إن المخبرين في المحروسة أكثر من سكانها.

يصيبنا الوهن في لحظات ما بعد الهزيمة، ولا أقصد هنا أجسادنا المصابة بقدر ما أقصد أرواحنا المنهكة. ولا بأس في أن نشعر بالضعف بعد هزيمتنا على أي حال، نحن بشر، خُلقنا في شقاء الدنيا دون أن نختار ماضينا ولا أراضينا. ولكن ما يؤرقني بحق هو أن تنخرنا الهزيمة، تمسخنا، تجبرنا على ارتضاء الذل. حينها يصبح الإحجام حكمة، والجُبن عقلا، وأخيرا تصبح الخيانة وجهة نظر. هذا هو الوهن الذي لا شفاء له.

في «واحة الغروب» يحدثنا «بهاء طاهر» عن كل هذا وأكثر، عن حكاية «محمود» الضابط المصري الذي يعاني من وهن ما بعد الهزيمة الذي أحاله جسد بلا روح. ونقيضه المُمثل في زوجته الأوروبية «كاثرين» بكل ما فيها من شغف بحضارة الشرق ورغبة في الحياة. اختار طاهر أرض واحة سيوة مسرحا لهذه المبارزة، ليظهر فيها بطلاً ثالثًا للحكاية هو «الشيخ يحيى» الذي يتسق على جانب مع تقاليد الشرق بما فيها من حسن وسوء، في حين يخفى على جانب آخر رغبة شديدة في تحطيم كل هذه الخرافات التي تتحكم في حياته وحياة أحبابه.

يصحبنا طاهر إذن في رحلة بين عقول وقلوب هذا الثلاثي، محمود، وكاثرين، ويحيي، وذلك من خلال استخدامه لأسلوب المنولوج الداخلي في السرد. نحن نرى الحكاية بعيون أبطالها داخل أنفسهم، ونتعرف عليها من خلال الفراغات التي نكملها شيئًا فشيئًا من خلال تساؤلات مستمرة داخل ضمائرهم.


محمود: دائمًا في منتصف شيء ما

المشكلة هي أنت بالضبط! لا ينفع في هذه الدنيا أن تكون نصف طيب ونصف شرير. نصف وطني ونصف خائن، نصف شجاع ونصف جبان. نصف مؤمن ونصف عاشق. دائمًا في منتصف شيء ما.

«محمود عبد الظاهر»، ضابط مصري لم يفهم للموت معنى، ولكنه أدرك حتميته، لذا فقد قرر أن يفعل شيئًا يبرر به حياته، وأراد أن يترك بصمةً على هذه الأرض قبل أن يغادرها. أعجب بأفكار «جمال الدين الأفغاني»، وتمنى لو انضم لأحمد عرابي في قتاله ضد الاحتلال البريطاني، وضد خيانة الخديوي. كانت ثورة عرابي هي المثال الأوضح لكل المعارك التى تمنى محمود أن ينتصر فيها، وحينما هُزمت الثورة وانفض الناس من حولها، كانت مثال لكل المآسي التى لم يستطع محمود نسيانها بعد ذلك.

يتعرض محمود لخيانة أقرب أصدقائه وحينها يتنصل هو ذاته من عرابي وثورته، حتى يصل به الحال لوصف الثوار بالبغاة. تتحطم إرادة محمود أمام التهديدات بمعاقبة كل المنتمين والمحبين للثورة، ومع فقدان الأمل تتكسر الأرواح. يلتقي محمود عقب ذلك بكاثرين. يتزوجها وينتقل معها إلى الواحة تطبيقًا لقرار نقله بعدما تم اعتباره غير مخلص لحُكام مصر بالشكل الكافي، حتى بعد إحجامه وتنصله من الثورة والثوار.

وسط كل هذا كان لمحمود قرينة وحبيبة، هي «نعمة»، الجارية السمراء التي رافقته منذ الصغر، أحبته وواسته، حكت له الحكايات واستمعت لشجونه وتساؤلاته دون كلل. أحبها ولم يعترف لها حفظًا لمكانة السيد أمام جاريته، وحينها هربت ولكنها ظلت في عقله وقلبه دائمًا.

تستمر حياة محمود مع كاثرين، يستمر غضبه من أهل مصر الذين باعوا ثوارها، يتمنى لو كان بإمكانه أن يحطم كل ما يفتخرون به في ماضيهم حتى يفيقهم من غيبوبتهم، وتستمر تساؤلاته عن أحقيته هو نفسه في هذا الغضب بعد أن جبُن هو الآخر. ولن يسامحك أحد مادمت لم تسامح نفسك، فيظل دائمًا في المنتصف.


كاثرين: بحثٌ عن بعثٍ آخر

كاثرين سيدة أيرلندية، أرملة سابقة، فقدت زوجها الذي لم يكن يحبها، وأتت لمصر بحثاً عن حياة جديدة. تمثل كاثرين كل الشغف في الحياة، كل الأسرار الكامنة في الشرق والتي تنتظر من يكشفها، كل العلاقات الدافئة على أرضنا والتي لا يشعر بها إلا من حُرم منها في الغرب.

كاثرين تحاول أن تعيد الحياة لمحمود، هو بعث آخر له ولها أيضًا. كما تحاول أن تكتشف لغز الإسكندر، القائد الذي غزا العالم ملكًا، ولكنه تحول لابن إله حينما دخل أرض مصر، وبالخصوص أرض الواحة.

وسط كل هذا كان لكاثرين هي الأخرى قرينة، شقيقتها «فيونا»، الأكثر جمالاً وربما الأكثر ذكاءً، التي أحبها زوج كاثرين الأول ولكنها لم تقبله زوجًا، فآل به الحال أخيراً إلى كاثرين. تظهر فيونا من جديد على أرض الواحة وتنقلب حياة كاثرين مرة أخرى.

كاثرين هى كل نقيض للخرافات التي تربى عليها الشرقيون، لا تفهم تحفظهم في التعامل مع المرأة، ولا تفهم اعتزازهم بخرافات تصعب حياتهم ثم تفنيها. ولكن لكل إنسان خرافة، وأحيانا يصبح الشغف بالعلم والاكتشاف خرافة أكثر خطورة من كل المعتقدات القديمة والعادات البالية.


الشيخ يحيى: تبًا لخرافات هذا البلد!

هي فكرة مجنونة. حدس مجنون. لكن كل كشف في الدنيا بدأ بمثل هذا الجنون. أليس كذلك؟
أعرف أني أخطأت يا ابنتي، لكن صدقي أني أحببت قومي حتى تمنيت لهم الفناء ليعيش من يعيش في سلام، وصدقي أني مستعد الآن. في سني هذه، أن أحاربهم وحدي لتوهب لك الحياة، من أجدر منك بالحياة في هذا البلد المنكوب بناسه وخرافاته؟

الشيخ يحيي رجل من أهل الواحة، تربي وسط أبنائها وله بينهم حظوة واحترام. يكفر الرجل بكل الخرافات التي تسيطر على حياة أهل الواحة، كما يكفر بالحرب والقتل والدماء. ولكن إن لم يكن للسلام طريق سوى من خلال القتل، فلتكن حربًا تفني طرفًا بالكامل حتى يحيى الطرف الآخر دون تهديد.

يحيى يمثل أيضًا أهل الواحة في رؤيتهم لمحمود وجنده، عساكر تعاملهم كمحتلين، لا فرق بينهم إذن وبين ما يفعله الإنجليز في المحروسة. ولكنه يملك من العلم والعقل ما يمكنه من التواصل مع المختلفين عنه، يحاول محاورتهم ولكنه لا يخفي امتعاضه ولا يتردد في رد الصاع صاعين إذا شعر بالإهانة أو بالتهديد.

إن كانت كاثرين تمثل نقيضًا لأفكار محمود، فالشيخ يحيى يمثل نقيضًا لأفكار الشيخ صابر، حاكم الواحة من بين أهلها، الرجل الذي يؤمن بالخرافات تمام الإيمان، حتى أنه لا يتردد في إضافة خرافات جديدة من آن لآخر.

للشيخ يحيى أيضًا قرينة، هي «مليكة»، ابنته الجميلة التي تشاركه رفض الخرافات البالية التي تحكم حياة أهل الواحة، ولكنها وعلى عكسه تعلن هذا جهاراً. لم تفعل مليكة هذا إلا بعد أن وقعت في مصيبة بسبب أحد هذه الخرافات. لا تمثل مليكة قرينة لأبيها وفقط، مليكة هي الإعصار الذي يعري الجميع أمام أنفسهم، مليكة هى الطوفان الذي سيكشف كل شيء.


بهاء طاهر أديب ومخرج مسرحي مصري، من أبرز أبناء جيل الستينات، حاز على جائزة الدولة التقديرية عام 1998، كما فاز بالجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر» في دورتها الأولي عام 2008 عن هذه الرواية «واحة الغروب».

نشهد هذه الأيام تحول الرواية إلى مسلسل تليفزيوني، ونتابع بشغف هذه الحكاية المحبوكة في وسط بصري مختلف تمامًا عن السرد بالكلمات. لبهاء طاهر رواية أخرى تم تحويلها لعمل تليفزيوني ناجح في وسط التسعينات هى «خالتي صفية والدير»، الرواية التي فاز عنها بجائزة «جيوزيبي اكريبي» الإيطالية.