تتسم السردية الإخوانية بقدرتها على استيعاب الإخفاقات الكبرى، فهي سردية نضالية توفِّر الوعد بإمكانية تجاوز الإخفاق الذي تتم «أرشفته» بسهولة باعتباره محنة، وهذه المحنة هي بدورها جزء لا يتجزأ من المسيرة. طرحت تلك القسمة تساؤلا حول قدرة السردية الإخوانية على تجاوز هزيمة 30 يونيو، ثم مذبحة رابعة التي مثلت مشهدًا رمزيًا يختتم ويتوِّج الإخفاق في آن؛ يختتمه كإخفاق أكيد أضحى لا مفر منه ولا إمكان لتداركه، ويتوِّجه كملحمة نضالية تتمركَّز حولها الانفعالات والذاكرة الجمعية وتسمح بإعادة بناء الذات الإخوانية المعتدة بنفسها.

هذا ما أملت فيه، بالفعل، القيادة الكلاسيكية للإخوان، ورثة التنظيم الخاص وتنظيم 65، بعد فض رابعة، وانحسام الأمور لصالح الانقلاب العسكري، وصارت الأولوية، بالنسبة لها، استعادة أجواء هدوء تسمح بانطلاق عملية إعادة بناء دؤوبة على غرار عملية إعادة البناء التي قادها كمال السنانيري ومصطفى مشهور وجيلهما من رجال التنظيمات الخاصة، في السبعينات.

على الرغم من أن الجماعة واكبت التحول الديمقراطي الليبرالي، إلا أن بينتها التنظيمية المغلقة لم تسمح بإتمام تحولها إلى حزب سياسي.

لكن حالة الانقسام والشتات النفسي الذي عانت منه جماهير واسعة، وهو الحال الذي تجلّى في الهجرة الجماعية إلى السلفية الجهادية من قبل قطاع من تلك الجماهير، وموجة السخط الذي توجَّه إلى القيادة مجتمعة، كانت إشارة إلى «الطبيعة الكاسرة لرابعة»؛ أي تلك الاستثنائية التي تمتع بها الحدث، ومنعت «أرشفته» ضمن السردية الإخوانية. رابعة هي كسر للعود الأبدي في السردية الإخوانية الذي يبدأ بالبناء، فالاستقرار والنضج والافتتان بالقوة، ثم المغامرة، فالسقوط في محنة، وهلمّ جرا. أي أننا حيال حدث فارق، يسحب السردية الإخوانية خطيًا إلى الأمام بإسدال الستار عنها أو بتطويرها، ويجعل ما بعده لا يمكن أن يكون عودًا على ما قبله، بل طي صفحة، لا يمكن بعدها انطلاق عملية إعادة بناء للجماعة في صورتها القبلية.

ما نطرحه هنا هو محاولة لتجريد النموذج السابق على رابعة، ليس بهدف نقد التاريخ وإدانته، وإنما بهدف التطلع إلى ممكنات المستقبل؛ ليس فيما يخص تنظيم الإخوان المسلمين الضيق فحسب، بل فيما يخص الإخوان المسلمين ككل بما هم، في الحقيقة، مركز الثقل والنموذج الذي نُسجت حوله شبكات الحركة الإسلامية المعاصرة، وما عُرف بظاهرة الإسلام السياسي.

وما نحاجج عنه هو أن جماعة الإخوان المسلمين، ومن ورائها الحركة الإسلامية المعاصرة، نشأت كرد فعل رومانسي على الحداثة، مقتبسة الأنموذج الفاشي في التنظيم، الذي هيمن على الجماعة بحكم ظرف النشأة، جنبًا إلى جنب مع الطبيعة الرومانسية للأيديولوجية التي حملتها الجماعة.

وعلى الرغم من أن الجماعة واكبت التحول الديمقراطي الليبرالي بعد التأسيس الثاني في السبعينات، إلا أن بينتها التنظيمية المغلقة لم تسمح بإتمام تحولها إلى حزب سياسي، فأبقت خطابًا مضطربًا سواء خارج الجماعة، أو حتى داخلها، ولم تُفِد منه سوى خسران البعد الجمالي التي تتسم به الأفكار الفاشية والرومانسية، وهو الخسران الجمالي الذي تجلَّى في ضعف ردة الفعل الفنية على حدث فارق كمجزرة رابعة. وتمثل رابعة قطيعة، كما أشرنا، مع ذلك الأنموذج، وبداية لمخاض يتصالح مع الحداثة ولا يحاول أن يسقط عليها أحلامًا رومانسية.


الماضي الذي لا يموت

تأسست جماعة الإخوان المسلمين في أجواء الثلاثينات المصرية. وقد انطبعت تلك النشأة بعوامل ثلاثة توازي سياقات النشأة الثلاثة:

  1. السياق الذاتي: وتمثله الخلفية الصوفية للمؤسس، الإمام حسن البنا، الذي حاول أن يصبغ فكرة الطريقة الصوفية بصبغة حركية حديثة، مولِّدًا جماعته التي جمعت بين وظيفة الطريقة الصوفية بتزكية منتسبيها في الداخل وفق منهج خاص بها، ووظيفة الحزب السياسي المنظَّم بهدف الوصول إلى السلطة ووضع برنامجه موضع التنفيذ.
  2. السياق المصري/المحلي: وقد طبعه في ذلك الوقت شعور باليأس من الحياة الحزبية الليبرالية التي كرّسها سعد زغلول منهجًا للحركة الوطنية بتأسيسه حزب الوفد، كمسار للتخلص من الاستعمار وبناء الدولة الوطنية. وهو اليأس الذي أفضى إلى معاهدة 1936م التي لم تحظ بقبول شعبي حتى بين أبناء حزب الوفد أنفسهم الذين وقع زعيمهم مصطفى النحاس باشا تلك المعاهدة.
  3. السياق العالمي: برز في ذلك الوقت الحزب النازي في ألمانيا كرد قومي متطرف على الشروط الجائرة التي فرضها الحلفاء في «معاهدة فرساي» على ألمانيا عقب الحرب العالمية الأولى، وهي الشروط التي قبلتها جمهورية فايمار الليبرالية أيضًا. كما برز في إيطاليا الحزب الفاشي الذي قدّم نفسه كمناوئ للديمقراطية الليبرالية.

ولم تكن الأوساط المصرية بمعزل عن ذلك، فقد نشأت في ذلك الوقت حركات على هذا النمط الفاشي، أبرزها «مصر الفتاة» التي تأسست في نفس العام الذي وثب فيه هتلر إلى السلطة في ألمانيا، وضمت في عضويتها الفيلسوف الوجودي المصري عبد الرحمن بدوي الذي كان بدوره على اتصال بـ مارتن هيدجر، وكان الأخير أيضًا أحد داعمي النازية في ألمانيا.

بل إن هذا الطابع الفاشي قد امتد إلى المؤسسة الملكية (السرايا) التي أسست تنظيمًا مسلحًا سريًا عرف باسم «الحرس الحديدي»، بينما أسست «مصر الفتاة» تشكيلات القمصان الخضراء، وأسس الوفد تشكيلات القمصان الزرقاء، على غرار تشكيلات القمصان السود في إيطاليا الفاشية، فضلا عن التنظيم الخاص التابع للإخوان المسلمين. وكلها أشبه بأجنحة عسكرية لتلك الأحزاب والحركات، تمتاز بصرامة تنظيمية شديدة وسرية محكمة.

أدّت هذه السياقات إلى تنظيم الحركة كجماعة لا كحزب سياسي، وهو النمط التنظيمي الذي يناسب أيديولوجية الجماعة التي لا تعترف بالدولة الوطنية ولا بالتعددية الحزيية في إطارها، وإنما تسعى إلى استعادة خلافة إسلامية تحكم شعبًا متماهيًا تقوم الجماعة بتربيته على أيديولوجية صلبة. لكن هذا النمط لم يكن قد ترسخ تمامًا بوعي من قبل المؤسس الذي كان، على كل حال، ابنًا للحقبة الليبرالية في مصر، وللأجواء الصوفية الروحانية، وللإصلاح الديني الذي قاده عبده ورشيد رضا. أما من أعطى هذا النمط نظريته ونقله من اللاوعي إلى الوعي، فكان سيد قطب.

فعلى الرغم مما يؤكِّده القطبيون من براءة سيد قطب من مسار الجماعة في مرحلتها الثانية (المرحلة الديمقراطية الليبرالية)، إلا أن سيد قطب كان هو من نجح في تجريد المشروع الحركي للجماعة وإعطائه نظريته. كان سيد قطب قد غادر الرومانتيكية التي طبعت توجهه الأدبي وحتى السياسي في الأربعينات التي تبنى فيها وطنية فاشية قريبة من تلك التي تبنتها «مصر الفتاة» (يذكر عبد الحليم خفاجي أن جريدة الاشتراكية، لسان حال «مصر الفتاة»، كانت قد فتحت صدرها لمقالات سيد قطب النارية في تلك الفترة)، إلا أن تلك الرومانتيكية ظلّت حاضرة، وإن بخفاء، في نظرية قطب الحركية للإخوان المسلمين التي نظر فيها إلى الجماعة كجماعة المؤمنين المصطفاة المسئولة عن الدعوة إلى الحاكمية الإلهية وتوطيدها (يحسن الرجوع إلى دراسة شريف يونس: «سيد قطب والأصولية الإسلامية»).

وقد ظلّت أفكار سيد قطب أكثر تعبيرًا عن البنية التحتية لخطاب الجماعة وتنظيمها، من أفكار المدرسة الوسطية (سيد سابق والغزالي والقرضاوي وفريد عبد الخالق) التي استفادت الجماعة لاحقًا من اجتهاداتها في الديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان والحريات، لكنها لم تقبل باختراقها للتنظيم والنواة الأيديولوجية الصلبة للجماعة. وكانت تلك المجموعة هي الخاسرة في المواجهة التنظيمية مع تنظيم الشباب في الستنينات (يحسن الرجوع إلى، محمد الغزالي: من معالم الحق في كفاحنا الإسلامي المعاصر) كما كانت كذلك لاحقًا غير مرحب بتدخلها من قبل مكاتب الإرشاد المتعاقبة.


مخاض لم يكتمل

ظلّت أفكار سيد قطب أكثر تعبيرًا عن البنية التحتية لخطاب الجماعة وتنظيمها، من أفكار المدرسة الوسطية.

خاضت الجماعة تحولًا ديمقراطيًا في الثمانينات، توَّجته بمجموعة وثائق «هذه دعوتنا» الصادرة في أكتوبر/تشرين الثاني 1995. فقد أصدرت الجماعة في هذا العام وثيقة «بيان للناس» (30 أبريل/نيسان)، أقرت فيها تداول السلطة والتعددية الحزبية والمواطنة وحقوق الإنسان، ونبذ العنف. لتعود وتؤكد ذلك برسالة في الشورى وتعدد الأحزاب. وكانت قد نشرت قبل ذلك بعام، وثيقة «المرأة المسلمة في المجتمع المسلم» (مارس/آذار 1994) تعلن فيها حق المرأة في الانتخاب والترشح لعضوية المجالس النيابية.

كانت هذه الوثائق أشبه برسائل الفاتيكان التقدمية التي بدأها البابا ليو الثالث عشر بـ الريرَم نوفيرَم أو الأفكار الجديدة 1891 دفاعًا عن حقوق العمال. أسهمت تلك الرسائل في التأسيس للديمقراطية المسيحية في أوروبا كحركة سياسية حديثة تتخذ من المسيحية رؤية للعالم لا أيديولوجيا سياسية شمولية، وتؤسس أحزابًا تداولية. لكن ذلك لم يحدث في الحالة الإخوانية، لأن ثمة عقبة تنفيذية أعاقت هذا التحول النظري، وهي ذلك النمط التنظيمي الذي أشرنا إليه؛ إذ أفرز هذا النمط التنظيمي عدة مشكلات بنيوية اعترت الممارسة والخطاب الإخوانيَيْن.

ظل الإخوان المسلمين وغيرهم من الإسلاميين بالنسبة للتيار العام في المجتمع، أشبه بجماعة أجنبية.

يضع التنظيم شروطًا خاصة للعضوية فيه، وبرنامجًا طويلا يجب خوضه قبل نيل العضوية الكاملة. ومن ثمّ، ظل الإخوان المسلمين وغيرهم من الإسلاميين بالنسبة للتيار العام في المجتمع، أشبه بجماعة أجنبية، غرباء، قد يكونون أخيارًا أو أشرارًا، لكنهم يبقون غرباء على كل حال. يمكن لأي أحد أن ينظر إلى الجماعة نظرة إيجابية، لكنه دائمًا يتحدث عنهم كآخرين غامضين: «هم ناس طيبون». سيطرت هذه «الطبيعة الانفصالية» حتى على اللاوعي الجمعي للإخوان، وظهرت في شعارات الجماعة التي اتخذت «طابعًا نابليونيًا»، كشعار «نحمل الخير لمصر»؛ فهو أشبه بشعار لمستعمر أجنبي يريد أن يطمئن/يخدع أهل البلد، أكثر مما هو شعار حزب سياسي وطني يقدم نفسه للجمهور. كما تظهر تلك الطبيعة الانفصالية في خطابات من قبيل نداء البنا الشهير للإخوان: «استيقظوا حتى ينام الناس، جوعوا حتى يشبع الناس، اتعبوا ليستريح الناس» على الرغم من براءتها الشديدة.

أما على الصعيد الداخلي، فلم تسمح الأيديولوجية الشمولية بتطوير الإمكانات الإبداعية لأبناء الجماعة، إذ أن طبيعة التنظيمات المغلقة التي لا تستطيع قواعدها التأثير مباشرة في صناعة القرار أو الترقي في المؤسسات بشكل بيروقراطي، أن تنشأ نخبة حاكمة، أوليجاركية من نوع خاص، تتحكم في اصطفاء الكوادر وتصعيدهم. ومن جهة أخرى، فإن بنية التنظيم التربوية، على خلاف طريقة الأحزاب السياسية المنفتحة، لم يكن ممكنًا إلا أن تخنق آفاق أبنائه بأفكار التنظيم وحدودها.

عانت الجماعة لذلك من فقر ثقافي نظري، بقدر ما عانت من فقر في الكفاءة السياسية. وهو فقر عمقته «الازوداجية» في تعريف الجماعة لنفسها وتحديدها لمهامها ومهام كوادرها، فهم يتحركون بمنطق الداعية ومنطق السياسي ومنطق المهني في آن واحد، هو داعية يجب أن يكون سليم الصدر تجاه الناس، وكرجل دين يحب الجميع ولا يراوغ كثيرًا ويتخذ مواقف مثالية، وهو كسياسي يجب أن يكون ذكيًا وبرجماتيًا، وهو كمهني يجب أن يكون بيروقراطيًا محايدًا ينفذ الأوامر وفق اللائحة أو القواعد الناظمة للمجال، وهو تناقض لم يكن ممكناً إلا أن ينفجر على شكل فقر وقلة كفاءة في كل تلك المجالات، وإن بزَّت، من بينها، السذاجة السياسية.

كان من الممكن أن تتجاوز الجماعة والتيار الإسلامي كله كمًا كبيرًا من المصاعب، فقط إذا قبلت الجماعة بأخذ خطوة إلى الأمام والسماح لأعضائها بالانضواء تحت أي حزب سياسي بحسب رغبتهم، أو التحول في المقابل إلى حزب سياسي بشكل واضح، إلا أن الجماعة أبدت استمساكًا استثنائيًا بالتنظيم المقدس وبتماسكه وتجانسه.

هكذا سار الإسلاميون إلى حتفهم على أنغام رومانتيكية، وسط آفاق محدودة من التفكير في الممكن والمتاح للإصلاح، فالإصلاح يتم داخل أطر الجماعة، أو جماعة موازية؛ المهم، لا بد من وجود الجماعة الواحدة التي ينضوي تحت شملها الجميع وتفرض برنامجها. ما حدث في رابعة هو نهاية ذلك النموذج الذي لم يعد من الممكن تدويره وإعادة إنتاجه. وبوفاة هذا النموذج الحركي، تكون ظاهرة الإسلام السياسي كما عرفناها على مدى السنوات الأربعين الأخيرة على الأقل قد تغيرت بتغير محدد أساسي لبنيتها، وتغير تلك البنية وشروطها تبعًا لذلك. لذا، سواء كنا نفكر من داخل الثوب الإسلامي أو من خارجه، بغرض إعادة البناء أو التفنيد، فعلينا أن ندرك أن هذه الظاهرة قد انطوت بحلوها ومرها، ويجب فحسب النظر في مستقبل تحولاتها.