كنتُ مدخنًا نهمًا! يعلم ذلك عني بعض من يعرفني، ويجهله كثيرون. بل كنت مدخنًا نهمًا، كما كنت قارئًا نهمًا، ولا تسل عن العلاقة بين التدخين والقراءة؛ لأنها نشأت من طريق العادة، وكثيرٌ من العادات لا علة لها من جهة العقل. كنت إذا تناولت كتاباً وجعلت أقرأ أشعلت سيجارة، ومن السيجارة أشعل سيجارة، ثم أمضي على هذا النحو وإن امتدت بي القراءة ساعاتٍ طوالا، وإذا استوقفتني فكرة أشعلت أخرى، وإذا راقني رأي أو قول فكذلك. وكان لي صاحب بلغ به الولع بالتدخين حدَّ العشق والغزل، فكان إذا أخرج السيجارة من العُلبة نظر إليها نظرَ المتيم، وقَبَّلها قَبْل أن يدسها بين شفتيه، ثم لم يزل بها حتى تذبل بين إصبعيه، فلا يَبقى منها إلا ما لا سبيل إليه. ومن جملة جنونه بها أنه كان يقول ـ ولعله صادق في بعض ما يقول ـ: إنها «وسيلة تعارف»، فهي أقصر طريق تبلغ به قلب الموظف في المؤسسات الحكومية، وإذا بلغت قلبه فقد قُضِيتْ حاجتك، وقديما قيل:

إذا كنتَ في حاجة مرسلا ** فأرسل حكيمًا ولا توصه

فالسيجارة في رأي صاحبي كانت هي ذلك الرسول الحكيم الذي يقضي الحاجة، ويكفل الإجابة، ولعله أفاد في ذلك من بعض الظرفاء الذين حرفوا البيت السابق عن وجهه، فقالوا:

إذا كنت في حاجةٍ مرسلا ** وأنتَ بها كلِفٌ مغرمُ فأرسلْ حكيمًا ولا تُوصه ** وذاك الحكيمُ هو الدرهمُ!

ولعلي أستطيع الآن أن أرى سببًا آخر للعلاقة بين التدخين والقراءة عندي، أو بينه وبين الثقافة، فقد كان أكثر المثقفين الذين أطالع كتبهم صباحَ مساءَ مدخنين، فللتدخين إذن مدخل في البناء الثقافي للمفكر، ولم تكن نفسي تستسيغ آنذاك أن يبلغ المرء رتبة العقاد أو طه حسين مثلا في العلم والأدب والفكر دون أن يدخن السجائر كما دخنا. وزاد الأمرَ ضِغثًا على إبَّالة أني كنت قد طالعت بحثًا (شرعيًّا) ـ أو هكذا خيل إليَّ، ولعل ذلك لأن كاتبه كان معدودًا من الشيوخ عن حكم التدخين، وخلاصة القول فيه أنه مباح؛ إذ لم يرد فيه نص صريح بالحرمة، والأصل في الأشياء الإباحة. والحق أن الاستدلال كان مهترئًا، واهي الأركان كعقل المستدِل، لكنه وافق هوىً في نفس الفتى لم تقمعه آنذاك فتوةُ العلم، فاعتقد أنه إذا دخن فقد أتى أمرًا مباحًا، وأنه إذا أنفق المال (الكثير) في شراء السجائر فقد أنفقه في مباح، والمباح لا أجر فيه ولا وزر…لكن البحث المشئوم لم ينته عند الإباحة، بل جعل يذكر فضائل التدخين في أبيات ركيكة مختلة، لم أزل أحفظها من طول ما رددتُها على مسامع من كانوا يخاصمونني في شأن التدخين:

قالوا في الدُّخَان قبحٌ ** قلت : ما به قباحه! فهو يجعل الجسم في نشاطٍ ** أيضًا، ويعين على الفصاحه ولم يرد فيه نصٌّ ** والأصل في الأشياء الإباحهْ

وهذه العلاقة بين التدخين والثقافة تشبه تلك التي يذكرها الناس بين العُرْي والحضارة، فالمرأة ـ مثلا إذا سَفَرَت، وتكشفت، وأبدت محاسنها، واجترأت، ونزعت عن وجهها إهاب الحياء، فهي المتحضرة في رأي مثقفينا، وعَكْسُ هذا بعكس ذاك، حتى لقد سمعت ممثلا شهيرًا جعل السفور والحجاب فيصل التفرقة بين التحضر والتخلف، فقلت لجلسائي ساخرًا على طريقة أهل الجدل: فيلزم من ذلك أن هذه المحتجبة تكون متخلفةً ما كانت خارج بيتها، فإن هي عادت إليه، ووضعت حجابها، عاد إليها تحضرها!

أيُّ سُخْفٍ هذا؟!

لكنها العقولُ.. حين ترضى بالهوى مطيهْ.. تُفسد القضية!

فمن آيات تقدم الغرب في رأي هذا الممثل عُري نسائه، وهذه الحرية التي لا تعرف وازعًا من دين، ولا قيدًا من خلق، ولا ناهيًا من عرف، فإذا أردنا أن نلحق بهذا الغرب المتقدم، لزمنا أن نسلك السبيل التي سلك. ولا أدري من أين ظننا ـ نحن الشرقيين ـ أن المشابهة في الشِّيات الظاهرة تقتضي المماثلة في الحقائق الغائرة؟! بل يبدو لي أن هذا النمط من الظنون مطبوعٌ عليها كثيرٌ من الناس، وأنها لا تختص بالشرقي دون الغربي. ومن هذا الباب شبّه أناسٌ الله بخلقه، وظنوا أن الاشتراك في النسبة يقتضي الاشتراك في المنسوب، فالنسبة هي هذه الشية الظاهرة، والمنسوب هو هذه الحقيقة الغائرة، والاشتراك الذي أريد به الهداية في الأولى كان مزلةَ القدم في الثانية.

على أن لكلمة الممثل السابقة وجهًا من الحق في رأيي، لكن من غير المعنى الذي أراد. فالذي بلوناه من أمر الحضارة الحديثة دلنا على أنها تقتضي من أصحابها ما اقتضت في شأن الدين والأخلاق جميعًا. وإن تعجبٌ فعجبٌ ظنُّ طائفة كبيرة من (أصحاب الوسطية الإسلامية) أن بوسعنا أن نأخذ عن الغربيين (تقدمهم) المادي، ودينُنا وثقافتُنا وهويتُنا بنجوة من السوء، وهذا شرُّ وهمٍ انطوت عليه عقول المسلمين ونفوسهم في هذا الزمن الأخير. ولقد أذكر أن عالمًا عرض على نابليون كتابًا له ضمَّنه عدة فروض في نشأة الكون، ليس من بينها أنه مخلوق لله، فسأله نابليون عن سبب غيبة هذا الفرض عن كتابه، فأجابه العالم: هذه صفحةٌ طُويت!

وكانت هذه هي البداية..

يقول المفكر الفرنسي الكبير رينيه جينو (René Guénon) في كتابه (الشرق والغرب):

تبدو الحضارة الغربية الحديثة على صفحة التاريخ بينة الشذوذ، فهي تنفرد ـ دون كل الحضارات التي عرفناها ـ بأنها تسلك في تقدمها مسلكا ماديًّا محضًا، وصحب هذا التقدمَ الشائه ـ الذي وافقت بداياتُه ما اصطُلح على تسميته بعصر النهضة ـ ما لا انفكاك له عنه من انحطاط فكري (حِكْمِي) يقابله، ولا نقول «يعادله»؛ إذ لا مناسبة بين المجالين. لقد بلغ هذا الانحدار مبلغًا جهِل معه الغربيون المعاصرون معنى الحكمة المحضة، وغدوْا لا يساورهم الشك في أنها شيءٌ لا وجود له؛ ولذلك لم يكن ازدراؤهم لحضارات الشرق وحدها، بل كذلك للقرون الوسطى الأوربية التي جهلوا روحها جهلا شبه مطبِق. وكيف يفهم فائدةَ المعرفة النظرية المحضة من لا يرى الذكاء إلا وسيلةً يسيطر بها على المادة، ويسخرها في أغراض عملية، ومن لا يرى للعلم ـ على نحو ما يفهمه من معناه المحدود ـ قيمةً إلا بمقدار ما ينتفع به في الصناعات؟!

هذه روح الحضارة الحديثة، وهذه فلسفتها، فإذا أردت أن تجني الثمرة، فلا بد من أن تلقي البذرة أولا، والقاعدةُ التي لا تتخلف: خذ كل شيء أو دع كل شيء! ولا ينبغي لعاقل أن يغترَّ بتلاقح الحضارات في العهود الغابرة، ولا بما يتردد في الكتب وعلى ألسنة المصلحين من أن المسلمين أفادوا من الفرس والهند واليونان، فإن هذا ـ مع كونه حقًّا في نفسه ـ مما يتغير فيه القول بتغير الزمان. وفي الحق أن أَفْسَدَ قياس في التاريخ بعد قياس إبليس في قوله: «أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين» إنما هو قياس وضعنا الحضاري الحالي بما كنا عليه في إبان ازدهار حضارتنا في الماضي؛ وذلك لسببين:

أحدهما: ما أسلفته نقلا عن جينو من «شذوذ» الحضارة الحديثة على صفحة التاريخ الإنساني في جنوحها العارم نحو المادية الصرفة، فهي لا تعرف غيبًا، ولا تؤمن بغيب، فليس لأصحابها إلا ما يرون ويسمعون، وما سوى ذلك فهراءٌ لا ينبغي أن تُضيَّع في ذكره الأوقات. والسابقون لم يكونوا كذلك، بل لم يزل أصحاب الحضارات ـ مهما تفرقت بهم السبل ـ يتعلقون بفكرة “الغيب”، غير أنهم يضلون في تأويلها، لكن أصل الفكرة راسخ في النفوس، محفوف بالإكبار والتقديس، والإيمان بالغيب أصل الأصول، فإن الله تعالى غيب الغيوب.

والأمر الآخر: أن أَخْذَ المسلمين عن الفرس واليونان يباين أَخْذَنا عن الحضارة الحديثة من وجهين: أولهما: أن أخذَ أسلافنا زانتْه عزةُ الغالب، بينما شانت أخذَنا ذِلةُ المغلوب، وليس الغالب والمغلوب سواءً في قوة الحال عند التلقي. وثانيهما: أنا كنا نأخذ في الماضي عن حضارتين متوقفتين، فهو تراث فكري ثابت، لم يكن أصحابه يضيفون إليه شيئًا في ذلك الزمان؛ فلذلك أنعم علماؤنا النظر فيه بتؤدة وروية، ومحصوا ودققوا، وعرفوا وأنكروا، وأخذوا وتركوا، وهم على بصيرة من الأمر. وليس الأمر كذلك الآن؛ فإن الحضارة الحديثة هي الحضارة القائمة، وهي في لهاث مستعر، تستجدُّ كلَّ يوم، بل كلَّ ساعة أشياء لم تكن، ونحن من ورائها في عَدْوٍ محموم، تتابع فيه الأنفاس دون أن نتبين للشوط حدًّا أو للطريق غاية، كأننا ذيل لرأس يجرنا إلى الهاوية! إن جوهر الحضارة الإسلامية أن تردك الكثرةُ (الأكوان) إلى الوحدة (المكوِّن)، وجوهر الحضارة الحديثة أن تردك الكثرة إلى الكثرة، فإذا الإنسان الحديث غارق في الأكوان، كحمار الرحى، يدور والمكان الذي انتقل عنه هو الذي انتقل إليه.

من أجل ذلك قلت إن لكلمة الممثل التي نقلتها آنفًا وجهًا من الحق، لكن على المعنى الذي أردتُّ، لا على المعنى الذي أراد. بقيت هذه الرابطة بين السيجارة والثقافة ماثلة في نفسي حتى توفيت أختي – رحمها الله – بعد أن ألمَّ بها داء عَيَاء، جعلت تتهاوى معه أركانُها يومًا بعد يوم، كجدارٍ يُنقَضُ لَبِنةً لَبِنةً! وحل الموت بدارنا.

ربَّاه! للموت جلالٌ لا يُنكرْ.. وهو القادمُ قطعًا.. لا يتقدمُ.. لا يتأخرْ! ومع إيماني بذلك، قلت في نفسي: فلا أقل من اجتناب دواعيه! فأزمعت ذات مساء أن أكف عن التدخين، وألقيت علبة السجائر في الطريق، لكن الأمر لم يكن يسيرًا كما توهمت، بل وقع لي ما لم يكن في الحسبان.