ميّز خوسيه كازانوفا في كتابه الأساسالأديان العامّة في العالم الحديث، وفي أبحاثه اللاحقة، بين معانٍ ثلاثة للعلْمنة (secularization). يقول كازانوفا إنه لا بد من التمييز بين المعاني الثلاثة لإنتاج فهم دقيق بالعلمنة وما تعنيه. ولذلك، يقول إنّ المعنى الأوّل يعني «الانحدار» في الممارسات والاعتقادات الدينية، وعلى الرغم من شيوع هذا الاستخدام، وجدّته أيضًا، إلا أنه لا يزال إلى الآن غير مُدرج في القواميس الأوروبية. أما المعنى الثاني، فهو معنى يختصّ بـ «خصخصة الدين»؛ أي إزاحة الدين إلى المجال الخصوصي، وتنصيب ما هو علماني في المجال العمومي. أمّا المعنى الثالث، وهو المعنى الكلاسيكي، ويعني التمايز بين المجالات (أي الدولة، الاقتصاد، إلخ).

تفيدنا تفرقة كازانوفا ليس فقط في إدراك معاني العلمنة الممكنة لاستخدامها، أي في استعمالها الإيتمولوجيّ، وإنما أيضًا في إدراك سمات العلمنة كي نفهم ماذا تعني هذه السيرورة التاريخية التي ندعوها العلمنة عندما نشتبك معها سواء في فضائها المسيحي الأوروبي الغربي، أو فضائنا الإسلامي الذي وصلته العلمنة عن طريق الكولونيالية الغربية في فترات التوسع الإمبريالي للغرب.

ساهم تعريف الدين الحديث في إنشاء هذين المجالين الذين يُسمّون في النظرية الاجتماعية اليوم بالمجال العمومي والمجال الخصوصي.

ولا ريب، كما يتضح تاريخيًّا، أن العلمنة لا تقدم نفسها كـ «سيرورة تاريخيّة» فحسب، وإنّما كنظريّة لقراءة التاريخ عبر عدسة الانحدار الديني. ولذلك، ثمّة صلة وثقى بين العلمنة ونظرية التقدم التي تعني تحسن الأحوال الاجتماعية والسياسية والمعرفية والدينية دائمًا في التاريخ البشري عن كل فترة قبل التي سبقتها. ويخبرنا طلال أسد أن العلمنة لم تكن لتتبلور على هذا النحو لولا سياق مسيحي سمح واشتبك معها في تشكيل ذاتها، وفي إعادة تشكيل المسيحية نفسها. وبالتالي، إن الفهم الاختزالي للدين بوصفه مقابلا للعلمنة كسيرورة هو، في هذا السياق، فهم عليل؛ لأن المسيحيّة قد ساهمت في تشكيل العلمانية الغربية، خاصة بعدما تم تعريف الدين من جديد ليس فقط على أيدي العلماء العلمانيين والفلاسفة، وإنما على يد الكنسيين أنفسهم الذين رأوا حاجةً في ذلك لضبط المجالين الدنيوي والديني وإبقاء كل منهم على حدة.

لقد ساهم تعريف الدين الحديث في إنشاء هذين المجالين الذين يُسمّون في النظرية الاجتماعية اليوم بالمجال العمومي والمجال الخصوصي. فكما يوضح أسد في كتابهجينالوجيات الدين كيف أنّ الكنيسة نفسها -من خلال تعريف الدين- قد لعبت دورا في هذا التمايز بين المجالين، منشئة بذلك فضاءً للعلماني ولتشكُّل العلمنة كسيرورة في المجتمعات الغربيّة، فيقول أسد:

«كانت الكنيسةُ في القرون الوسطى واضحة دائمًا حول الحاجة الدائمة للتمييز بين المعرفة والكذب (بين الدين وما يسعى للإخلال به)، وبين المُقدس وغير المقدس (بين الدين وما يقع خارجه)، وهذان النوعان من التمييز كان الحكم النهائي فيهما للخطابات المرجعية، وهي تعاليم الكنسية وممارساتها وليس قناعات الممارسين. وقد أُعيد رسم الحد الفاصل بين الديني والدنيوي عدة مرات قبل «حركة الإصلاح الديني»، ولكن السلطة الكنسية الرسمية ظلت هي السائدة. أما في القرون التي أعقبت ذلك ومع نشوء العلم الحديث الظّافر ووسائل الإنتاج الحديثة والدّولة الحديثة، فقد اتضح للكنيسة أن هناك حاجةً لفصل الديني عن الدنيوي بحيث اتجه وزن الدين باتجاه الحالات الوجدانية للمؤمن الفرد ودوافعه. وأدى ذلك في هذه الحقبة إلى أن يهجر الانضباطُ (الفكري والاجتماعي) الحيِّز الديني تدريجيًّا لتحل محله أمور مثل «الاعتقاد» و «الضمير» و«رهافة الحس». لكن ظلت الحاجة قائمة لتعريف الدين».

ويشير أسد إلى أمر طريف حول كيف أن تعريف الدين هو «سيرورة خطابيّة» وليس بمثابة حقيقة أبديّة يمكن للعلمنة أن تتبناه وتنشره عبر العالم باعتبار أن هذا هو التعريف الأوحد للدين. إنّ أسد ضدّ المقاربات التي تروم تقديم تعريف كوني (universal) للدين، مثل مقاربات غيرتز (كليفورد غيرتز أنثروبولوجي أمريكي واسع التأثير) وغيره، حيث يرى أنه «لا يمكن أن يكون هناك تعريف كوني للدين، ليس بسبب أن علاقاته وعناصره التأسيسية هي علاقات وعناصر محددة تاريخيًّا فحسب، ولكن لأن هذا التعريف هو نفسه النتاج التاريخي للسيرورات الخطابية»، كما فيجينالوجيات الدين. إن ما يشرط التعريف، في واقع الأمر، هو خطاب ما، وليس الحقيقة، والخطاب يسعى دائما إلى ضبط وتحديد وإقصاء. وبالتالي، إن عمليات تعريف الدين نفسها هي ضرب من ضروب العلمنة الخفية، لأن التعريف لا ينتج في شرط حصري، وإنما يشرُط التعريفَ شروطٌ أخرى خارجه.

ألج من هذه النقطة الأسدية (نسبة إلى طلال أسد) للإشارة إلى عمليات تعريف الإسلام نفسه منذ القرن التّاسع عشر على يد الإصلاحيين الإسلاميين الأوائل، وحتى اليوم على يد المفكرين المسلمين والغربيين الذين يرمون الإمساك بالإسلام بصورة تعريفية، خاصة في ضوء استعمال مصطلح «الإسلام» بصورة فجّة من قبل أعدائه ومحبيه على حد سواء. وأود أن أشير إلى الكيفية التي يشرطُ فيها خطابٌ ما خطابًا يعتقد أنه نقيضه؛ وإلى التنبيه على أنّ العمليّات الخطابيّة هي عمليّات متشابكة وليست أحاديّة بحال، فلا خطاب بدون خطاب مقابل يشرطه ويضع حدوده.

في هذا السّياق، يمكن للمرء أن يتذكّر المحاورة المشهورة بين آرنست رينان وجمال الدين الأفغاني. إنّها محاورة الأصلانيّ في مواجهة المستشرق الكولونياليّ، حيث يظن الأفغاني أنه على النقيض من رينان، في حين أن الخطابين مشروطان بشروط خطابية واحدة. ويوضح إدوارد سعيد في كتابه المهمالثقافة والإمبريالية كيف أن لهجة الأفغاني «لطيفة»، فالأفغاني مثله مثل محامين سابقين في الهند الكولونيالية كان من الناس الذين يكافحون من أجل إيجاد مكان لهم في الإطار الثقافي الذي يشاركون الغرب فيه. فعندما يتحدث رينان عن «دونية» الإسلام عن المسيحية واليهودية، يتحدث الأفغانيّ عن «أفضلية» الإسلام وكيف أن الغرب قد اقتبس في نهضته منه. إنه الخطاب نفسه المتبادل، ولكن في صورة تناقضية، حيث يسعى الأصلانيّ إلى إظهار دينه باعتباره جزءًا من سيرورة الحضارة (الغربية بكل تأكيد).

أردت من مثال الأفغاني العابر الإشارة إلى أن التعاريف التي تقدم دائمًا للإسلام هي نتاج خطابي، تشرطها الشّروط المحيطة والظروف الملتبسة سياقيًّا. فحينما يعرف الإسلامويون الإسلام مثلا بأنه «دين ودولة»، أو بأن الإسلام «دين مدني»، أو أنه «لا كهنوت في الإسلام» فهم، حقًّا، يقدمون مفاعيل خطابية لا تعنينا صدقها وحقيقتها، وإنما كيفية إنتاجها للإسلام باعتباره مقابلا للزعم العلمانوي بأنه «دين بلا دولة». أي إن التعريفين، الإسلاموي والعلمانوي، كلاهما مشروطان ببعضهما البعض. وأبعد من ذلك، فما هو علماني وما هو ديني ليسا مجالين متمايزين أصلًا، وإنما متشابكان تاريخيًّا –كما وضح أسد وكازانوفا وصبا محمود وغيرهم.

إن تعريف الدين، بوصفه إحدى وسائل العلمنة الأساسية، لا يحدد ما هو الدين بقدر ما هو يُقصي منه، وهو تعريف يدل على السياق وعلى السيرورات الخطابية التي نتج فيها بالأساس. بيد أن اللافت هو أن النهج العلماني يهتم بتحديد وتعريف الدين، في حين يُبقي على ما هو علماني نفسه فارغًا دون تحديد، باعتباره بديهيًّا، أو باعتبار أن التمايز بين الديني والعلماني جدّ معلوم. ولنأخذ مثلًا المسألة التي لا تفتأ تُثار المعنية بـ «الدين» و«المجال العام».

فقد أشارت جوديث بتلر ذات مرة أنه عندما نقوم بطرح أسئلة حول «الدين» و«المجال العام» علينا أن نكون شكوكيين بما يكفي، وذلك، حسب بتلر، لأننا دائمًا ما نملأ مقولة «الدين» ونُبقي على مقولة «المجال العام» فارغة، ومصونة، و«خارج الدين». إن بتلر تريد أن تقول إننا -بفعل تصورات علمانوية تدّعي حياديتها- دائمًا ما نُسائل الدين، ونبقي على كل ما هو حديث، علماني، بروتستانتي (في واقع الأمر) خاليًا من المساءلة، كأن ثمّة بداهة أصليّة تفصل الدين عن المجال العام.

المشروع الحديث كله هو مشروع مسيحي في واقع الأمر – والحداثة ما هي إلا مسيحية مُعلمَنة.

إلا أن بتلر، وبذكاء شديد، تطرح أسئلة جدّ جينالوجية؛ إذ تقول، ما هو «الدين» المُقصى حقيقةً من المجال العام؟ وهل المجال العام لا ديني؟ ولذلك، تقول بتلر إن المجال العام -كما نعلم جميعا- هو إنجاز بروتستانتي -أضيف، وبرجوازي في واقع الأمر (يمكن تتبُّع هذه النقطة في نقد نانسي فريزر لهابرماس في عدد من أعمالها)-، أي إنه إنجاز ديني في الحقيقة. أي إن «الدين» الذي يبقى خارج المجال العام هو الدين الذي لا يساهم في تعزيز المجال العام نفسه. ويمكن للمرء أن يضيف، اعتمادا على طلال أسد وخوسيه كازانوفا وغيرهم، أن المسيحية دائمًا ما تُقرن مع كل ما هو حديث، فهي تعزّز من مجال عام، دولة علمانية، خصخصة الدين؛ في حين يبقى دين آخر، أديان أخرى، خارج ما هو حديث قبلًا، أي، بعبارة أخرى، المشروع الحديث كله هو مشروع مسيحي في واقع الأمر – والحداثة ما هي إلا مسيحية مُعلمَنة.

وبالتالي، يتحتم ألا نفهم أن العلمانية حجّمت وحاربت المسيحيّة، وإنما نتتبَّع كيف تعلمنت المسيحية على يد العلمانية، وكيف «تمسّحت» العلمانية على يد المسيحية. فكلاهما لا انفكاك عن بعضهما البعض. والحديث عن أحدهما يستلزم، ضرورةً، الحديث عن الآخر بلا شك.

إن ما هو حديث لا يرفض ما هو ديني بعامة، وإنما يرفض تقليدًا دينيًّا معينًا، دينًا بعينه، ولكن لا يرفض الدين بما هو كذلك. وبالتالي، مَن يتحدثون عن «حداثة إسلامية»، أو عن «إصلاح الإسلام» هم ليسوا واقعين فحسب في صلب أساطير نظرية العلمنة التي تفترضُ انحدارًا خطيًّا للدين وانتصارًا مُظفرًا للعقل والحرية (يمكن مراجعة ما كتبه تشارلز تايلر في هذا الإطار [تايلر، ٢٠٠٧])؛ وإنما أيضًا هم واقعون في عملية «تمسيح» (من المسيحية) للإسلام، وإن على نحو غير تبشيري ظاهريًّا.

فما يُعدّ “كونيًّا” في الحداثة الأوروبية الغربية العلمانية هو، في واقع الأمر، المسيحية معلمنةً في سياق تاريخي بعينه. ولهذا، تفيدنا الجينالوجيا بتتبُّع التصورات، المفاهيم، الحساسيات، والأنساق التي شكلت مخيالنا الحديث باعتبار أن ما نتبنّاه هو الحقيقة في ثوبها الكوني، وأيضا تفيدنا التاريخانية في إدراك كيف تواطأ واشتبك المشروع الحداثوي برمّته مع المسيحية، وأن نشر الحداثة كان نشرًا لمسيحية عُلمنت على يد العقل الحديث. ليس هذا فحسب، وكما أوضح البابا بندكتس في كلمته الطائفية والمحرضة على المسلمين في أوروبا، فإن المسيحية متلازمة واللوجوس اليونانيّ، ولهذا فهي متسامحة وحرة، على عكس الإسلام، كما يضيف البابا، الذي يجبر بالقوة للدخول فيه، الأمر الناجم عن، حسب البابا، أن الإسلام يفصل بين العقل والإله؛ الأمر الذي توحده المسيحية.

لا أريد من هذه الإشارات أن أدخل إلى مسألة المجال العامّ، وهل هو مجال محايد أم أنّه متحيّز، فقد أثبت الكثيرُ من المنظِّرين كيف أن المجال العام مبني على أسس معيارية قبْلية تقصي لغات بعينها، وطبقات، ومواقف، إلخ. ومن افترض من منظِّري المجال العام الليبرالي مثل هابرماس ورولز أنه يمكن أن يكون هناك حياد ما عن طريق ما يسمونه «اللغة العلمانية» التي هي لغة مشتركة وعمومية ويقبلها العقل، ويمكن للمؤمن وغير المؤمن أن يقبل بها، هم منظِّرون ليبراليون ينطلقون من فضاء مسيحي غير مفكر فيه.

الداعون إلى «حداثة إسلامية» أو إلى ما صار يُروَّج اليوم باسم «إصلاح الإسلام» هم غير واعين للأسس المسيحية التي يبنون عليها خطابهم.

فما أردت الإشارة إليه هو «التجاهل» المتعمد لكل ما هو حديث وعلماني، والعمل على تحديد الديني والدين وافتراض ما يكون وفقًا لتصورات علمانوية مستندة إلى «نظرية العلمنة» التي تعمل، كما يوضح تشارلز تايلر، بـ«قصص الحذف» (subtraction stories)، أي إنها تحذف من التاريخ وتشذِّب كي تنشئ سرديتها عن هذا التاريخ. و«قصص الحذف» هذه هي التي تجعل من تعريف العلمانية معنى سلبيًّا دائمًا، وتمنحها الغياب الدائم. وكما يقول العالم الاجتماعي كاريغ كالهون أنه «غالبًا ما تُقارَب العلمانية كضرب من الغياب»، أي كضرب من غياب الدين، و«السحر عن العالم» -بمفهوم ماكس فيبر-، والأساطير، وغياب كل شرط متعالٍ عن الوجود البشري. ولذلك يرى أن هذه النظرة «مضللة»، ولا بد من مقاربة العلمانية كشيء واقعي، كشيء ملموس، بدلا مما توحي به نظرية العلمنة من كون العلمانية أسطورة.

وإن الداعين إلى «حداثة إسلامية» أو إلى ما صار يُروَّج اليوم باسم «إصلاح الإسلام» هم غير واعين للأسس المسيحية التي يبنون عليها خطابهم، وكيف أن ادعاء «إسلامويتهم» لا ينقذهم من كونهم واقعين في صلب العلماني -كمقولة- من حيث إن المقولتين -الديني والعلماني- غير منفصلتين بتاتًا في الشرط المسيحي الذي أنتجهما. لا يكمن الخطأ في كونها أسسًا مسيحية، أي لأنها مسيحية بالذات، وإنما ما أردت الإشارة إليه هو أن ما توحي به «نظرية العلمنة» من أنها عقلانية وحيادية وغير دينية هو إيحاء مضلِّل، فهي على تشابك وثيق بالمسيحية، وكلاهما تطوَّرا معًا. ولذلك، سيكون من الأجدى، ربما، أن نعترف بالجينالوجيا التي توضح مقولاتنا وخطاباتنا ومفاهيمنا، بدلًا من أن يتم استغراقنا في شرط مسيحي باعتبار أنه «كوني»، وأن انوجاد خطاب حول «الإسلام» من داخله يمكن أن يلحق الإسلام والمسلمين بطور الحضارة، أي بطور الغرب.