازية، وتلقى تربية يسوعية صارمة. كان بونويل شديد التدين في فترة المراهقة وحتى سن السادسة عشر. التحق في عام 1917 بجامعة مدريد حيث درس الهندسة الزراعية ثم الهندسة الصناعية لكنه تحول في النهاية إلى دراسة الفلسفة.

في الجامعة، تعرف بونويل على سلفادور دالي وجارسيا لوركا، وقد جمعته بهما صداقة وثيقة، كانت هذه الصداقة علامة فارقة في الحياة الفنية للأصدقاء الثلاثة الذين شكلوا لاحقًا نواة الطليعة السريالية الأسبانية. في عام 1925، انتقل بونويل إلى باريس برفقة دالي حيث قدما معًا أول أفلام بونويل «كلب أندلسي».

يُعتبر لويس بونويل حالة فريدة في عالم السينما، فهو أول من قدم السينما السريالية، بل هو مؤسسها. السريالية في أفلام بونويل (سواء الصامتة أو الصوتية) عبارة عن حالة هجاء شديد، هجاء للواقع ولمغزى الوجود الإنساني. لم يسلم من هجائه شيء، لا المجتمع، ولا السياسية، ولا الدين. سريالية بونويل كسرت كل مطلق.

بمنتهى الجمال والتمرد، فكك الهجاء السريالي في أفلام بونويل الكنيسة الكاثوليكية، الثقافة البرجوازية، والفاشية. بشكل عام، لا يمكن تناول أفلام بونويل أبدًا بأي قدر من السطحية. بونويل نفسه كان يكره ذلك. يقول بونويل: «لو أن أيًا من أفلامي يبدو غريبًا أو مبهمًا؛ فلأن الحياة نفسها كذلك».

عمد بونويل في أفلامه إلى النقد الشرس لما اعتبره «الثالوث غير المقدس»، والمكون من «البرجوازية، النفاق الديني، السلطة الأبوية». يعتبر بونويل في رأي العديد من النقاد مُحطِم الثوابت؛ فيلسوفًا ثوريًا حاول تقديم رؤيته الأخلاقية لعالم غير أخلاقي. النهج الفلسفي في أعمال بونويل كان يُفسَّر عند كثير من النقاد كدليل على ماركسيته.

جادل بونويل بأن هجاءه السريالي للدين والسياسة إنما أتى من النفاق الشديد الذي تكرِّس له السياسة والدين. الهجاء السريالي الذي اعتمده يبين لنا أيضًا أن لا شيء (نظرية أو ممارسة) ينبغي أن يكون فوق الاستجواب والفحص.

نتناول هنا أحد أعمال بونويل شديدة الرمزية، وهو الفيلم المكسيكي/الأسباني «فيريديانا» (1961) الذي يعتبر مدخلًا لفهم فلسفته وأعماله.


حبكة «فيريديانا»

يحكي الفيلم قصة «فيريديانا»، الفتاة التي وهبت نفسها للرهبنة، وقبل يوم واحد من تلاوة العهود تذهب بأمر من رئيسة الدير للريف للقاء عمها الثري (الدوق جيمي) الذي دعمها ماديًا طوال الوقت ولم يرها إلا مرة واحدة فقط منذ وقت طويل.

فيريديانا، التي تشبه زوجة عمها المتوفاة، تقضي في الريف أوقاتًا طيبة، وقبل يوم واحد من عودتها للدير، يبوح لها عمها بأنه معجب بها ويطلب منها عدم المغادرة. ترفض فيريديانا مشاعر عمها بشدة. يقوم عمها بتخديرها وبعد الإفاقة يدعي الكثير من الأكاذيب من ضمنها أنه اغتصبها.

تهرب فيريديانا بعد صدمتها لتعود للدير، لكن قبل أن تصل تسمع عن انتحار عمها شنقًا فتقرر العودة للقصر. يتملك فيرديانا بعد ذلك إحساس بالذنب كونها سبب موت عمها فتقرر عدم العودة للرهبنة ومواصلة «الطريق إلى الله» لكن بشكل آخر. تجمع فيريديانا العديد من الفقراء والمتسولين في القرية وتهب لهم بيتًا بجوار القصر وتؤمن لهم العمل وتحاول إرشادهم للصلاة، معتقدة بذلك أنها تنير طريقهم وتفتح لهم بابًا لملكوت السماوات.

الحدث المفصلي الثاني في الفيلم بعد انتحار الدوق جيمي، هو قيام الفقراء الذين جمعتهم فيريديانا للعيش بجوار القصر بدخول القصر في غياب فيريديانا وابن عمها والخادمة، بإغواء من بعض النساء العاملات في القصر. في مشهد شديد الشبه بلوحة «العشاء الأخير» لدافنشي، يتناول العمال العشاء في القصر. ووسط تهليل وسكْر وعربدة، يقومون بتكسير مقتنيات القصر.

أثناء خروجهم تدخل فيريديانا وابن عمها والخادمة فيتلاقي الجمعان. يحاول أحد العمال، وهو مخمور، الاعتداء جنسيًا على فيريديانا بعد أن قيد ابن عمها. تنجو فيريديانا في النهاية من الاغتصاب لكن لا تسمح ببقاء الفقراء في أرضها وتطردهم.


هجاء الإنسان

يقدم بونويل الأحداث في مشاهد شديدة الرمزية. فيريديانا من البداية كانت تُمثل المسيح بكل ما يحمله من طهارة ونقاء وقدرة على التضحية. المسيح الذي لاقى أشد أنواع الإيذاء من قومه. رمز بونويل لهذا الإيذاء بالعم الذي يشتهي ابنة أخيه.

فيما كان القصر هو تفاحة آدم الذي دخله الفقراء بإغواء من نساء القصر ليتم طردهم بعد ذلك من نعيم فيريديانا.

فيريديانا المصلوبة على صليب الجشع والاستغلال والشهوة. لا مكان لرؤيتها الأخلاقية في عالم لا أخلاقي. مصير كل نواياها الطيبة حتمًا الفشل. الفشل الذي قدمه بونويل في مشهد حداثي للعشاء الأخير.

يسخر بونويل في الفيلم/ ليس فقط من فساد الطبقة البرجوازية الممتمثلة في عم فيريديانا، بل يضع أيضًا آية: «طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. طُوبَى لِلْحَزَانَى لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ. طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْض» (إنجيل متى)، محل شك واستفهام. البشر عند بونويل في عصر القنابل الذرية لا يختلفون كثيرًا عنهم في عصر المسيح.

ما يقوله بونويل عبر فيريديانا هو أننا على كل حال مجموعة من الهمج، ندعي فضائل وقيم تسقط أمام أبسط الاختبارات. نملأ الفراغ الوجودي الذي نعيشه بأفعال صادمة من البربرية والوحشية. هذا هو إنسان المسيح الحقيقي الذي صُلب المسيح من أجله؛ أضل من دابة. مطلقًا عبارته الشهيرة: «أنا، ولله الحمد، ملحد».