تفاصيل صغيرة تتراكم بداخلنا فتكون هويتنا الثقافية، تصنعنا وتكتب تاريخنا، تجعلنا ما نحن عليه، تكبر داخلنا وتتضافر مع ما نبدعه من فنون وما نكتشفه من أسرار الكون وعلومه، وتترسخ في المجتمع ثم تنتشر إلى ما حولنا من بلاد فيتحول السلوك المعيشي البسيط إلى أحد مفردات الحضارة التي لها قدرة على الانتقال من مكان لآخر والانتشار بين الشعوب، ثم الترسيخ لها كجزء أصيل من الثقافة.

أن تكون من سكان حي «الخليفة»، فتستيقظ فجرًا على صوت آلاف المآذن التي ظلت لألف عام تخشع وتسبح بحمد الله دون انقطاع، ثم تنزل الشارع لتبدأ يومك فتمر على جدران مدرسة عمرها 800 عام تخرج فيها أجيال ممن ملئوا الأرض علمًا، أو مسجد خر على بلاطه الرخامي العارفون سُجدًا لعظمة الله لقرون متعاقبة، أو سبيل أفاض ماءه على عابر سبيل جاء من أقصى المغرب يشق طريقه طلبًا للعلم في المشرق على الجانب الآخر من الأرض، مارًّا بمصر، فيبل ريقه من هذا السبيل الذي تمر أنت الآن بجواره بمنتهى البساطة والاعتيادية. كل هذه المشاهدات اليومية والتفاصيل الصغيرة تتراكم بداخلنا فتصنعنا وتجعلنا أكثر قدرة على التأثير في الآخرين.

حين كنت طفلة كنت أظن أن كل المسلمين يستطيعون سماع مدفع رمضان قادمًا من الفضاء البعيد جهة الجنوب مثلما أسمعه، دون الحاجة إلى سماعه في الراديو أو التلفاز، وكبرت وبعد مكاني عن مدفع رمضان، وأدركت أنني كنت من سعداء الحظ الذين يسمعون مدفع رمضان الحقيقي، وعرفت أيضًا أنه أحد مكونات تراثنا، وبدونه لا يأتي رمضان في الوجدان الشعبي، ومن المعروف أن مدفع رمضان مصري المولد، ولكننا استطعنا نشر ثقافتنا في كل البلاد المحيطة بنا، حتى أن هناك مدفع رمضان بمكة، بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ولكن ما هي قصة مدفع رمضان؟


البداية مملوكية

تكاثرت الحكايات التي تدور حول نشأة فكرة تنبيه المسلمين لوقت الإفطار والسحور بإطلاق مدفع رمضان،فأجمع المؤرخون على أن البداية كانت عند غروب أول يوم من شهر رمضان (عام 866هـ، 1461م) في فترة سلطنة السلطان خوش قدم الناصري المؤيدي الرومي، حيث أراد السلطان أن يجرب مدفعًا جديدًا وصل إليه من الغرب، وقد صادف إطلاق المدفع وقت أذان المغرب، فسر الناس سرورًا عظيمًا، حيث ظنوا أن السلطان تعمد إطلاق المدفع لتنبيه الصائمين إلى موعد الإفطار، فخرجت جموع أهالي القاهرة إلى القلعة (مقر الحكم) لتقديم الشكر للسلطان على هذه البدعة الحسنة التي ابتدعها، فلما رأى السلطان سرور الناس أمر باستمرار إطلاق المدفع وقت الإفطار، والإمساك.


الحاجة فاطمة

اشتهر مدفع رمضان باسم «الحاجة فاطمة»،ويرجع الاسم للأميرة «فاطمة» ابنة الخديو إسماعيل، ولذلك قصة أخرى، حيث كان الجنود يقومون بتنظيف أحد المدافع القديمة فانطلقت قذيفة خطأً تصادف إطلاقها وقت أذان المغرب في أول أيام شهر رمضان، فظن الناس أنه نظام جديد للإعلان عن موعد الإفطار، فعلمت بذلك الأميرة فاطمة ابنة الخديو إسماعيل، فأصدرت أمرًا بإطلاق المدفع عند الإفطار والإمساك، وفي الأعياد الرسمية.

وقد ارتبط اسم المدفع باسم الأميرة حتى الآن، وهو مدفع ألماني الصنع من ماركة «كروب»، ويبلغ من العمر أكثر من 140 عامًا، ويقال إنه اشترك في ثلاث حروب؛ هي: تركيا ضد روسيا في شبه جزيرة القرم، وحرب المكسيك، وكذلك محاولات غزو بلاد الحبشة. وهو موجود حاليًا في قصر الأميرة فاطمة إسماعيل بالدقي الذي تحول إلى المتحف الزراعي.

ثم وضع المدفع في مكان مرتفع حتى يصل صوته لأكبر مساحة من القاهرة، فاستقر في جبل المقطم، حيث كان يحتفل قبيل بداية شهر رمضان بخروجه من القلعة محمولًا على عربة ذات عجلات ضخمة، ويعود يوم العيد إلى مخازن القلعة مرة أخرى.


أكثر من مدفع لرمضان بالقاهرة

مع توسع العمران كانت الحاجة إلى زيادة عدد مدافع رمضان في القاهرة، فأصبحت خمسة مدافع للإفطار، اثنان في القلعة، وواحد في كل من: العباسية، وحلوان، ومصر الجديدة، وظل مدفع القلعة هو الرئيسي. وبعد ظهور الراديو، توقف مدفع الإفطار عن عمله لفترة، وكانت الجماهير تفطر على صوته المسجل في الإذاعة، لكنه عاد مرة أخرى في ثمانينيات القرن الماضي بناء على أوامر وزير الداخلية «أحمد رشدي» الذي أمر بتشغيله ثانية، ومن المكان نفسه فوق سطح القلعة، طول أيام شهر رمضان وخلال أيام عيد الفطر أيضًا.

وقد اعترضت هيئة الآثار المصرية لأن المدفع يهز جدران القلعة، ومسجد محمد علي، والمتاحف الموجودة في حرم القلعة الأثري، فوافقت وزارة الداخلية على نقله مرة أخرى من القلعة إلى جبل المقطم القريب أعلى القاهرة، مما يتيح لكل أبناء القاهرة سماعه.

وحاليًا يوجد مدفعان كبيران على هضبة المقطم يعملان بالتناوب خلال شهر رمضان، وأيام العيد، بينما لا يزال هناك مدفع ثالث أمام متحف الشرطة في منطقة آثار القلعة، ويعمل المدفع تحت إشراف الجهات الأمنية، حيث يخصص لكل مدفع مجموعة من صف الضباط الأكفاء حتى لا تتقدم أو تتأخر الأوقات.


مدفع رمضان من مصر إلى البلاد العربية

من المعروف أن فكرة مدفع رمضان انتقلت للبلاد المحيطة بمصر، ففي المملكة العربية السعودية يوضع مدفع رمضان أعلى جبل من جبال مكة المكرمة المتميز بارتفاعه وخلوه من السكان وقربه من المسجد الحرام،ويطلق عليه اسم جبل «أبو المدافع»، ويبدأ مدفع رمضان عمله بمكة المكرمة بإطلاق 7 قذائف صوتية لتعلن بدء شهر رمضان المبارك، ومع كل يوم يطلق المدفع طلقة عند دخول وقت الإفطار، وأخرى عند دخول وقت السحور، وطلقتين للإعلان عن الإمساك، أما عند دخول عيد الفطر المبارك فتدوي طلقاته الصوتية ابتهاجًا، مختتمًا نشاطه للعام الحالي.

أما مدفع رمضان بدبي فيُجهَّز استعدادًا لممارسة هذا التقليد سنويًا، حيث يتم تجهيز ستة مدافع، منها أربعة أساسية، واثنان احتياطيان لاستخدامهما إذا تعرض أحد المدافع الرئيسة لعطل، وكانت هذه المدافع تستخدم سابقًا في استقبال كبار ضيوف الدولة، وصُنِعَتْ في بريطانيا بين عامي 1930 و1942.

وتوزع المدافع الأربعة على أربع مناطق، منها اثنان في منطقة «ديرة»، في مصلى العيد ومنطقة الرأس، والاثنان الآخران في منطقة «بر دبي»، في مصلى العيد بالكرامة وحديقة الصفا، وشُكِّلَ فريق يتألف من 16 عسكريًا، بواقع أربعة أفراد لكل مدفع، حسب الموقع، للإشراف على إطلاقها في الوقت المحدد بدقة.

ويبقى مدفع رمضان أحد مكونات الثقافة المصرية التي استطاعت أن تترسخ وتنتقل إلى البلاد المحيطة بنا، والتي ارتبطت بأقدس الشهور عند عامة المسلمين، وأصبحت مظهرًا من مظاهر الابتهاج والفرحة بقدوم شهر رمضان الكريم.