بحلول عام 1985م، كانت الحرب الأهلية اللبنانية قد أتمّت عامَها العاشر، حافلةً بصراعات دموية بين أطراف فلسطينية ولبنانية، سنية ومسيحية وشيعية، مراوحة بين احتلال إسرائيلي وتدخّل سوري وتحريك غربي. كان الصراع من جميع الأطراف مسلّحًا. لم تتدخّل جهات مدنية بصفة سلمية بشكلٍ مؤثّر إلا بنهاية ذلك العام 1985م، من خلال الحركة الشعبية الداعية إلى إضراب مفتوح.

في 28 ديسمبر/كانون الأول 1985م، عُقِد «الاتفاق الثلاثي» بين الميليشيات (القوات اللبنانية المسيحية – حركة أمل الشيعية – الحركة الوطنية اللبنانية الدرزية)، لتسلّم الأمن في بيروت بديلا عن سُلطة «أمين الجميّل». وإزاء هذا الاتفاق تنامت حركة شعبية رافضة له، ومنادية بإضراب عام ومفتوح، أدّى إلى إحداث عُزلة تدريجية للمليشيات بكافة انتماءاتها ومصالحها. وكان ردّ فعل المليشيات على هذه الحركة الشعبية: وضع قائمة اغتيالات لبعض أبرز قادة الرأي والفكر والمحرّكين لها، ونفي البعض الآخر خارج لبنان.

كان الشيخ الدكتور «صبحي الصالح»، واحدًا من الوجوه البارزة في هذه الحركة الشعبية، وكان خطيبًا مفوّهًا متدفّقًا يحظي باحترام الكثيرين؛ كما يصفه أحمد العلاونة بأنه:

كان يتمتّع بشخصية قوية مع حضور البديهة، وكان ذا منزلة تؤهله لأن يكون له دور كبير في لبنان، مما جعل أعداء الإسلام يسارعون إلى اغتياله.

كانت قد وصلته بعض التهديدات إلا أنه لم يكن يأبه لها. وحان دوره في قائمة الاغتيالات صباح 7 أكتوبر/تشرين الأول 1986م، حيث قام مسلّحان ملثمان على دراجة بخارية، باغتياله بثلاث طلقات في الرأس، فور نزوله من السيارة التي أوصلته إلى جمعية للأيتام كان يشرف عليها، ليتوفّى فور وصوله إلى المستشفى متأثرًا بإصابته الخطيرة.

كان الدكتور «الصالح» قد حصل على جائزة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم قبلها بشهور، ولذا جاء تعليق المفكّر الفرنسي «رجاء رجاودي» لما وصله خبر اغتيال الشيخ الدكتور صبحي الصالح:

يا للبشاعة، ويا للهول أن يحدث هذا في لبنان… لقد شغفت بالإسلام دينًا ومنهج حياة، عبر حوارات طويلة مع الصديق الدكتور الذي سيعذبنا غيابه.

وأحدث خبر اغتيال الدكتور صبحي الصالح موجة شعبية غاضبة، اضطرت الميليشيات أن تصطف -مداهنةً- على طول الطريق ما بين بيروت وطرابلس الشام، تؤدّي التحيّة لموكب جنازته.

كان رحيل «الصالح» خسارة حقيقية على عدّة مستويات (علمية وشعبية وسياسية)؛ إلا أنّ الميليشيات كانت بحاجة شديدة إلى مثل هذا الاغتيال، خاصةً وأنّ الصالح كان سيصبح البديل الأبرز والأخطر لمفتي لبنان «الشيخ حسن خالد»، الذي تمّ اغتياله هو الآخر فيما بعد.

ولد الدكتور صبحي إبراهيم الصالح بمدينة الميناء الساحلية قرب طرابلس الشام عام 1926م، لعائلة من أصول تركية، وتلقّى علومه الأولى في إحدى المدارس الابتدائية في الميناء، وأكثَرَ من القراءة والمطالعة ومجالسة العلماء في المساجد، وفي عام 1938م بدأ دراسته الثانوية المدنية والشرعية في دار التربية بطرابلس، وبدأ الخطابة في المساجد.

في 1943م، سافر للقاهرة للدراسة بالأزهر الشريف، وفي 1947م، حصل على الشهادة العالية من كلية أصول الدين في الأزهر الشريف، وانتسب إلى كلية الآداب في جامعة القاهرة، وحصل على الشهادة العالمية من جامعة الأزهر (1949م)، والليسانس في الأدب العربي من جامعة القاهرة (1950م)، وسافر بعدها إلى باريس، ونال في (1954م) شهادة دكتوراة الدولة في الآداب من جامعة السوربون بفرنسا، تحت عنوان «الدار الآخرة في القرآن الكريم»، و«الإسلام وتحديات العصر».

وعمل بعدها بالتدريس الجامعي في جامعة بغداد، ثم في جامعة دمشق (1956م)، ثم أستاذًا للإسلاميات وفقه اللغة العربية بجامعة بيروت العربية (1963م)، ثم رئيسا لقسم أصول الدين بالجامعة الأردنية (1971م)، ثم رئيسا لقسم اللغة العربية وآدابها في الجامعة اللبنانية (1975م)، ومديرا لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجامعة نفسها (1977م). وفي عام 1986م، منحته المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم جائزتها عن كتابه «التفكير الاجتهادي في الإسلام»، وبعدها بشهور وتحديدًا في 7 أكتوبر/تشرين الأول 1986م، تمّ اغتياله على أيدي مسلّحين في بيروت.

من أجمع ما قيل في وصف الدكتور الشيخ صبحي الصالح رحمه الله، ما قاله عنه الشيخ الدكتور طه الصابونجي -مفتي طرابلس والشمال السابق-:

كان عالما تجديديا، وكان مفكرا إبداعيا، وكان أديبا لوذعيا، وكان خطيباً يسحر الألباب بفصاحته، وكان لغوياً تشهد المجامع اللغوية ببراعته، وكان نهضويا على مثال الروّاد الكبار الذين أحيوا أممهم من غفلتها وضياعها، وأثروها بأمجادها وطموحاتها، وكان حوارياً أرسى قواعد الحوار الديني والوطني والحضاري بالحقائق اليقينية، وبالحكمة الرصينة، وبالسماحة المترفعة

كانت للصالح أفكارٌ نهضوية لا يُذكر اسمه إلا مقترنا بها، من ذلك دعوته إلى إطلاق الاجتهاد من جديد، وأن يكون القرن الخامس العشر الهجري قرن الإجتهاد حتى يصبح الاجتهاد ظاهرة غالبة، قائلا:

إن حاجة الأمّة إلى الاجتهاد بديهيّة، لم تكن في نظر القدامى تقبل الجدل، حتى تحتمل التأجيل عند المعاصرين، وأن المحقّقين من علمائنا شاركوا في مقاومة التقليد، وفي دعوة الناس إلى الاجتهاد، وإن كانوا لم يفتحوا بابه على مصراعيه، إلا للقادرين عليه

كما دعا إلى تنمية الفكر الإجتهادي، وتوسيع مجالاته، والتنسيق بين جميع عملياته بين روح الشريعة ومقاصدها العامة وبين إيجاد الحلول المناسبة لمعضلات الحياة العصرية في كل الميادين. وقال:

لن نكون بحاجة إلى أشخاص المجتهدين وألقابهم ومراتبهم، بقدر حاجتنا إلى توعية تفكيرهم واجتهادهم واختصاصهم، تمهيدا إلى يوم نُوفَّق فيه إلى إنشاء ‘المجتمع الإجتهادي الجماعي’ على مستوى العالم الإسلامي

وكان يرى ضرورة أن يلمّ المجتهد إلماما تامًا بلغة حيّة على الأقل إلى جانب لغتنه الأم، كي يكون على دراية -من خلالها- بثقافة العصر وبكل مسألة طارئة في ضوء العلوم المتعلّقة بها، وبهذا يتحوّل الاجتهاد من الصيغة الشكليّة إلى جهاز حي دائم التحرك.

كما كانت له رؤاه الخاصة ومواقفه الواضحة في السياسة ومفاهيمها، من ذلك رؤيته لـ:

– السياسة: بالنسبة إليه ليست سوى أفضل وسيلة لتنظيم الدولة، وما زال مجتمع اليوم الإسلامي مجرّد مشروع، ولم يصل بعد إلى نموذج المجتمع الإسلامي الذي رُسمت خطوطه الأولى في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم).

– الخلافة: رأى أن الخلافة ليست هي الشكل الأوحد للحكم في ظل الإسلام وقال: (علينا أن نكف عن الاعتقاد بأن هذا النظام التاريخي الذي لم يقم إلا على مبدأ الإجماع، هو شكل الحكم الوحيد في ظل الإسلام).

– الحرية: دعا إلى الحرية التي تقوم على مبدأ القبول بالآخر وبالرأي الآخر، والتي تتحقّق بكل معانيها وصورها وميادينها وأجنحتها السياسية والإجتماعية والفكرية والإقتصادية والدينية متضافرة.

– الماركسية: رفض المنهج الماركسي/الشيوعي المادي، لإهماله ومعاداته للحرية الفردية والسياسية.

– الرأسمالية: رفض المنهج الليبرالي/الرأسمالي، لإهماله ومجانبته للحرية الإجتماعية والعدالة بين طبقات وفئات المجتمع.

– الوحدة: كان داعية وحدة بين المسلمين، ففي مقدّمة تحقيق “نهج البلاغة” ناشد المسلمين جميعًا بالانضواء تحت راية التوحيد ودعا المؤرّخين إلى كشف الحقائق ليس انتصارًا لفريق على فريق بل دعوة خيّرة إلى تناسي المآسي الداميات.

وإن كانت بعض رؤاه السياسية قد حظيت بنقدٍ نظرًا لتأثرها بـالأيديولوجية الناصرية، من ذلك ما ذكره د. محمود حمد سليمان، في كتابه «النظم الإسلامية»، الذي أصدره عام 1965م؛

تلاقى مع المنهج الإجتماعي والإقتصادي الذي طرحته الثورة الناصرية أوائل الستينات من القرن الماضي والذي كان سائدا في الساحة العربية يومذاك، والذي يدعو إلى الربط بين جناحي الحرية: الحرية السياسية والحرية الإجتماعية أي (بين تذكرة الإنتخابات ورغيف الخبز). وبذلك يكون الدكتور صبحي قد ساهم في تكريس هذا المنهج

أخيرًا، ترك الشيخ الدكتور صبحي الصالح أكثر من عشرين كتابًا في قضايا الفكر واللغة والأنظمة السياسية والاجتماعية في الإسلام، وفي الدراسات الحضارية المعاصرة، وله أيضًا عشرات البحوث العلمية والأدبية والإسلامية باللغتين العربية والفرنسية، نشرت في عدد من المجلات والموسوعات العربية والعالمية.

فمن مؤلفاته في العلوم الشرعية:

– ترجمة معاني القرآن الكريم إلى الفرنسية، بالاشترك مع دانيس ماسون، 1979م.

– مباحث في علوم القرآن، مطبعة جامعة دمشق، 1378هـ/ 1958م.

– علوم الحديث ومصطلحاته، مطبعة جامعة دمشق، 1378هـ/ 1959م.

– منهل الواردين في شرح رياض الصالحين، دار العلم للملايين، بيروت، 1390هـ/ 1970م.

ومن مؤلفاته في علوم اللغة العربية التي كان يعتمد على دورها في توحيد الأمة وتأكيد هويتها:

– دراسات في فقه اللغة، مطبعة جامعة دمشق، 1960م.

– نهج البلاغة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (تحقيق وفهرسة)، بيروت، دار الكتاب اللبناني، 1387هـ.

ومن مؤلفاته في الفكر الديني وأحكام أهل الذمة:

– فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحية، ترجمة بالاشتراك مع د. فريد جبر، دار العلم للملايين، بيروت، 1967م.

– أحكام أهل الذمة لابن قيم الجوزية (تحقيق وتعليق)، دار العلم للملايين، بيروت، 1391هـ.

– شرح الشروط العمرية (مجردا من أحكام أهل الذمة)، بيروت، 1391هـ.

ومن مؤلفاته في الدراسات الفكرية والحضارية:

– النظم الإسلامية نشأتها وتطورها، بيروت، دار العلم للملايين، 1965م.

– معالم الشريعة الإسلامية، دار العلم للملايين، بيروت، 1975م.

– الإسلام والمجتمع العصري، حوار ثلاثي حول الدين وقضايا الساعة، بيروت، دار الآداب، 1398هـ.

– المرأة في الإسلام، مؤسسة الدراسات العربية، معهد الدراسات النسائية في العالم العربي، كلية بيروت الجامعية، 1980م.

– الحرية ومفهومها الإيجابي في الإسلام، محاضرة، الرباط، 1975م.

– الإسلام ومستقبل الحضارة, دار الشورى، بيروت، 1982م.

– الضمير الديني والتسارع التكنولوجي والحضاري، محاضرة، الرباط، 1974م.

– الوعي الكوني في التصور الإسلامي، محاضرة بالرباط، 1983م.

المراجع
  1. موسوعة (علماء ومفكرون معاصرون)، المركز العربي للدراسات الإنسانية، تحت الطبع.
  2. علماء وأعلام كتبوا في مجلة الوعي الإسلامي الكويتية، الجزء الثاني، مجلة الوعي الإسلامي، 2011م.
  3. تتمة الأعلام للزركلي، محمد خير رمضان يوسف، الجزء الأول، دار ابن حزم، 2002م.
  4. ذيل الأعلام، أحمد العلاونة، دار المنارة، 1418هـ/1998م.
  5. معجم أعلام المورد، منير البعلبكي، دار العلم للملايين، 1992م.
  6. من اغتال الشهيد صبحي الصالح.. ولماذا اغتيل؟، الشيخ طه الصابونجي.