في أيامنا هذه حين تُفْضَح ثروات الرؤساء والملوك والسلاطين، ويظهر الطغيان عُرْيانًا من كل سِتر، ويتبختر الفقر في شوارع المظلومين، كما يُطْبِقُ الجهل جناحيه على عموم الأمم النائمة، يصعب على جمهور المتثقفين الاقتناع بأن أحد الحكام كان ملتزمًا بالقانون، أو كان يحقق لرعيته الأمان العسكري والمالي والاجتماعي، حتى يمتد الشك بهذه الطبقة المتثقفة إلى الخلفاء الراشدين أنفسهم، ولا بأس بأن يمتد لبعض الأنبياء كذلك؛ لأنه لم يعد شيء على وجه الأرض يبدو صادقًا أو أمينًا؛ لأن كل القيم الرئيسة انهارت في خضم ما نُدْرِكُه من الأحداث المعاصرة.

المقدمة المنطقية الأهم التي تفتقد التمحيص والتثبت من جمهور الشاكِّين هي: كيف ندرك هذه الأحداث؟ وبعبارة أدق: ما الوسائل التي نستعين بها في كل مرة لندرك وقوع حدث سياسي أو اجتماعي؟ وما الوسائل التحليلية التي نسلكها في كل مرة نفهم بها هذه الأحداث؟ وقبل الإجابة يجدر بنا أن ننتبه إلى أن الإجابة عن هذه التساؤلات هي المتسبب الأكبر فيما نحصل عليه من نتائج، وهذه النتائج تقودنا إلى الشك في كل الثوابت، ومن ثم إهدار كل الحقائق.

من بين كل الإجابات يبدو لي أن الطرح الأكاديمي أقل شكًّا، وقد حافظ لنفسه على مساحة أكبر من الاطمئنان لنتائجه، وهذا الاطمئنان النسبي كان مصدره أن الأكاديمي يَسْلم من عدد كبير من محاولات الخداع التي يمارسها الإعلام عليه، كأن كلمة «الإعلام» هي الإجابة التي نبحث عنها، ولكن لن نتناول دلالات هذه الكلمة هنا، ولن نتكلم عن دعوى الإعلام المحايد، ولكن يكفينا أن نلقي الضوء عمليًّا على أحد الموضوعات غير الشائكة، إيمانًا بأن إرساء المنهج في الموضوعات غير الشائكة يتيح للمفكر أن يضع قواعد أمتن يستطيع الاحتكام إليها إذا ما شرع في تحليل قضيةٍ شائكة أو معالجتها، على تفاوت درجات الأشواك هنا وهنالك.

«سليمان القانوني» شخصية تاريخية أُثير حولها كلامٌ كثير في الفترة السابقة، لا سيما ممن شاهدوا مسلسل «حريم السلطان

«سليمان القانوني» شخصية تاريخية أُثير حولها كلامٌ كثير في الفترة السابقة، لا سيما ممن شاهدوا مسلسل «حريم السلطان» وبدا كأن الرجل لم يكن له هم سوى النساء، وعوالم النساء، لكن يبدو أن الأكاديميين لهم رأي آخر، بالتأكيد رأيهم ليس هو الحق المطلق، ولكن لا تنسَ يا صديقي أننا في رحلة البحث عن أي قدر من الطمأنينة، فهذه ليست مشكلةَ سليمان القانوني، بل هي مشكلةُ (كيف نفكر؟ وكيف ينبغي أن نفكر؟ حين نتناول القضايا المختلفة).

كتب أستاذ التاريخ بكلية الآداب بجامعة اسطنبول الدكتور فَرِيدُونْ أَمَجَانْ كتابًا بعنوان: سليمان القانوني سلطان البَرَّيْنِ والْبَحْرَيْن- حقائق في ضوء المصادر، وترجمه إلى العربية الدكتور جمال فاروق والأستاذ أحمد كمال وصدر عن دار النيل بالقاهرة 2014.

ألقى المؤلف الضوء على عدة جوانب من عصر السلطان سليمان القانوني، منها: الفتوحات العسكرية في قارات العالم القديم الثلاثة، ومكانته بين حكام دول العالم في عصره، ومنها: الجانب الشخصي متمثلا في ديوان شعره، وعلاقاته بأدباء ومفكري عصره، ومنها: الإصلاحات الإدارية داخل الخلافة العثمانية التي تركت أكبر الأثر في نفوس المسلمين من بعده، حين بدأ تلقيبه بلقب (القانوني) في عهد حفيده؛ حنينًا من الناس إلى عز دولة السلطان سليمان، وإدراكا منهم لنعمة تنفيذ القانون داخل الدولة بعد أن بدأت تسلب هذه النعمة، وغالبا لا يدرك الإنسان النعم إلا بعد أن تسلب منه.

فلسنا إذن حين ننعته بالقانوني ننافق رُفَاتَه بلقب من ألقاب الملوك، ولكنها شهادةُ شعبٍ ذاقَ طعمَ سليمان ومَن بعد سليمان، وحكم له بهذا الحكم. في عصره (1520-1566م) مرت الخلافة الإسلامية بعدد هائل من الحروب شرقًا وغربًا، قاد منها بنفسه ثلاث عشرة غزوة، ومات في آخر غزواته «سيكتوار»، على مدار 46 عامًا حكم فيها. حارب الصفويين الشيعة، وهزمت جيوش المسلمين في عهده كارل الخامس في الجزائر، كما حاصروا فِيينا، وشنوا عدة حملات لفتح بلغراد، ورودس، والمجر، ومالطا، واسترداد جزيرة جِرْبَا التونسية وغيرها.

ولنا أن نعلم أن السلطان قطع في غزواته مسافة تبلغ 48 ألف كم ممتطيا جواده! وأن نعلم أن رقعة الخلافة الإسلامية كانت 6.557.000 كم مربع، ووصلت في عهده إلى 14.893.000كم مربع، أي: زادت أكثر من الضعف.

وأضاف المؤلف ص473:

ويمكننا القول إن السلطان سليمان تمتع بمكانة عظيمة بين حكام عصره مثل الإمبراطور «كارل الخامس» وأرشيدوق النمسا، والإمبراطور «فرديناند الأول» وملكَيْ فرنسا «فرانسوا الأول» و«هنري الثاني» وملك إنجلترا «هنري الثامن» وقيصر روسيا «إيفان الرهيب» في الغرب، والشاه «طهماسب» و«همايون البابُري» و«أكبر شاه» …

وعلى المستوى الداخلي فقد عُرف عهده بالانضابط القانوني، ذلك القانون الذي قام على وضعه ومتابعة تنفيذه أكابر العلماء في القرن العاشر الهجري، منهم: شيخ الإسلام كمال باشا زَادَه، وأبو السعود أفندي، وغيرهما،كما نشر ذلك في المجلدات القانونية لمحمد عارف بك.

ويقول المؤلف ص478:

ويعرّف مؤرخ القرن السادس عشر «جلال زاده مصطفى شلبي» السلطان سليمان بأنه «زبدة آل عثمان» ويشدّد على ثلاث خصائص اشتهر بها السلطان على وجه التحديد: أولها: العدل. وثانيها: حماية الشعب والسعي على مصالحه. وثالثها: صفة الفاتح العالمي.
ثم يقول المؤلف في نهاية كتابه:
وتنتشر قناعة بين مؤرخي تلك الحقبة أن السلطان سليمان كان ذا شخصية رصينة للغاية، ولم يكن يتخذ قراراته إلا بعد تفكير عميق ومشورة وزرائه وحتى عقْد مجالس استشارية واسعة النطاق تضم الحكماء ورجال الدولة المحنكين، كما تشير المصادر التاريخية إلى أنه كان يضع مصالح الدولة فوق كل اعتبار، وأنه لم يكن ليتراجع عن التضحية حتى بعائلته في سبيل تحقيق تلك الغاية. وتطفو واقعتا إعدام ابنيه الأميرين مصطفى و«بايزيد»[1] على السطح كأبرز الأمثلة على هذه الصفة التي اتصف بها السلطان

والآن يَضِحُ من هذه الرؤية أن رؤية المسلسل ليست الوحيدة لشخصية الرجل، هذه حقيقة أولية، وأن رؤية الأكاديميين لا تنكر بعض ما ورد في المسلسل، هذه حقيقة أخرى، لكن الحقيقة الأهم هي: أن الطريقة التي سلط بها الإعلامُ الضوءَ على شخصية السلطان سليمان جعلَتْنَا حين نراه بعين المصادر التاريخية أكاديميا نتعجب؛ لأن الإعلام قد رسم صورة ذهنية لدينا تختلف تمام الاختلاف عن الحزم والجهاد، والرصانة والقوة، مع شاعرية وحُنُو تجاه الآداب والعلوم متمثلة في العلماء والمفكرين والهيئات الحضارية التي عاشتها دولة هذا الرجل.

لِنَخْرُجْ إذن إلى أفق أرْحَب، إن الأكادِيمْيَا لا تمثل الحقيقة مطلقا، ولكنها تمثل طريقًا من أفضل الطرق للوصول إلى الحقيقة، فإذا وجدنا اتفاقًا بين آراء المؤيدين والمعارضين على مساحة معينة، فنحن أمام الجزء الصلب من جبل الجليد، والذي يمكننا مع التتبع أن نقيم عليه تصورا جيدا، وقواعد متينة، تسمح لنا باتخاذ قرار مناسب لمعارفنا في وقت معين.

وهذا يعني أن طرق الوصول إلى غلبة الظن ليس من بينها غالبا، الإعلام، وسأشرح هذا من خلال سؤال آخر:

ما الذي يجعل الأكاديمي أكثر اطمئنانًا؟

نجد مجموعة من العناصر تتكاتف لتجيب، منها: أنه يستنفد جهده كله في البحث عن مصادر أخرى تعكس له رؤى متعددة، حتى إذا وقف على المصادر المتنازعة علم أنه يقف على الجزء الصلب من جبل الجليد.

ومنها: أنه طويل النفس، فليس متعجلا للحكم، وهذا لا يعني الحياد، فهذا لا يتوافر في عالم الأكاديمي ولا في غيره، ولكن الفرق بينهما أن الأكاديمي لا يستطيع أن يغالط النتائج التي يطرحها عليه العلم أو يتجاهلها –في وسط زملائه الأكاديميين- ولكن يستطيع أن يغير حجمها في مساحة ضئيلة للحركة زيادة أو نقصًا وفق هواه أو ميله، أما المتثقف المعتمد على الإعلام فهو غالبا ما يقتصر على رؤية واحدة، الأمر الذي يجعله أسيرا لهذه الرؤية، غير قادر على مناقشة معطياتها، لأنه لا يعرف كيف ينقض ما يرى، ولو وجد في نفسه غضاضة منه.

الإعلام قد رسم صورة ذهنية لدينا تختلف تمام الاختلاف عن الحزم والجهاد، والرصانة والقوة، مع شاعرية وحُنُو تجاه الآداب والعلوم

وهنا تكمن سلطة النص، في المراهنة على جهله، وعلى عجزه عن أن يرى من قرب، ومع شيء من التدبر ستدرك أن هذه هي الحقيقة التي قلبت حيوات العديد من الشباب من ثورات الربيع العربي، بل أنهت بعض هذه الحيوات، كما شُتِّتَتْ عقولُ عددٍ كبير ممن أرادوا اليقين، فضلوا عنه، بل هي هي التي تجعل التاجر قادرا على أن يربح من المستهلك؛ لأن المستهلك لا يعرف من أين يشتري التاجر بسعر أرخص.

تجربتك مع سليمان القانوني تجربة مع كل حاكم سياسي مَلَأَ السمع والبصر، أو ممثل مشهور أو قضية فكرية، ولعل هذا السؤال يعين كثيرا في عملية التحليل:

من الذي يقول؟ ولماذا يريدني أن أفهم؟

بشرط ألا تكون النتيجة من جنس: أنه يحب المعرفة. أو رغبة صادقة في كشف الحقائق؛ لأن الإنسان لا يقوم بهذه المهام إلا حين يكون مستفيدا منها، ولو كانت استفادته هذه هي: نصرة الإسلام مثلا.


[1] كل التشكيل وعلامات الترقيم داخل الفقرات المنقولة كما هي في أصل الكتاب.