تقدِم بعض الجامعات اليوم برامج مخصصة عن فلسفة الموسيقى؟ تناقش هذه البرامج إشكاليات مثل: ما هو تعريف الموسيقى؟ ما الذي يجعلنا نقول على مجموعة معينة من الأصوات أنها موسيقى بينما لا نُعرِف مجموعة أخرى من الأصوات على أنها كذلك؟ ما علاقة الموسيقى بالعقل؟ كيف تؤثر الموسيقى على مشاعرنا وأفكارنا؟ كيف نُقيّم أي قطعة موسيقية أمامنا؟ ما العلاقة بين مقطوعة موسيقية ما وطريقة أدائها؟ ما الذي نقصده عندما نقول أن مقطوعة موسيقية ما «حزينة»؟ من أين ينبع الحزن بالتحديد؟ وما إلى ذلك من إشكاليات. يتم تناول هذه الإشكاليات من منظور تقني للغاية، على سبيل المثال، مقال «فلسفة الموسيقى» في موسوعة ستانفورد للفلسفة على الإنترنت. يتناول المقال الإشكاليات الجاري الحديث عنها في الأواسط الأكاديمية عن الموسيقى.

لن أتخذ هذا المنحنى في هذا المقال. هذا المقال سيأخذ منحنى تاريخي نوعًا ما، متناوِلًا ما قاله بعض الفلاسفة عن الموسيقى. لم أجد على الإنترنت أي مواقع تتناول الأفكار الفلسفية المميزة التي تتطورت عن الموسيقى على مر الوقت. أعتقد أن آخر من أَولَى مكانة خاصة للموسيقى في فلسفته هو الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، والذي توفى عام 1900. وعلى الرغم من أن الموسوعة أتت على ذكر بعض الفلاسفة المعروفين نسبيًا، إلا أنه منذ نيتشه، لم يُولي أي فيلسوف ذي ثِقل مكانة للموسيقى في فلسفته.

الشيء الآخر الذي لفت نظري هو الفجوة الزمنية الكبيرة بين فيلسوفي العصور القديمة فيثاغورس وأفلاطون، والذين تناولا فلسفة الموسيقى، وعودة الموضوع لطاولة الحوار على يد الفيلسوف الألماني غوتفريد لايبنتس في القرن الثامن عشر. بالتالي يتعامل الجزء الأكبر من هذا المقال مع فترة زمنية قصيرة نسبيًا، من 1714 وحتى 1889، وهي الفترة التي برز فيها أسماء فلاسفة عظام – لايبنتس، كانط، شيلينغ، شوبنهاور ونيتشه، وقد كانت الموسيقى ضمن اهتمامتهم.

سنبدأ بالقدماء..


فيثاغورس (570- 495 ق.م)

كان فيثاغورس هو الشخصية الرئيسية في العالم القديم بعد أورفيوس الذي قيل فيه أن موسيقاه كانت تجسيدا للأسرار الإلهية. كان فيثاغورس يؤمن «أن كل الأشياء أرقام: أتت الأشياء إلى حيز الوجود بعدما فُرض نظام حسابي على مكونات الكون والتي كانت غير ذات هيئة». يُعتقد أن فيثاغورس توصل لهذا الاستنتاج بعدما اكتشف أهمية الحساب في الموسيقى. تقول الأسطورة أنه بينما كان فيثاغورس يمر بدكان الحدَّاد، طرب لتناغم (الأوكتاف الخامس والرابع)[1] الناتج عن ضربتين من مطارق بأوزان مختلفة على سندان الحداد. فإذا كانت إحدى المطرقتين تزن نصف وزن المطرقة الأخرى ستحصل على أوكتاف؛ إذا كانت إحدى المطرقتين تزن ثلث الأخرى سنسمع الأوكتاف الخامس؛ وإذا كانت إحدى المطرقتين تزن ربع وزن الأخرى سنسمع الأوكتاف الرابع.

للأسف حسب هذه الحكاية، فإن تردد الأصوات االصادر عن الطَرق لا يتناسب مع وزن الأدوات المستخدمة. إلا أن نظرية النسب هذه قد تكون صحيحة فعلا إذا ما نقرنا على الآلات الوترية في منتصف، ثلث أو ربع المسافة على طول إمتدادها. فالتراكيب الموسيقية والجمال الناجم عنها هي في الأساس نتيجة لنظام متجانس انسلخ بدقة من مجموعة من الأصوات الناشزة. من هذا، استلهم فيثاغورس فكرة «موسيقى الأجرام السماوية»، غير المسموعة بالنسبة لنا، والناجمة عن حركة الكواكب حول الأرض.


أفلاطون (427- 346 ق.م)

ناقش أفلاطون الموسيقى كجزء من التدريب العاطفي الذي سيخضع له الحراس في كتابه الجمهورية (380 ق.م). رأى أفلاطون أنه يجب حظر النغمات الأيونية والليدية [2] التي تثير الحزن وتساعد على الاسترخاء. عوضًا عن ذلك يستطيع الحراس الاستماع إلى الدوريان والفريجين لأنها تثير مشاعر الشجاعة والزهد.

في تاريخ فلسفة الموسيقى تظهر فجوة هائلة من بعد أفلاطون حتى نصل إلى لايبنتس.


لابينتس (1646- 1716)

يشرح جوتفريد لابينتس في كتابه (Monadology 1714) كيف أن تصورات عقلنا الباطن هي ما تُشكل ردود فعلنا ناحية الفن، هذا «الهياج العاطفي» الذي نشعر به ناتج عن علاقات رياضية سرية في الرسم والموسيقى.


كانط (1724- 1804)

بعد ذلك، كتب إيمانويل كانط كتابًا عن علم الجمال وهو «نقد ملكة الحكم» 1790، واصفًا فيه مقومات الجمال بأنها تلك التي تعطينا إحساسًا بالمتعة. إنما تأتي المتعة نتيجة لجمال تلك المقومات نفسها، التي يراها كانط كمفكر كلاسيكي، نتيجة لتجانس المكونات، أو سمو المعاني التي تنطوي عليها لدرجة من العظمة تسمو بنا. الأكثر من ذلك، إنتاج الجماليات، بواسطة أشخاص بالغي العبقرية، نتناولهم كأشخاص على درجة عالية من الكمال، على عكس الحقائق العلمية التي تصل إلينا في شكل عملية عقلانية خطوة بخطوة. أضحت هذه الفكرة هي الجسر المؤدي إلى الرومانسية فيما بعد، وهي حركة طورها المثاليون البارزون أكثر وأكثر.


شيلينج (1775- 1854)

كان فريدريك شيلينج من أوائل المثاليين البارزين، وأول الفلاسفة الذين ظنوا أن الصوت الآلاتي (مميزًا إياه عن الصوت الملفوظ) هو أنقى الفنون وأكثرها روحانية، ليس فقط لأنها أعطتنا نظرة ولو عابرة على المطلق، حسب صياغة شيلينج، بل أيضًا كما قال كانط أن ينطوي شيء ما على حقيقته المطلقة، وخلال تجربتنا له، نجد أنفسنا جزءا لا يتجزأ من هذا الشيء وهذه الحقيقة. يتناول هذه الفكرة بشكل أوسع بعد ذلك:


شوبنهاور (1788- 1860)

لطالما كانت الفكرة المهيمنة في فلسفة شوبنهاور هي أنه لا مفر للإنسان من «الإرادة»، فهي المحرك لكل المخلوقات، وهي فكرة قاسية ومتحجرة، حيث لا قيمة لفرد بعينه في عملية بقاء النوع ككل. ومع ذلك هناك بعض الوسائل التي يمكننا بها تحرير أنفسنا من سطوة الإرادة ولو لفترات وجيزة. يعتبر الزهد والرحمة أحد هذه الوسائل، وهناك أيضًا الفن؛ خاصة في أبهى صوره «الموسيقى». حيث نتأثر شعوريًا بتلك الإشارات الصوتية أو المرئية التي نستمدها من سماع الموسيقى أو رؤية عمل فني؛ هذا الشعور أننا وشيء ما أصبحنا واحدًا فيما وراء أنفسنا، هذه هي الإرادة الخالدة. كذلك نصف هذه التجربة بشكل آخر عندما نقول «أننا خرجنا من أنفسنا» ودخلنا في تجربة «سرمدية»؛ وكأنَّ الحقيقة تجلت لنا، حقيقة الكون بخاصة.

يستطيع الفنانون الذين لهم تجلياتهم الخاصة نقل هذه التجليات للآخرون عبر الفن، لكن ليس بمجرد عرض هذا الفن، بل حسب استجابة الناس الذين يتلقون الفن من نفس الزاوية التي يعرضه منها الفنان. ومع ذلك، الفنانون الذين يقارنون أنفسهم بفنانين آخرين، أو يلتزمون بالذوق الفني السائد، لا ينتجون فنا حقيقيا. كذلك فإن الفن الحقيقي لا يقوم على مجرد التعبير عن النفس: بل يجب أن يكون على تواصل مع ما هو أكبر من النفس. من ثمَّ لا يجب أن يسيطر على تأمل الفنان الرغبة في تحصيل فائدة منه، كما لا يجب أن يسيطر الخوف على تأملنا في الظواهر الطبيعية كالعواصف الرعدية.[3]

يُعرف شوبنهاور العبقرية بأنها قدرة الفنان على إدراك ونقل ما يتجلى له من الأبدية/ اللانهائية (إدراك ونقل اللحظات الفارقة المتجاوزة). بالنسبة لأفلاطون، التجلي أمر تخيلي، وليس عقلانيا، وفي اللحظة التي يتحول فيها الفن لمجرد ممارسة عقلية (على سبيل المثال: اللوحات المقلدة، أو انتهاج الصيغ الفنية التي أثبتت نجاحها على يد فنانين آخرين) فإن الفن وقتها لا يكون وسيلة للعبور إلى الأبدية أو إلى الماوراء. وبالنسبة للناس الذين لا يتمتعون إلا بالموهبة: «الموهبة تصيب الهدف الذي لا يستطيع أحد إصابته، بينما تصيب العبقرية الهدف الذي لا يستطيع أحد روئيته».

فعندما يحرر الشخص نفسه من الإرادة سيتخلص بشكل عام مما تقتضيه هذه الإرادة للبقاء على قيد الحياة، مثل: كيف يتصرف بفاعلية في هذا العالم. ربما لهذا السبب يكون الفنانون واهني القوى ومنعزلين عن الناس في الحياة العملية.


التسلسل الهرمي للفنون عند شوبنهاور

يتقدم على العمارة (والتي أطلق عليها شيلينغ ’الموسيقى المتجمدة‘) الرسم والنحت؛ كل واحد من هذه الفنون مرتبط أولًا وأخيرًا بالظاهرة التي يتعامل معها، أكثر من حقيقة الإرادة القابعة خلف الظاهرة. يأتي بعد ذلك النثر الذي يكون في أفضل صيغه عندما لا يلقي بالًا للحبكة أو الأثر بل يغرق في التأمل؛ بالمثل الشعر؛ الدراما؛ وتتقدمهم التراجيديا حيث يستسلم أبطال العمل في نهاية المطاف قابلين، راضخين، متخلين عن السعي، عادلين عن «الإرادة». ومع ذلك، يرى شوبنهاور أن الموسيقى هي أرفع أشكال الفن، لأنها الأكثر تجردًا، والأقل ارتباطًا بأي معنى ظاهراتي. في عام 1877، كتب والتر باتر [4]: «أن كل الفنون تطمح لأن تكون حالة من حالات الموسيقى». كان باتر يقصد أن كل الفنون عليها أن تسعى لأن تكون قريبة قدر الإمكان من مفهوم شوبنهاور عن الموسيقى المجردة. لاحقًا، سيتجنب الرسامون التجريديون تمثيل العالم تمثيلً متماسكًا، بل أن بعضهم مثل فاسيلي كاندينسكي[5] أعطوا لوحاتهم أسماء ذات دلالات موسيقية. للموسيقى، على سبيل المثال، قدرة على التعبير عن المشاعر (الفرح، الحزن وغيرها) دون أي إكسسوارات أو علل. لاحظ أيضًا البُعد «غير القابل للوصف» الذي تعطيه الموسيقى للأوبرا، والذي يعطي لنصوص الأوبرا معنى مهما وإن بدت ساذجة.

لقد فهم الإنسان منذ فجر التاريخ أن: للموسيقى لغة وأنها ستكون موجودة في عالم سماوي متجاوز. وكما ذكرنا سالفا، وضح فيثاغورس علاقة الموسيقى بالرياضيات، وبالنسبة لرياضيات الإغريق القدامى كانت الموسيقى هي أدنى نقطة لفهم معنى العالم. يعتقد البعض أن فكرة (علاقة الموسيقى بالرياضيات ومعنى العالم) اتخذت بعدا أكبر عندما مزج نيوتن بين الرياضيات وعلم الفلك بنجاح.

أتت نظريات ريتشارد فاغنر [6] عن العمل الفني المثالي معاكسة لفلسفة شوبنهاور للموسيقى: الموسيقى تكون في أفضل صيغها عندما تكون تجريدية. لكن بمجرد أن قرأ فاغنر فلسفة شوبنهاور في عام 1854، اتفق نظريا معه في الرأي وأصبح تلميذه النجيب. لكن عمليًا، استمر فاغنر في المزج بين الموسيقى والنصوص بقوة كما كان يفعل من قبل، لكن في «تريستان أوند إيزولده»[7] (1856)، وحتى كتابة سيغفريد [8] قدم موسيقاه في حُلة شوبنهاورية كاملة.


نيتشه (1844- 1900)

على الرغم من عدم اتفاقه مع الكثير مما أتى في فلسفة شوبنهاور إلا أن نيتشه تأثر بأفكاره عن الموسيقى. في كتابه «مولد التراجيديا من رحم الموسيقى» (1871)، وافق نيتشه أنه من خلال الفن، وبخاصة الموسيقى، يستطيع الإنسان الهروب ولو لفترة وجيزة من بؤس الحياة الدنيوية ويُلقي نظرة خاطفة على الحياة الماورائية المتجاوزة.

استند نيتشه كذلك على فكرة شوبنهاور بأن هناك عاملان في الفن يوازن كلاهما الآخر: الأبولوني (الإبداع المنظم) والديونيسي (الفوضى الخلاقة)[9]. رأى نيتشه أن موسيقى فاغنر قد مزجت بين هذين العاملين، كما أن موسيقىاه -إلى جانب عوامل أخرى- كان سببا في إنقاذ ألمانيا. إلا أن نيتشه انقلب على فاغنر في عام 1876، وفي مقاله النقدي «نيتشه مقابل فاغنر» الذي صدر عام 1889، اتهم نيتشه فاغنر بأنه أهمل العنصر الأبولوني في موسيقاه، إلى جانب أشياء أخرى.


[1] مقامات موسيقية.[2] في الموسيقى الغربية (Ionian, Lydian) هي مقاييس أو أساليب مستخدمة لقياس حجم الصوت في النوته الموسيقية في السنوات الأخيرة لكنها مستوحاة من النظريات اليونانية الموسيقية القديمة.[3] يرى شوبنهاور أن الفن هو استراحة مؤقتة من الحياة، وأنه على الفنان أن لا يسمح لأي شيء بأن يعكر صفو تأمله، بل يجب عليه أن يتغلب على إرادته في تحصيل منفعة من وراء التأمل حتى لا يتأثر تأمله بتلك الرغبة.[4] كاتب مقالات وناقد فني إنجليزي ولد عام 1839 وتوفى عام 1894.[5] رسام روسي تجريدي من القرن العشرين يعتبر من أهم المجددين في المدرسة التجريدية وفي الفن الحديث بشكل عام.[6] ريتشارد فاغنر (1813- 1883) موسيقار وكاتب مسرحي ألماني.[7] تريستان أوند إيزولده عمل درامي أوبرالي من تأليف فاغنر قدمه بتاريخ 10 يونيو 1865.[8] عمل أوبرالي من تأليف فاغنر، قدمه في 16 أغسطس 1876.[9] الأبولوني والديونيسي: هي مفاهيم فلسفية وأدبية تستند تسميتها على الأساطير اليونانية القديمة، استخدمها بعض الأدباء والفلاسفة في الغرب لنقد وتقديم الأعمال الفنية والفلسفية.