تُقارب هذه المداخلة اتجاهات إنتاج المعرفة في العلوم الاجتماعية حول السياق الفلسطيني من منظورين اثنين؛ الأول، باعتبارها معرفة تحررية مناهضة للاستعمار،مع التعريج لما يصحب هذا التوجه من صعوبات وتحديات، والثاني، باعتبارها إحدى الأدوات الهّامة في بناء مشاريع الهيمنة، فهي معرفة نقيضة للتحرر، مؤسساتية تسعى إلى تكريس الاستعمار. تستند المداخلة في هذا التقسيم إلى السياسي والأيديولوجي داخل هذه المعرفة، أيّ؛ محاولة تفكيك العلاقة بين إنتاج المعرفة ومكامن القوة والسلطة فيها.


العلوم الاجتماعية كمعرفة تحررية

يتبنّى المشتغلون في العلوم الاجتماعية باعتبارها أداة تحررية مقولةً أوليةً مفادُها أنّ العلاقة بين الإنتاج المعرفي والواقع السياسي علاقة عضوية؛ فجوهر المراحل – وربما الأزمات – التي مرّت بها القضية الفلسطينية سياسياً قد ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالنتاج المعرفيّ عن الواقع الاجتماعي الفلسطيني لتلك المرحلة، وأنّ تفكيك البُنى الاستعمارية التي تُكبل الواقع الفلسطيني يرتبط علائقياً بقدرة العلوم الاجتماعية على استكشاف وتجاوز آليات الهيمنة وتحديد أساليبها الناعمة وطرقها المختلفة، وتطوير معرفة نقيضة –مقاومة – تساهم في إنتاج معرفة تحررية وطنية تكون أرضية وزاد لعمليات التحرر.

تُشكل هذه الغائية التحررية التحدي الأكبر أمام السيسيولوجي الفلسطيني الذي يعاني من أزمة هوية نابعة من عدة عوامل، تُعزيها أيلين كتّاب – أستاذة علم الاجتماع في جامعة بيرزيت – إلى عدم نقاء المرحلة السياسية، حيث تختلط فيها التحرر الوطني، ومأسسة مزيفة للدولة الفلسطينية المستقبلية على أجزاء من الضفة وغزة، محكمة بالإغلاق والحصار والجدار العنصري، إضافةً إلى تقزيم فكرة الدولة إلى حكم ذاتي يعتمد كلياً على التمويل الخارجي ومسلوب من الاستقلال والسيادة، الأمر الذي أدى إلى اغتراب سياسي وثقافي لدى فئات واسعة من الناس بمن فيهم المثقفون والباحثون.

يواجه هذا التوجه التحرري صعوبة التوفيق بين الالتزام المعرفيّ والالتزام المجتمعيّ؛ فبالرغم من التوجه الوطني التحرري لهذه الدراسات في غائيتها للانفكاك من المنظومة الاستعمارية؛ إلا أنّها لم تنجح – في سوادها الأعظم – من تخليق منظومة مفاهيمية خاصة تستطيع من خلالها تحليل البُنبى الاجتماعية وتفكيك الواقع المركب الذي يختلط فيه الاجتماعيّ بالسياسيّ والثقافيّ والاقتصاديّ، وبقيت تعتمد على مفاهيم التصنيفات الاستعمارية.

وفيما يتعلق بالنماذج النظرية، يذهب خالد عودة الله – الباحث في العلوم الاجتماعية والمحاضر السابق في جامعة بيرزيت – إلى أنّ هناك ظاهرة منتشرة بكثافة يمكن تسميتها نزع الخصوصية عن الحالة الفلسطينية، كإحدى تبعات الانخراط في نظام المعرفة المُعولم فيقول: «ما الذي يبقى من فلسطين إذا ما دُرِست بالمعنى المزدوج (الدرس بمعنى البحث وبمعنى الدّوس) كتجلٍّ محليٍّ لنموذج نظري مُعوْلَم؟ وماذا يبقى من فلسطين إذا ما تحوّلت إلى discipline كذلك بالمعنى المزدوج (بمعنى تخصّص أكاديمي وبمعنى التأديب)؟ فعلى سبيل المثال: ما الذي يبقى من تجربة اللجوء إذا ما درست كأحد أشكال الهجرة القسرية، وما الأبعاد السياسية لهذا الدرس؟ وما الذي نخسره معرفيا عندما نسمّي الاستشهادي (انتحاريًا) لكي يتلاءم مع اشتراطات النظرية».

إنّ بناء المعرفة التحررية يتطلب الخروج عن النمطية الخطابية التي درجت على استخدامها النخب الفلسطينية للتعبير عن الواقع الاستعماري والتي لا تخلو في غالبها من مطامع سياسية، دون أن تهدف بالضرورة إلى تحقيق هدفها الأول بكونها مادة الحدث الفلسطيني، كما يتطلب قبل ذلك الحضور الغائي للتحرر، وبناء الذات الحرة للباحث الاجتماعي القادرة على الانفكاك عن أجندات البحث الممولة، أو التنزه عن الحالة السوقية الاستهلاكية التي تشهدها المؤسسات التعليمية والجامعات في إنتاج أبحاث مفرغة من المضمون، بغرض الترقية أو الحصول على درجة علمية.


العلوم الاجتماعية كمعرفة استعمارية

استبدلت العولمة مفهوم المثقف العضويّ بدلائله عند غرامشيّ، بالتكنوقراط ومثقف السلطة، فمن المثقفين من تعولم وعمل داخل البنية السياسية، وغدت أجندات البحث الاجتماعيّ تُفرض من خارج السياق الفلسطيني، وتم استدخال توجّه جديد في العلوم الاجتماعية قوم على أساس تشويه الواقع الاستعماري؛ باعتبار أنّ فلسطين اليوم هي دولة تحت الاحتلال؛ وبالتالي توجيه البحوث نحو آليات تحقيق الديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان، وأصبح استخدام هذه المصطلحات واجباً عينياً تفرضه شروط الجهة الممولة؛ الأمر الذي أدى إلى تشويه الهوية التحررية للعلوم الاجتماعية، وإعادة إنتاج المعارف الغربية المهيمنة، مما أدى إلى ظهور حيّز واسع للمسكوت عنها وللظواهر الصامتة في الدراسات الاجتماعية، فظهرت الكثير من المواضيع ليست محلا للنقاش أو مثارا للجدل، فضلاً عما أحدثه هذا التوجه من انفصال بين النظري والواقعي، فلم تعد العلوم الاجتماعية مرآةً للواقع الفلسطيني، وقد تعطل دورها الوظيفي في تتبع مشكلاته، والسعي لإيجاد حلول لها.

وكمعرفة استعمارية؛ شكلّت العلوم الاجتماعيّة المحليّة -بنيويًا – استراتيجية «للدخول إلى البيت» فتكشف ما يتم حجبه وبقي بعيدًا عن ناظر الاستعمار، وهي بذلك تشكل إحدى الأدوات الهامّة في مدخلات نظام السيطرة الاستعماري في فلسطين، وفي هذا يقول عودة الله: «يقوم الكثير من المشتغلين بالعلوم الاجتماعية الفلسطينية بلعب دور الإخباريين المحليين (native informants) كما هو متعارف عليه في بحوث الأناسة الإثنوغرافية، حيث يقتصر دور البحّاثة المحليين على توريد البيانات الخام كمدخلات لعمليات التدخل الأطلسيّ، فلا يكاد يخلو زقاق أو حيّ في الضفة الغربية من لافتة تشير إلى مشروع تقوم بتنفيذه usaid أو نفذته هي أو غيرها من وكالات التنمية الدولية، ويأتي الوجود المكثف للـusaid في الضفة الغربية كشكل لما يسمى بالتدخل المدني أو ما تسمّيه العديد من الدّراسات الصّادرة عن مراكز الأبحاث الأمريكية بكسب عقول وأفئدة الفلسطينيين» (Wining the Palestinian Hearts and Minds) والتي تحدّد مجالات التدخل والفئات المستهدفة.

حين تتواطأ العلوم الاجتماعية في صناعة الاستعمار فإنها تفقد غاية وجودها الأولى التي يُشير إليها بول باسكون- عالم الاجتماع الفرنسي- بأنها: «تلك التي تأتي الفضيحة عن طريقها»، فبدل أن تقرأ التحولات وتحللها، تساهم في إتمامها بما يتفق مع أيديولوجيتها ومصالحها السياسية، ليضمر ويتلاشى الحس النقديّ، أو ظهور ظاهرة النفاق النقديّ، التي يصفها عودة الله أنها ملازمة للعديد من النقديين والنقديات في العلوم الاجتماعية الفلسطينية. و«للنفاق النقدي» شعبتان أولاها: ما اجتمع اثنان من النقديين والنقديات إلا وكان نقد السّلطة ثالثهما وإذا ما انفضّ مجلس النقد تساقطوا على أطباق السلطة كالذباب. وأمّا الثانية: فمتعلقة بنقد «الارتزاق المعرفي» -(funding) بلغة أهل «الكار»- فما اعتلى أحدهم منبر نقد الارتزاق إلا وهو يتحسّس «البروبوزال» في جيبه خوفا عليه من الفراق.

المراجع
  1. تيسير محيسن، النظام الاجتماعي الفلسطيني: جدل التحوّل والتفكك – رؤية تحليلية، رام الله: تحالف السلام الفلسطيني، 2007.
  2. نادر عزّت سعيد، دراسات تحليلية للتوجهات السياسية والاجتماعية في فلسطين، نابلس: مركز البحوث والدراسات السياسية، 1997.
  3. أكرم حجازي، الجذور الاجتماعية للنكبة، القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر، 2014.
  4. سليم تماري، «العلوم الاجتماعية في فلسطين اليوم: قضايا منهجية وبحثية». مؤسسة الدراسات الفلسطينية. خريف 1994.
  5. إسماعيل الناشف، «حول إمكانية دراسة النظم الاستعمارية: فلسطين نموذجاً»، قديتا نت.