تشهد كوريا الجنوبية هذه الأيام أزمةً غير مسبوقة على الصعيد السياسي الداخلي، إذ تواجه الرئيسة الكورية فضائح سياسية من المتوقع أن تطيح بها من منصبها، فمن الناحية الشعبية شهدت العاصمة سيول وبعض المدن الأخرى الكبرى مظاهرات حاشدة تطالبها بتقديم استقالتها ومحاكمتها على جرائمها، وعلى الجانب السياسي صوت المشرعون على تجريد الرئيسة الكورية من صلاحيات منصبها وتقديمها إلى المحاكمة، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ البلاد. فما الذي يحدث في الجزيرة الكورية؟


ما الذي يحدث في كوريا؟

http://gty.im/470920832

في الأسابيع القليلة الماضية تظاهر مئات الآلاف من الكوريين في سيول، كما تجمع المئات من النشطاء أمام المقر الرئيسي لحزب ساينوري الحاكم «الذي تنتمي إليه الرئيسة الكورية باك جون هاي» مطالبين بتنحيها عن الحكم.جاءت هذه التظاهرات مترافقة مع تحركات سياسية لأحزاب المعارضة الكورية – التي خاضت في أبريل/نيسان الماضي انتخابات شرسة أمام الحزب الحاكم وجردته من أغلبية المجلس التشريعي -، حيث قدمت أحزاب المعارضة الكورية مذكرة إلى البرلمان تطالب برفع الحصانة الدستورية عن «باك جون هاي» وتقديمها للمحاكمة تمهيدًا لاستقالتها، وحازت هذه المذكرة موافقة أغلبية المجلس، وتم تحويلها إلى المحكمة الدستورية للبت فيها.جاءت هذه الأحداث عقب الفضيحة التي أحاطت بالرئيسة الكورية وصديقتها المقربة «شوي سون سيل» بتهم تتعلق بالاحتيال، وسوء استخدام السلطة، بعد اتهامات لباك جون بأنها قد سمحت لصديقتها بالتدخل في شئون حكومية وإطلاعها على وثائق سرية.كما يشار إلى أن الرئيسة باك جون هاي أقامت مأدبة غداء، مع 17 من رؤساء الشركات الكبرى، في يوليو/تموز من العام الماضي، وطلبت دعمًا لتأسيس صندوق غير ربحي، بتوجيه من «شوي»، التي استخدمت أمواله لأغراض شخصية.وتُثار التساؤلات حول إجبار باك جون هاي بعض الشركات مثل سامسونج وهيونداي على التبرع بمبالغ تصل لملايين الدولارات، لأنشطة تتبع شاو وجمعياتها المختلفة.شاو؛ التي تواجه اتهامات الآن بسوء استخدام النفوذ، هي رئيسة طائفة دينية تُدعي (الحياة الأبدية) وهي تجمع تعاليم من المسيحية والبوذية وبعض الديانات الكورية القديمة، ويُعتقد أنها تلعب دور الموجه الروحي للرئيسة الكورية منذ طفولتها وإلى الآن.وفقًا لتسريبات نشرتها ويكيليكس عن محادثات بين ديبلوماسيين أمريكيين، فإن شاو تسيطر تمامًا على الرئيسة الكورية بارك منذ حادثة وفاة أمها وإلى الآن.ووفقًا لديفيد كانج خبير الشئون الكورية بجامعة جنوب كاليفورنيا، فإن شاو تملك تأثيرًا كبيرًا على باك جون منذ بداية حياتها وإلى الآن، فرغم أن شاو لا تملك منصبًا رسميًا إلا أن الأحداث الأخيرة قد أظهرت اطلاعها على وثائق حكومية سرية، استخدمتها في ابتزاز بعض الشركات الكبرى ومنهم سامسونج من أجل الحصول على الدعم لبعض المنظمات التي تدعمها.وفي خطابها المتلفز والذي قدمت فيه باك جون اعتذارها للمجتمع، أعلنت أنها قد أطلعت شاو على بعض الوثائق الحكومية التي لم تحددها في بداية فترتها الرئاسية.أحاط معظم الغضب إذن بـشاو (الزعيمة الدينية) وتأثيرها على الرئيسة الكورية، ولكنه أيضًا ألقى الضوء على المجتمع الكوري وتنوع دياناته ومجموعاته،حيث يعتقد الكوريون في بعض الديانات التي تؤمن بالتواصل مع عالم الأرواح، ويقوم فيها رئيس الطائفة الدينية بدور الوسيط الروحي، والديانة التي تُمثلها شاو تعتنق مجموعة من هذه الأفكار، وتدعي قدرتها على التواصل مع العالم الروحي والتأثير فيه.ويؤكد هذه العلاقة القوية التي تربط بين شاو وباك ما حدث في حفل التنصيب الرئاسي لباك جون،حيث قالت التقارير أن الحفل تم بمشورة شاو ووقفت فيه بارك أمام شجرة مزينة بعقود ملونة من الحرير آملة ان يجلب هذا الرخاء للبلاد وفقا لنُصح شاو.خرج آلاف المتظاهرين إذن إلى الشوارع بعد تفجر الفضيحة، مطالبين بتنحي باك جون،كما استدعي القضاء الكوري شاو لمواجهتها بهذه الاتهامات. ولكن دستوريًا لا يمكن محاكمة الرئيس الكوري إلا في حالة الخيانة العظمى، لذلك صوت أعضاء البرلمان على نزع الحصانة عنها وتقديمها للمحاكمة، وتنظر هذه القضية الآن أمام المحكمة الدستورية في إجراء قد يطول قليلًا، لذا أعلنت باك جون تخليها عن صلاحياتها ليكون رئيس الوزراء الكوري هو القائم بعمل رئيس الجمهورية إلى أن تنتهي المحكمة من نظر القضية.حاولت باك جون أيضًا اللجوء إلى المناورة السياسية، حيث أعلنت استعدادها للتخلي عن السلطة في فبراير/شباط 2018 بشرط أن يصل الحزب الحاكم والمعارضة إلى خارطة طريق تضمن انتقالًا سلسًا للسلطة، لم يحز هذا الاقتراح على الرضا الشعبي، واعتبره النشطاء كسبًا للوقت ومحاولة للخروج من الأزمة.


التداعيات الدولية لإقالة «باك جون هاي»؟

المثير للتساؤل بشأن الاتهامات الموجهة لباك جون هاي، الكيفية التي سيطرت بها زعيمة الطائفة الدينية عليها، للخروج عن واجباتها كرئيس للدولة!

http://gty.im/480494989

لم تقف تداعيات هذه الفضيحة عند حدود الجزيرة الكورية وحسب،فالرئيسة الكورية الموالية لأمريكا والتي مَثلت شوكة في حلق النفوذ الصيني في منطقة شرق آسيا قد تتداعى رئاستها سريعًا، وتبدو الصين أكثر الفرحين بهذه الأحداث التي تشهدها كوريا الجنوبية، خاصةً إذا ما قادت إلى تنحية باك. فكل البدائل تبدو مبشرة للصين، وربما نشهد خروجًا لكوريا الجنوبية من كنف أمريكا قريبا،فكيف هذا؟

يتصدر قائمة المرشحين لخلافة باك جون هاي الأمين العام الحالي للأمم المتحدة بان كي مون، الرجل الأكثر توافقًا مع الصين، والأكثر هدوءًا بشأن كوريا الشمالية

باك والتي كانت صداعًا في رأس الصينين، اختارت خطًا سياسيًا هددت فيه بشكل واضح الأمن القومي الصيني، فأولًا؛ تدعم نشر منظومة دفاع صاروخي أمريكي متقدمة على الأراضي الكورية بغرض حمايتها من جارتها الشمالية، ولكن بكين تعتقد أن هذه المنظومة سوف تصبح منصة للتجسس الأمريكي على الأراضي الصينية. وثانيًا؛ تدعم باك اتفاقية للشراكة الاستخباراتية مع اليابان، تتيح تبادل المعلومات والعمل المشترك لمواجهة الخطر الصيني، هذا بالاضافة إلى موقفها المتشدد من كوريا الشمالية، وتبنيها لفرض عقوبات مشددة على الجارة الشمالية، ومحاولتها توثيق الانتهاكات الصينية في مجال حقوق الإنسان.وعلى الجانب الآخر ظهرت أسماء مُرشحة لتولي منصب الرئيس في حالة استقالة باك المتوقعة، ففي استفتاءٍ حول الرئيس القادم للبلاد أجرته صحيفة كورية في مايو/آيار الماضي، تصدر «بان كي مون» الأمين العام للأمم المتحدة، القائمة بنسبة أصوات بلغت 28% تلاه مجموعة من رؤساء أحزاب المعارضة.وللمفارقة يتفق جميع المرشحين المحتملين على شجب اتفاقية نشر منظومة الدفاع الجوي، وكذلك على وقف الاتفاقية الاستخباراتية مع اليابان، أما «بان كي مون» فيحمل موقفًا أكثر تساهلًا من الجار الشمالي، حيث أعلن أكثر من مرة عن رغبته في لقاء «كيم جونج إيل» ديكتاتور كوريا الشمالية، كما رفض «بان كي مون» قبول عضوية تايوان في منظمة الأمم المتحدة ليصرح بأن تايوان ليست بلدًا ذات سيادة، وإنما جزءًا من جمهورية الصين الشعبية.يبدو إذن أن احتمال استقالة باك هو الاختيار المُرجح، فالمظاهرات تتزايد يومًا بعد يوم ولا يبدو أن المتظاهرين سيتنازلون عن استقالة الرئيسة الكورية، فهل يكون الربيع الكوري إيذانًا بخروج كوريا الجنوبية من تحت جناح الولايات المتحدة الأمريكية، وربما يمتد الخط على استقامته لتنحسر الهيمنة الأمريكية في شرق آسيا وخاصة في ظل رئاسة دونالد ترامب، أم سيكون للكوريين رأي آخر؟