لا خلاص خارج المسيح.

هذه هي الجملة التي وردت على لسان الأب مكاري يونان في معرض رده على الشيخ سالم عبد الجليل بعد العاصفة التي أثارها تصريحه الأخير حول كفر المسيحيين وفساد عقيدتهم. ونستطيع القول إنها امتداد لعبارة القديس أوغسطين: «لا خلاص خارج الكنيسة»، وإن كانت الكنيسة الكاثوليكية تجاوزت – نسبيًا- حصرية الخلاص. إلا أن الكنيسة اللوثرية تشددت بشكل أكبر في الحصرية، ويكفينا التصريح الذي نشره مجلس التبشير العالمي بشيكاجو 1960، ونشره الفيلسوف المسيحي جون هيك في كتابه «الإله وكونية الأديان»:

في السنوات التي تلت الحرب ذهب أكثر من مليار من البشر إلى العالم الآخر، وذهب أكثر من نصف هؤلاء إلى عذاب الجحيم من دون حتى أن يسمعوا بالمسيحية.

وإزاء هذه التصريحات نجد النص القرآنى يُخَطّئ العقائد الأخرى باعتبارها باطلة، وباعتباره رسالة الله الأخيرة للبشرية المهيمنة على ما سبق من رسالات، ومبيِّنًا ما فيها من تحريف أو تزييف.

يمكننا تعريف الحصرية بشكل مبسط بأنها دعوى دينية مفادها انحصار الطريق إلى الله في ذاتها، وأن كل الطرق الأخرى غير موصلة إلى الله أو نعيمه، وأن عقائدها هي المحتوى المعرفي الوحيد الذي يطابق الواقع بالنسبة للحقيقة الإلهية، وأن محتواها التكليفي معبر عن إرادة الله – الشرعية لا القدرية -، وبناءً على ما سبق لا يتم الخلاص النهائي إلا عن طريقها حصرًا. ولاختلاف الرؤى الدينية ما بين ديانة وأخرى، سأركز على هذه المعاني بين الإسلام والمسيحية.

نستطيع القول بأن الاسلام قد ظهر في محيط متعدد الديانات ما بين مسيحيين ويهود وحنفاء – تيارات متعددة – وديانة المكيين (الوثنية). ونستطيع القول بأن القرآن تجادل مع الديانات السابقة – عدا الحنفاء – في محيطه الجغرافي باعتباره الحق الأوحد وطريق الخلاص الحصري، وكذلك قدم نفسه باعتباره رسالة الله الأخيرة؛ مما يعني ضمنيًا إلغاء أي ادعاء مقبل بالرسالية: «ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين» [آل عمران: 85]، وكذلك المسيحية ظهرت في محيط تعددي وسط اليهود وديانات الرومان وادعى حصرية الخلاص: «أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس لأحد يأتي إلى الآب إلا بي» [يوحنا: 14:6].

يمكننا تحليل الأزمة على عدة مستويات:

المستوى الأول: الادعاء بامتلاك الحقيقة النهائية على نحو حصري

تدعي العقيدة المعينة – بهذا السياق – أنها معرفة مطابقة للواقع. فالإسلام يدَّعي أن الحقيقة النهائية هي إله واحد خالق كل شيء، خلق البشر لاختبارهم وأرسل الرسل لهدايتهم، وسيحاسب الله البشر يوم القيامة على تصديقهم للرسالات وعلى أعمالهم في الدنيا. وقد أرسل الله رسالته الأخيرة الهادية للبشر جميعًا عن طريق رسوله محمد (صلى الله عليه وسلم)، والتي من شأنها تصحيح مسار الديانات التي زُيفت وحُرفت من قبله.

في حين أن الحقيقة النهائية في الديانة المسيحية هي إله واحد ثلاثي الأقانيم، خلق آدم أول البشر، وهو الذي عصاه فأورث ذريته الخطيئة، ولم يتم الصلح مع الله إلا بإرسال المسيح الذي صلب كفداء لخطيئة البشر.

يتمحور هذا المستوى حول الاختلاف في الحقيقة النهائية، وبالتالي – مع تعدد الحقائق المبشر بها – تستحيل صحة أكثر من حقيقة واحدة، وتدَّعي كل ديانة أنها تملك العقيدة الصحيحة. وبالتالي يلزم من هذا التصريح فساد «كل» الحقائق الأخرى، سواء تم التصريح بهذا أو لم يتم.

هذا المستوى غير قابل لأي رؤية توفيقية لأنها بالضرورة تخالف قانون البداهة (استحالة التناقض). المحاولة الوحيدة التي تتجنب التناقض هي المحاولات التي تذهب إلى نسبية الحقيقة الدينية، وهذا يستلزم تحويل فكرة «الحقيقة النهائية» إلى «وجهات نظر حول الحقيقة النهائية». ولكن هل يصح القول بنسبية الحقيقة النهائية للدين المعين مع الإيمان بمضمون رسالة إلهية أنزلت لحل الخلاف بين البشر ولتصحيح عقائدهم، لاسيما وأن هذا التصحيح يعد خطًا رئيسًا كليًا بحيث لا يمكن عزو الاختلاف فيه إلى اختلافات تفسيرية لذات النص؟.

المستوى الثاني: مستوى «الخلاص»

الخلاص تعبير يشيع في الأدبيات المسيحية ويعني التنعم بالملكوت الإلهي عن طريق قبول يسوع كمخلّص شخصي، وتدعي كل كنيسة (فرقة) أنها السبيل الصحيح للشركة مع المسيح مع اتفاق عام على أن الخلاص لا يتم إلا بقبوله مخلِّصًا شخصيًا.

وتتبدى فكرة الخلاص إسلاميًا بالاستسلام الكامل لله والخضوع له والتصديق بوجوده ووحدانيته وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر من خلال التصديق برسالته النهائية «القرآن» المبلّغة وحيًا لنبيه محمد (صلى الله عليه وسلم)، ثم العمل الصالح بمقتضى المحتوى التكليفي للقرآن. والخلاص ذاته هو اجتياز الحساب النهائي والتنعم بالجنة والعتق من النار: «فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز» [آل عمران].

والسؤال هنا هل بالإمكان الوصول للخلاص الأخروي بطرق أخرى غير الإيمان بالديانة المعينة؟، هذا السؤال أضحى ملحًّا مع الاختلاط الثقافي بين الأمم، ومنبع التساؤل هو أن كل ديانة بها الصالح والطالح، وبها المخلص والأفّاق، وبها من يفيد البشرية وبها من يضرها؛ فثار التساؤل: هل يستحق الطيبون النعيم الأخروي بناءً على صلاح نياتهم وأعمالهم دون النظر لدياناتهم؟، وهل من العدل الإلهي جعل الخلاص معلقًا على صدفة جغرافية محضة؟، وكذلك ثار تساؤل آخر: وماذا عن من لا يعلم بشكل كافٍ عن الديانة الصحيحة، أو بلغته بلوغًا مشوهًا، أو اجتهد فلم يصل للحق؟.

اختلفت الرؤى المسيحية حول إمكان الخلاص للطيبين من الأمم الأخرى غير المسيحية، وشكلت الحداثة ضغطًا بثقلها الثقافي على محاولات الإجابة، فمن التيارات المسيحية من تشدد في مبدأ «لا خلاص خارج الكنيسة»، مثلما نرى في إعلان فرانكفورت 1970 الذي دعا غير المسيحيين إلى «التحرر من قيودهم السابقة وآمالهم الخاطئة والإيمان بالمسيح والتعمد باسمه لأن عبره فقط يمكن تحصيل الخلاص الأبدي»، وبين أصوات أكثر هدوءًا مثل الكنيسة الكاثوليكية، أو أصوات فردية كقول شلاير ماخر: «إن الخلاص النهائي يكمن في الأديان الأخرى بأشكال متفاوتة لكن إنجيل يسوع المسيح ذروة الوعي الديني الكوني»، ومثلما فعلت المدارس الشمولية والتعددية.

بالنسبة للإسلام السني الأشعري، فقد أعذر الجاهل بالرسالة قياسًا على «أهل الفترة»، وهو مصطلح في الأدبيات الاسلامية يدل على فترة فتور الرسل بين المسيح ومحمد، وهؤلاء قد أعذرهم الأشاعرة بالجهل وبناءً على النص القرآني «وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا» [الإسراء]، وقد تنوعت الآراء في مصائرهم بما لا يسعنا بسطه هنا.

أما أهل الاعتزال فقد رأوا أن ما يعرف بالعقل كوجود الله ووحدانيته وصالح الأعمال وفاسدها لا يحتاج لرسالة في تبليغه، وإنما يعرف بمقتضى العقل ويتم الحساب الأخروي عليه. أما المجتهد المخطئ فلا أستحضر إلا الجاحظ المعتزلي الذي أعذره وقريب منه ما نقله الشيخ محمد عبده في تفسيره عن أبي الحسن الأشعري الذي يرى أن عذابه أقل من الجاحد ورجا له الشيخ عبده الخلاص لأنه حاول السعي للحق ولم يصل.

وكذلك فتوى الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق الذي قال بنجاة من لم تبلغه الدعوة أو بلغته بلوغًا مشوهًا لا يحمل على التقصي والبحث. بعد هذه الفتوى جاء كتاب: «بيان للناس» الصادر من الأزهر [ج1، ص292 و293]:

ومن هذا التيار نشأت أقوال فردية تفرّق بين الجهل والجحود، وتنزل آيات العقاب على الأخير حصرًا لأنه أقيمت عليه الحجة وتيقن من صحة الرسالة لكنه كابر جحودًا كفعل إبليس كما حكى عنه القرآن في قصة آدم. واستدلوا ببعض النصوص مثل: «وجحدوا بها واستيقنتها أنفسم ظلمًا» و«لا يكلف الله نفسا إلا وسعها». ولعل هذه الأقوال أقرب إلى فكرة العدل الذي يقتضي التعمد في ارتكاب الجريمة حتى يستحق فاعلها العقاب، ولكن هذا الرأي لا يزال نابعًا من بضعة أفراد في شكل تيارات منفصلة.

المستوى الثالث: كيفية التعامل مع المخالف عقديًا

هنا تفترق المسيحية عن الإسلام من حيث أن المسيحية بطبيعتها ليست ذات محتوى تكليفي مفصّل، وعليه فالتعامل مع المختلف عقديًا ينشأ من جدلية مزدوجة بين المدلول الثقافي المستقى من المستويين الأوليين، وبين المدلول الاجتماعي بحسب الزمن والمكان والظروف والأحداث. فيتنوع التعامل من قمة التسامح حينًا إلى الاعتداءات الدموية التي تمثلت تاريخيًا في عدة حوادث كقتل المهرطقين ومحاكم التفتيش والحملات الصليبية وما إلى ذلك.

أما الإسلام فهو ديانة تحوي محتوى تكليفيًا شموليًا يتبدّى من خلال النص الأساس والروايات الحديثية ومحاولات جمعها وتفسيرها بشكل كلي فيما يعرف بعلم الفقه. وبالتالي، فالتعامل مع الآخر المختلف ينتج من جدلية ثلاثية؛ ما بين فقه أهل الذمة، والانطباع العام أو الشخصي النابع من المستويين الأولين، والمدلول الاجتماعي الناشئ من الظروف والأحداث. وعلى هذا فالجدلية هنا أشد تركيبًا وتعقيدًا بإقحام الطرف الثالث (فقه أهل الذمة).

وغالب الحوارات المشتركة (الإسلامية/ المسيحية) تركّز على الفضائل الأخلاقية العامة تهربًا من مسألة مناقشة المستويين الأوليين العقديين باعتبارهما مسائل عقيدة لا تجوز المجاملات بشأنها وإن كانت – برأينا – تشكّل محورًا هامًا في التعامل مع المخالف عقديًا ولكن بشكل كامن كقاعدة جبل الثلج المغمورة بالماء.

المحور الثالث الإسلامي في جدلية كيفية التعامل هو فقه أهل الذمة كما ذكرنا، وغالبًا لا يتم فتح هذا الباب في المحاورة المشتركة أو بتكثيف الضوء على «ما يمكن البوح به» إزاء النقاط التي تعد سلبية، وهي التي تُعزى – إن تمت المواجهة بها – إلى سوء فهم من الأئمة السابقين تهربًا من مدلولها السلبي على الحوار.

إشكالية الفقه عمومًا هو تشكله في حقبة القرون الوسطى حيث الدول الدينية، أو بالأصح الراعية للدين، التي يمثل الدين لب تكونها، وبالتالي معيار (المواطنة) يكون لأهل الديانة المؤسسة للدولة، ويكون الآخر المخالف مواطنًا من الدرجة الثانية تتشكل حقوقه وواجباته بحسب نصوص الدين وتفسيراتها المختلفة. وهذا يخالف المفاهيم السياسية الحديثة التي تدور حول (حقوق المواطنة) المتساوية لأبناء الوطن الواحد مما يخلق توترًا بين الرؤية الدينية والرؤية السياسية الحديثة.

ويدور الجدل حول بعض المفاهيم النصية غير المقبولة في الدولة الحديثة كمفهوم (الجزية) على سبيل المثال، فترى العناصر الأكثر تشددًا أنها أمر إلهي تكاسل أو تهاون (الحاكم) بشأنه لخفة ديانة أو طاعة للقوى العظمى. في حين أن العناصر الأكثر تفهمًا للواقع تستدعي ما يشبه الحيل الفقهية، كالقول بأن الجزية بديلاً عن الجندية فيما يعرف بـ (البدلية)، وبالتالي ما دامت الجندية تتم بشكل مشترك مع أهل الأديان الأخرى بالوطن الواحد فلا لزوم لها، أو القول بأن (عقد الذمة) قد انتهى بعصر الخلافة، وأن الدولة الحديثة عقدت عقدًا اجتماعيًا جديدًا تُساوي فيه بين المواطنين، وعليه فالحكم لم يصادف محلاً لتنفيذه.

وهذه آليات معروفة تظهر أوان أجواء التوتر الطائفي للتخفيف من حدته، ولكن العناصر الأكثر تشددًا توالى فرض سيطرتها الثقافية بإعادة بث هذه المفاهيم لرجل الشارع؛ مما يقلص الفجوة بين التدين الشعبي- الأكثر انصياعًا لمتطلبات الاجتماع- وبين التدين الأصولى التراثي المنشأ.

حتى هنا كان شرحًا وبيانًا للحصرية ومحاور الأزمة الرئيسة، وفيما يلي تناول الأزمة في الواقع.


الأزمة والدماء

تتجلى الأزمة – بالنسبة لي – في موضعة الآخر كـ «عدو لله» حيث الرؤية الدينية السائدة اثنينية ترى العالم يتكون من عنصرين هما الأخيار والأشرار. وبما أن الآخر تلبّس بمفهوم الكفر الذي يعني كونه ضمن المعسكر الآخر المعادي لله وللدين (نجد تشابهًا يكاد يكون تطابقًا مع اثنينية دار الإسلام ودار الكفر)، فهذا يشغّب على أي رؤية تجعله من (حزب الله).

ويساعد على هذا فهم النصوص التي تناولت الكافرين في فترة العداء عندما تنزل على صاحب العقيدة المخالفة بغض النظر عن سياقات النصوص، حتى نصل إلى لب الأزمة وهي مسألة الدماء. لا أدّعي ألبتة أن النصوص الجهادية أباحت دماء (كل) مخالف للعقيدة، وإنما تناولت أحداثًا تاريخية اتصفت بالصدامية القتالية المباشرة إبان نشأة الدين الإسلامي، ونرى أن تلك النصوص تناولت وقائع بعينها ولم تكن بصدد تأسيس قيم كلية تتعالى عن الزمان والمكان.

بالاستقراء المباشر، نجد حزمتين من النصوص التي تؤسس للتعامل مع الآخر:

الحزمة الأولى:

تأمر بالصبر والتسامح والإعراض عن الأذى، وتأمر بالتبليغ لا بفرض السيطرة: «فذكّر إنما أنت مذكر . لست عليهم بمصيطر)» [الغاشية].

الحزمة الثانية:

هي التى تنزلت إبان العصر المدني، يتناول (أغلبها) مفهوم القتال بشكل مباشر بل وفرض السيطرة أحيانًا. ومن أشهر تلك النصوص ما يعرف بآية السيف «فإذا انسلخ الأشهر الحرم فقاتلوا المشركين كافة…» [التوبة] التي جعلها الفقه حربًا مفتوحة شاملة إلا لذي عهد أو دافع جزية، بل وحثّ على الحرب الهجومية فيما عرف بـ «جهاد الطلب»، وبالتالي العالم خارج ديار الإسلام إما خاضع وإما مستحق للقتال.

الآلية الفقهية استعانت بمفهوم النسخ لإزالة التعارض، وقننت الحزمة الثانية كبديل عن آيات التسامح، بلحاظ أن الغزو المعروف حاليًا بـ «الفتوحات» ساعد – وإن بشكل غير مباشر – على توجيه هذا التقنين في عصر التدوين.

ورثنا جميعًا هذه المفاهيم في العصر الحديث الذي يجرِّم الحروب الهجومية أو يتعلل عنها إن وقع فيها اعتذارًا؛ لعلم المهاجم أن المناخ الثقافي العام يبغض الحروب الهجومية ويجرّمها (لاسيما بعد الحربين العالميتين)، وفي العصر الذي يمتاز بالتعددية ويفاخر بالحريات الدينية والسياسية، مما شكل حاجزًا لم نعتده بعد في علاقاتنا مع العالم أو حتى الآخر المختلف دينيًا. وكلما تناسى المجتمع المفاهيم العدائية مع الآخر، هبت رياح تشددية نصوصية تراثية لتعيد الأزمة مرة أخرى.

ولنأخد أمثلة من كتب التفسير على الربط بين الكفر والقتال:

ما ذكره القرطبي في تفسير: «فإذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» [التوبة]، في كونه حكمًا عامًا إلا فيما ورد النهي عنه في السنة، كالمرأة والصبي، والنهي عن المثلة، واعتبر القعود لهم في كل مرصد دليلاً على جواز الاغتيال. وما ذكره أيضًا في تفسيره لآية الجزية عن أن الجزية عند علماء المالكية وجبت بدلاً من القتل بسبب الكفر، وقال الشافعي وجبت بدلاً عن حقن الدم وسكنى الدار.

حتى النص الذي يؤكد أن القتال يكون في حالة الاعتداء: «قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ»، فقد ذكر أن أحد الأقوال هو أنها منسوخة بآية التوبة وقول آخر بأنها نهي عن قتل النساء والصبيان والرهبان.. إلخ؛ ثم عقّب: «فأما المرتدون فليس إلا القتل أو التوبة، وكذلك أهل الزيغ والضلال، ليس إلا السيف أو التوبة، ومن أسرّ الاعتقاد بالباطل ثم ظهر عليه فهو كالزنديق يقتل ولا يستتاب».

ويقول في تفسيره لسورة التوبة: «الأصل أن القتل متى كان للشرك يزول بزواله»، في عبارة جامعة مانعة تبين الربط بين الخلاف في المعتقد وحل الدم. ثم استدل بالقول المنسوب للنبي في الصحيحين: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإن فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله».

ويقول ابن العربي الفقيه المالكي في تفسير آية: «لا إكراه في الدين»: عموم في نفي إكراه الباطل، أما الإكراه بالحق فإنه من الدين، وهل يقتل الكافر إلا على الدين؟ وقال صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله»، وهو مأخوذ من قوله تعالى «وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله».

ويقول الإمام الجصاص الحنفي عن معنى الجزية: «إن قال قائل من الملحدين: كيف جاز إقرار الكفار على كفرهم بأداء الجزية بدلا من الإسلام؟ قيل له: ليس أخذ الجزية منهم رضًا بكفرهم ولا إباحة لبقائهم على شركهم، وإنما الجزية عقوبة لهم لإقامتهم على الكفر».

هذا عن الدماء؛ أما عن الموالاة أو اعتبارهم في الشهادات فنورد ما يلي:

وكذلك ورد النهي عن موالاة الكافرين، فيقول ابن العربي في تفسيره لنص: «لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء»: هذا عموم في أن المؤمن لا يتخذ الكافر وليًا في نصره على عدوه ولا في أمانة ولا بطانة».

وكذلك في تفسيره لآية: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ»، يقول: «المسألة الأولى: لا خلاف بين علمائنا أن المراد به النهي عن مصاحبة الكفار من أهل الكتاب حتى نهى عن التشبه بهم».

ويقول القرطبي في تفسير نفس الآية: «ثانية: نهى الله عز وجل المؤمنين بهذه الآية أن يتخذوا من الكفار واليهود وأهل الأهواء دخلاء وولجاء، يفاوضونهم في الآراء، ويسندون إليهم أمورهم؛ ويقال: كل من كان على خلاف مذهبك ودينك، فلا ينبغي لك أن تحادثه».

ويقول القرطبي في تفسيره لآية الديْن في سورة البقرة: «(من رجالكم): نص في رفض الكفار والصبيان والنساء». ويقول في تفسيره لآية الجزية حول الكنائس: «وما صولحوا عليه من الكنائس لم يزيدوا عليها ولم يمنعوا من إصلاح ما، وهس منها ولا سبيل لهم من إحداث غيرها».

ويقول ابن كثير في تفسيره لآية المائدة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ»: ينهى تعالى عباده المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى الذين هم أعداء الإسلام وأهله، قاتلهم الله، ثم أخبر أن بعضهم أولياء بعض، ثم تهدد وتوعد من يتعاطى ذلك فقال: «وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».

ويقول الفخر الرازي في تفسير نفس النص: «ومن يتولهم منكم فانه منهم» قال ابن عباس: يريد كأنه مثلهم، وهذا تغليظ من الله وتشديد في وجوب مجانبة المخالف في الدين.

وهذه نقول نقلناها من تفسيرات رائجة ومن مفسري المذاهب الأربعة. قد أطلت في النصوص السابقة، ولكنه غيض من فيض وحسبي من القلادة ما أحاط بالعنق.


خاتمة

وعلى هذا نقول : إن من لم تبلغه الدعوة أصلاً، أو بلغته مشوهة، أو بلغته صحيحة ولم يقصر في البحث والتحري، فهو معذور؛ أي يرجى له عدم الخلود في النار.

ثارت في أوروبا في بدايات الحداثة مسألة الطائفية الدينية والمذهبية، فذهب بعض المفكرين لعلاج الأزمة في مستواها الثالث فيما يعرف بالمواطنة والتعايش، ومع تطاول الزمن تجرأت الكنيسة الكاثوليكية إلى اختراق المستوى الثاني الخلاصي، فقد صدر من المكتب البابوي إلى أسقف بوسطن عام 1949 ما نصه:

فلكي يحصل أحد على الخلاص الأبدي ليس من المطلوب دائمًا أن يكون شريكًا فعلاً في الكنيسة كعضو ولكن المطلوب على الأقل أن يكون متحدًا بها بالتمني والرغبة، إلا أنه ليس من الضروري دائمًا أن يكون التمني صريحًا كما هو عند حديثي الإيمان، فالله يقبل أيضًا عندما يكون الإنسان ضحية جهل لا يقاوم التمني الضمني المسمى هكذا لأنه متضمن في ما للنفس من استعداد حسن يبغي به الإنسان مطابقة مشيئته لله.

وفي الثلث الأخير من القرن العشرين ظهرت مدارس تحاول معالجة المستوى الأول، مثل المدارس التعددية والنسبوية، ولكن المقال لا يصلح للبسط في شرح هذه المذاهب. وانتقلت بوادر التعددية إلى المذهب الشيعي، كما تجلّى في أعمال الدكتور عبد الكريم سروش الذي أثار جدلاً بطروحاته لاسيما كتابه «الصراطات المستقيمة».

أما في عالمنا السني، فما زالت المحاولات تبذل عبثًا في علاج المستوى الثالث فقط، وحتى هذا المستوى يتم دحضه من العناصر الأكثر تشددًا المتمسكة بالتراث.

على سبيل المثال حاول الشيخ يوسف القرضاوى إعادة تفسير النصوص الخاصة بالجهاد في مصنفه الضخم «فقه الجهاد». وفي نفس الوقت، دافع جدًا عن المستوى الأول حين كتبت سراب الحافظ في جريدة «الوطن» القطرية مقالاً يحاول إنقاذ المسيحيين والنصارى من التكفير؛ فرد عليها الشيخ بفتوى مفصّلة في فتاواه المعاصرة، ثم استُلّت هذه الفتوى وجعلت مصنفًا تحت اسم: «موقف الإسلام العقدي من كفر اليهود النصارى».

وقامت محاولات أخرى أقل كفاءة رافضة لتكفير اليهود والمسيحيين بدعوى أنهما من أهل الكتاب. وهذا نوع من الخداع الساذج، فكونهم أهل كتاب لا ينفي تكفيرهم كما يظن. وماذا لو كانت الأزمة مع البهائيين أو اللادينين، بمَ سنحل الأزمة وقتئذ؟.

الإشكال هنا مع الآخر المختلف عقديًا والنابع من عقلية ترى أي تقديس لمقدس آخر أو تقديس المقدس نفسه بصيغة أخرى يدخله في التكفير.

بعدما صرح الشيخ سالم عبد الجليل بتصريحاته التي أثارت جدلاً واسعًا، واتخذت ضده إجراءات إدارية حاسمة كمنعه من الخطابة ونحوه من العقوبات الإدارية، تضامن معه الكثيرون كرد فعل طبيعي كدفاع عن عقيدتهم.

وعلى الجانب الآخر قام بعض رجال الدين المسيحي بالرد عليه، وبعضهم – كالأب مكاري يونان – لمز الجانب الإسلامي بوصفه دخل مصر بالرمح والعصا، وحوّل الناس من المسيحية إلى الإسلام قهرًا، مما سيثير حفيظة الكثيرين لا سيما مع الدعوى القضائية التي أقيمت ضد الشيخ سالم وهي التي لم يفصل فيها حتى لحظة كتابة هذا المقال.

دائرة مفرغة من الفعل ورد الفعل في وقت حرج تنتهك فيه الكنائس بل وتفجر، مما يضع الدولة كلها على أتون من النيران الطائفية التي تشتعل وتزيد.

ليس دفاعًا عما قاله الشيخ سالم، ولكن هل من العدل أن يتحمّل – ككبش فداء – وحده نتاج هذه الأزمة المستفحلة ذات المستويات المركبة والمعقدة؟.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.