محتوى مترجم
المصدر
The Guardian
التاريخ
2014/11/12
الكاتب
تيري إيجلتون

يقال أن وجه «جان بول سارتر» اصفرّ دهشةً عندما وصل رفيقه من ألمانيا مهرولًا بأنباءٍ تفيد أنَّ بوسع المرء استخلاص الفلسفة من منفضة الغبار. في هذين الكتابيْن الجديديْن؛ علّة في الفردوس Trouble in Paradise، و الارتداد المطلق Absolute Recoil، تتجلّى فلسفات سلافوي جيجك Slavoj Zizek بالشيء الكثير من روحه في الحديث عن الجنس، والقهوة المنزوعة الكافيين، ومصاصي الدماء، وهنري كيسينجر، ووقعِ الموسيقى، والإخوان المسلمين، ومعدلات الانتحار في كوريا الجنوبية، والسُبَاب، وحصة لا بأس بها من أشياء أخرى.

وإن كان ثمة لا نهاية لعشوائيته الفكرية، فهذا يعزى إلى كون جيجك يعاني بلِيٍّةً يندرُ أن تصيب أحدًا؛ ألا وهي الانهمامُ بكل شيء. في بريطانيا، يميلُ الفلاسفةُ للفصل بين الأكاديميين الذي يكتبون لبعضهم بعضًا، وبين تجار معنى الحياة الذين يسطعون بتأملاتهم على الناس العاديين. وجزء مما يميز جيجك أن لديه كلا الأسلوبين: فهو باحث حصيف متأثر جدًّا بـ كانط من جهة، ومن جهةٍ أخرى بـ هيدجر الذي كان لديه هو الآخر شغف لا متناهٍ بمسائل الحياة اليومية.

يتعاطى بذات الأريحية مع كل من هيجل و آلفريد هيتشكوك، كما مع السقوط من جنة عدن وسقوط مبارك. وإن كان يعرف عن ريتشارد فاغنر و آرنولد شونبيرغ، فهو أيضًا مستهلك نهمٌ لأفلام مصاصي الدماء وخيال الجريمة. والكثير من قرائه عرفوا كيف يفهمون فرويد ونيتشه بواسطة استشفاف فلسفاتهما من سلسلة أفلام الفك المفترس Jaws أو سلسلة ماري بوبينز.

بوسع الفلاسفة الأكاديميين أن يكونوا مُبهمين، بينما يهدف مروجو الأفكار Popularizers للإيضاح التام. وبإصراره على تعرية المتناقضات، فإن جيجك لديه كلا الأسلوبين. ولئن كان يصعب هضم بعض أفكاره؛ فإن أسلوبه في إيصالها لا يخلو من الوضوح. كتابه الارتداد المطلق Absolute Recoil، مليء بالأمور العصيّة على الفهم، بيد أن كتابه الآخر علةٌ في الفردوس Trouble in Paradise، ينبئ عن الوضع السياسي في مصر والصين وكوريا وأوكرانيا والعالم بلغة نثرية رقيقة جدِّ متقنة كانت لتفخر أي صحيفةٍ بنشرها، وإن كان هذا لا يعني؛ نظرًا لآرائه الاستفزازية، أن الكثير من الصحف ستُقْدم على هكذا خطوة.


الأصولية الدينية والرأسمالية الليبرالية

يرى جيجك العالم مُقتسَمًا بين الرأسمالية الليبرالية والأصولية، بكلماتٍ أخرى، بين أولئك الذين يؤمنون قليلاً وأولئك الذين يؤمنون كثيرًا. وعوض الانحياز لأحد المعسكرين، نراه يلقي الضوء على التواطؤ الخفي بينهما. فالأصولية هي المعتنق القبيح لأولئك الذين يشعرون بالفشل والإذلال من قبل الغرب الذي لطالما بدد أحلامهم. والدرس الوحيد من الثورة المصرية، يشدد جيجك في كتابه علة في الفردوس، أن باستمرار تجاهل الليبراليين المعتدلين لليسار الراديكالي «فإنما هم بذلك يولّدون موجة أصولية تكتسح كل شيء». إذ أن إسقاط الطغاة، وهو المطلب الذي يهتف له كل الليبراليين الأخيار، ببساطة، مقدمة السعي الدؤوب صوب التحولات الاجتماعية الجذرية، والتي بدونها تكون عودة الأصولية. في عالمٍ كل شيء فيه تحت رحمة رأس المال، فإنّ السياسات الردايكالية وحسب ما سينقذ كل ما هو ذو قيمة في الإرث الليبرالي. إنه لا عجب إذن أن جيجك ليس بذات الشهرة على القناة التلفزيونية الرابعة كما هو حال حراك احتلوا وول ستريت Occupy Wall Street.

في أي حالةٍ كانت، فإن حرية السوق والأصولية الدينية أبعدُ ما تكونان عن التنافي. فـ «القيم الروحية» في البلدان الآسيوية وُظّفت لغاياتٍ رأسمالية. كما وتجدر إعادة النظر في التضادّ الخادع بين تساهلٍ ليبرالي وقمعٍ أصولي. فصعود الفاشية الإسلامية، يشير جيجك، قد تآزر يدًا بيدٍ مع غياب اليسار العلماني في البلدان الإسلامية، غيابٌ عمل الغرب ذاته ما بوسعه لتعزيزه. من كان ليجول في خاطره اليوم أنّ أفغانستان قبل أربعين سنة كانت دولةً علمانيةً منيعةً بحزبٍ اشتراكي قوي استولى على السلطة بصرف النظر عن مساندة الاتحاد السوفييتي؟ إن كل ظهور للفاشية، كتب والتر بينامين، يحملُ شاهدًا على ثورةٍ وُئدت. في العالم الإسلامي، لعب الغرب دورًا كبيرًا في الدوس على هكذا حركات، مُحدثا لقاحًا سياسيًّا مكّن الأصولية من التحرك فيما بعد. فليس بوسعه ادعاء البراءة عن ماضيه الوحشي في خلقِ الاحتدام الإسلامي الحاصل اليوم. أولئك الذين يعزفون عن انتقاد الديمقراطية الليبرالية، يقترحُ جيجك، ينبغي عليهم فعل الشيء ذاته في الحديث عن الأصولية.


جهوري؛ مخبول قليلا، ويستحيل أن يخرس تقريبا. جيجك رجل ينهض من فراشه ليتحدث عن التحليلات النفسية ويعود إليه وهو يثرثر عن الصهيونية. وبوصفه ناشطًا فكريًّا مضطربا، يبدو جيجك دائمًا كما لو كان يعيش في ست أماكن على الكوكب دفعةً واحدة. كما لو كان سقراط بعد تناول منشطات الستيرويد. وقد يبدأ نهاره بزيارةٍ لـ جوليان أصانج في سفارة الإكوادور ويختتمه بكتابة رسائل دعمٍ لإحدى عضوات فرقة شغب الفروج Pussy Riot المسجونات، وفيما بينهما، سنجده يُعادي فئةً لا يستهان بها من سكان الكوكب.

ولئن كان متسلطًا على النيو-رأسمالية، فهو أيضًا فارس محلّف للتعددية الليبرالية والتصويب السياسي. يسرد جيجك كيف أنه في ندوةٍ أمريكية جدّ مستنيرة حضرها، شرع المقدم بسؤال المحاضرين عن أسمائهم وميولهم الجنسية، فقاطع جيجك المقدم ليعلن أنه لطالما استمتع بتنويم الفتية الصغار وشرب دمائهم، ويضيف مُنَوّها: كم كانت لتقلّ جرأة المشاركين بالندوة لو طلب منهم الإفصاح عن رواتبهم.

قد يكون كل هذا لأنه قادمٌ من سلوفينيا. فالدول الصغيرة تميل لأن يكون لديها علاقة ضدية مع الدول الأكبر منها. كما يستطيع أن يشهد كلّ من اطلع على أعمال الأيرلندي أوسكار وايلد، ثمة رشَّةٌ من الدبليني (نسبة إلى مدينة دبلين عاصمة إيرلندا) في جيجك. رجل لا يطيق أن يسمع تعبيرًا عاطفيا إنجليزيّا مستقيمًا دون الإحساس بحكةٍ لا تقاوم لِلَيِّ كلماته وتمزيق أحشائه والوقوف على رأسه. لكنّ جيجك؛ بإطلالته المتجهّمة القريبة إلى منفذ اغتيالاتٍ مأجورٍ في تراجيديا من العصر الجاكوبيني (المترجمة: Jacobean era في القرن السادس عشر وشهد سلسلة محاولات اغتيال لملك سكوتلندا جيمس الخامس، باءت جميعها بالفشل). يفتقر إلى أناقة وايلد وتألقه، وحسه المميز بالدعابة. جيجك مضحكٌ لكنه ليس ظريفًا. يروي بعض النكات الممتازة ولديه حسٌّ كحد السيف ضد العبثية، لكن المرء يعجز عن استخلاص كتاب إبيجراما (نوع من الكتابة التي تميل إلى وضوح الفكرة والإيجاز والتي تشتمل على حكمة أو مفارقة ما) من كتاباته، بعكس ما يمكن لقارئ أوسكار وايلد أن يفعل. كلا الرجلين، مع ذلك، مفنّدان ومفكّكان بالفطرة، لديهما حساسيةٌ تجاه النبرة الأخلاقية المرتفعة والمتعة المضجرة الخالية من الآثام. برغم ذلك، فإنّ إلحاحه على التفريغ والتشويه يأتي بمنأًى عن الكلبية Cynicism (مذهب يقوم على مجاراة الطبيعة وعدم المبالاة بالعرف). وبتميز، فإنه يمزج الرؤية التراجيدية لفرويد بإيمان ماركس بالمستقبل.


علة في الفردوس و الارتداد المطلق

يشدد جيجك في كتابه علة في الفردوس، أن باستمرار تجاهل الليبراليين المعتدلين لليسار الراديكالي «فإنما هم بذلك يولّدون موجة أصولية تكتسح كل شيء».

ومثل بقية أعماله، فإن هذين المؤلَّفين الأخيرين ما بعد حداثيان شكلا، مناوئان لما بعد الحداثة موضوعًا؛ لدى جيجك انتقائية ما بعد الحداثة بالترافق مع مزجها المألوف بين تصنيفاتٍ تتفاوت في مستواها صعودًا وهبوطًا. كتبه غير متماسكة تثب بعصبيةٍ من موضوعٍ لآخر. الارتداد المطلق الذي يترنح ثملاً بين أفكارٍ عن الهستيريا والفن والمعرفة المطلقة والله والموت والسقوط من جنة عدن. عنوانه الفرعي: «نحو تأسيسٍ جديدٍ للمادية الدياليكتيكية». بيد أنّ هكذا عنوان هو تدليس مفضوح، فثمة القليل فقط من الإشارات للمادية الدياليكتيكية في 400 صفحة من الكتاب. كتب جيجك وفصولها يندر أن يكون فيها ما يقال أنه فيها، بما أنه لا يملك ألا يقول 50 شيئا دفعة واحدة. هو ما بعد حداثي، أيضا، بشكه في القِدم، فحصة كبيرة مما قاله كان قد قيل قديما، وليس من قبل آخرين إنما من قبله هو شخصيًّا. قطعٌ بأكملها من كتابه الارتداد المطلق عاودت الظهور في كتابه علة في الفردوس، وقطع بأكملها من كتابه علة في الفردوس ظهرت مرتين في الكتاب ذاته. لقد ألقى النكات ذاتها. أعاد تصنيع الحِكَم وسرد النوادر ذاتها آلاف المرات.

لا شيء أزودُ من تعددية ما بعد الحداثة إلا سياسات جيجك الثورية المتعنّتة. إنها علامة عجيبة على تبدل الزمن، أن يكون أشدّ مفكري العالم شهرةً، اشتراكيًّا مخلصًا

جانب ما بعد حداثي آخر في أعماله، هو الخلط بين الواقع والوهم. أسوة بمعلمه جاك لاكان، فلا أحد يخدع نفسه بقدر ما يفعل كلبيٌّ يزعم أنه عرف حقيقة الأشياء، جاهلاً بالادعاء الفرويدي أن الوهم (أو الخيال) مدمجٌ في الواقع نفسه. وهو ما ينطبق على كتابات جيجك. فهل كتبه جدالات حقيقية أم أنها مجرد استعراض؟ كم هو مقدار الصدق الذي يضمره؟ إن كان ألمعيًّا يخطف الأنفاس فإنه بوسعه أيضًا أن يكون مفرط الاستهتار. أيمكنه أن يكون بالفعل جادّا حين يدعي في كتابه علة في الفردوس أن «أسوأ ما في الستالينية هو أفضل من أفضل دولةٍ رأسمالية ليبرالية ينعم مواطنوها بالرخاء»، أم أنه كان يرمي إلى ترويع سكان الضواحي؟، أيعتقد بالفعل أن جرائم أصانج (مؤسس ويكيليكس) الجنسية المتهم بها فعل «بسيط»؟، أو خذ/ي حقيقة تشديده على الاحتمال الراديكالي للديانة المسيحية، ويعيد التشديد عليه في علة في الفردوس، برغم حقيقة أنه أعلن بأن إلحاده كان خيارًا شخصيًّا عن قناعة. إنها ليست، مع ذلك، مسألة أن يكون المرء مسيحيًّا ظاهريّا وملحدًا في الواقع، عوض أن يزعم أنه يؤمن ولا يؤمن بالمسيحية في الوقت ذاته. أو ماذا إن كان يظن أنه ملحدٌ لكنه واقع الأمر ليس ملحدًا؟، ماذا لو كان الإله الذي لا يؤمن به يعرف أنه مؤمن؟.

جيجك نفسه خليط مثير بين الوهم والواقع. في علة في الفردوس، يتحدث عن هاملت في دوره كمهرج، هو نفسه مفكر ومهرج. إن مهرجي شكسبير مدركون لعدم واقعيتهم. وجيجك يبدو هكذا، أيضا. بالنسبة لرجل تبدو كلمة «ملوَّن» كما لو أنها ابتكرت له خصيصا، فجيجك شخصية ملهمة لا تتورع عن السخرية من أفكارها الملهمة التي تأتي بها، هو جِدُّ صارم وفي الوقت نفسه مؤلف بارادويا (محاكاة ساخرة) متمكن يحيل أفكاره الخاصة لسخريته الخاصة. ثمة شيء خيالي، عظيم، في طرائفه المستمرة العابرة للقارات والمتوهجة. كما لو أنه ضلّ طريقه من إحدى روايات دافيد لودج. شهيته الكبيرة للأفكار لمثيرة للإعجاب لكنها أيضا مقلقة بعض الشيء، ولن يدهش المرء أن يعرف أنه عيّن من قبل لجنة بحثية ولجنة اختبار منتجات في الوقت نفسه على مجموعاتٍ طلابيةٍ مختلفة.

حينما يتعلق الأمر بالمحتوى، مع ذلك، فلا شيء أزودُ من تعددية ما بعد الحداثة إلا سياسات جيجك الثورية المتعنّتة. إنها علامة عجيبة على تبدل الزمن، أن يكون أشدّ مفكري العالم شهرةً، اشتراكيًّا مخلصًا. إن الدرس المستخلص من علة في الفردوس: من نهاية التاريخ إلى نهاية الرأسمالية، جليّ: ثمة «عصر مظلم آخر يلوح في الأفق، مع عواطف دينية وإثنية تتفجر، ومع انحسار القيم التنويرية». أسلوب جيجك معروفٌ برفضه الصارم للانفعال العاطفي، سمة ما بعد حداثية أخرى؛ حتى بالنظر لحقيقة أنه بالكاد يستطيع أن يضبط اشمئزازه من رؤية المصرفيين الحرامية وهم يمتصون أموال ضحاياهم المنكوبين. كما قال بيرتولت بريخت ذات مرة: «ماذا تساوي جريمة سرقة بنك أمام جريمة إنشائه؟».

علة في الفردوس، برغم رغيه عن الانحراف السياسي، هو كتاب كل شخص، ليس أقلّهم أسياد الكون (المترجمة: Masters of the Universe إحدى أفلام وشخصيات الخيال العلمي المحببة لدى جيجك)، سيستفيد من قراءته. الارتداد المطلق، بتأملاته الملتبسة في المادية الدياليكتيكية، قد يكون قراؤه أقلّ. ثمة انحراف أقل وكانط أكثر. برغم أنه يحوي أشياء ممتعة مثل الكابالا وسرديات العبودية والجاسوسية والموسيقى الحرة والله والجريمة العليا. مما لا شك فيه أن علينا إفساح وقتٍ للقراءة في هذا كله مجدّدًا في كتبه القادمة.

المراجع
  1. Terry Eagleton reviews Trouble in Paradise and Absolute Recoil by Slavoj Žižek