نسعد قليلا عندما تصبح قوائم جائزة “ساويرس الثقافية” مصدرا موثوقا به لأدب جيد يتخطى روح التجارية التي فشت في كتبنا، نسعد خاصة مع فشل جائزة “البوكر العربية” في أداء مهمتها شبه المقدسة تلك. فبينما تقدم لنا جائزة ساويرس «كتاب النحات» لأحمد عبد اللطيف و«رمش العين» لمحمد خير، كانت البوكر تضع «الفيل الأزرق» لأحمد مراد و«أنا وهي والأخريات» لجنى فواز الحسن في قوائم ترشيحاتها.

وتزيد سعادتنا أن نرى كيف يتحول المترجم إلى كاتب، كيف ينتقل اسم «أحمد عبد اللطيف» من خانة المترجم على غلاف «كانت هذه هي العزلة» لـ خوان مياس، إلى خانة الصانع والمصمم لمتاهة «كتاب النحات». كيف تثري تجارب الترجمة روح المبدع فنجد فيه عمقا نفتقده كثيرا.


تأسيس لواقعية سحرية مصرية؟

تخيل معي مارد طويل القامة يغرس قدميه في طين الواقع بينما ترتفع رأسه محلقة بين السحاب. هكذا تصورت الواقعية السحرية دوما، كائن صعب الإرضاء يجمع بين أقصى درجات بؤس الواقع وفانتزيا الخيال البعيد. كتبه أدباء القارة اللاتينية كثيرا بينما لم يلمسه مؤلفونا إلا في محاولات قليلة نذكر منها «الواجهة» لـ يوسف عز الدين عيسى، وربما محمد ربيع في «كوكب عنبر»

إنسان يترك وراءه عالمه المتشابك بالمشاعر والتجارب المحبطة ليرحل إلى جزيرة نائية ويواجه السؤال الكبير «كيف يفرض الغائبون سطوة لم تكن لهم في وجودهم؟» يواجه الوحدة المطلقة لا يعزيه إلا ذكريات يجسدها بحرفيته كنحات في تماثيل من طين.

الأهم هنا كيف يضع «عبد اللطيف» غلالة رقيقة على كل الأحداث في صورة الحلم، لا أنت ولا بطل العمل النحات الخالق، له معرفة كلية بالأمور وحقيقة الأحداث المتلاحقة.

«كلنا في نهاية الأمر ، محض عبارة مستقرة في ذهن أحد»

يحدثنا بطلنا النحات عن «لذة الخلق» فنراه انقلب إلهًا صغيرًا محدود المعرفة واسع القدرة، تستيقظ مخلوقاته لتصنع حياة مغايرة لما يعلم وتتجسد حرية الإرادة والمصير كمعضلة واقعية لا كأحلام الفلاسفة البعيدة عن واقعنا اليومي.

لماذا أتذكر رواية «اللا منتهي في راحة اليد لـ جيوكندا بيللي» دائما عندما أرى «كتاب النحات»؟ لا أعلم بعد. أردد أنها اللغة الشاعرية والقصة الأبدية المتكررة عن خالق يتعجب من قدرة مخلوقه، شجرة المعرفة تطرح ثمارها لمن يجرؤ على أكل اللعنة.


كيف تخلق عوالم موازية صغيرة داخل عالم واحد كبير؟

المتعة أن تشاهد أحمد عبد اللطيف يصنع قصصا صغيرة داخل الإطار الأكبر في زمن مغاير. ففي لحظة ما نترك الجزيرة ونتابع فصولها الغريبة وأمطارها ورعدها، نترك كل ذلك ونرحل إلى زوج الأم الحنون يصنع خشبة مسرح يضع فيها اليقين وهو المتشكك حتى في وجوده ذاته، أو الأب تطارده لعنة الشبه فلم يعد يطيق رؤية وجهه في كل الوجوه فيختار الرحيل بديلا عن الانتحار، بائعة اليانصيب تتساءل، رجل القضيب يحملق مندهشا، تتحول الرواية المتماسكة هنا إلى جنة متسعة تستوعب مشاكل أبطالها النفسية وهواجسهم ولا تفرض إيقاعا في حذ ذاتها بل تكتفي برؤية أبطالها يتعرفون على أنفسهم.


لماذا لا نرى (كتاب النحات) في المترو؟

لم نحدد بعد سبب عزوف شباب القراء عن قراءة الأنواع الأدبية تلك التي تناقش فعلا مشاكل الروح، الأكيد إننا لا نعاني نقصا في مشاكلنا الوجودية والسؤال عن جدوى وجود الحياة. ربما هي مشاكل التوزيع والدعاية القاتلة فلا يمتلك الأدب الجاد ألتراسًا يدافعون عنه حقا وباطلا. و نقدر أن السبب الرئيسي هو أن الأدب الرديء الذي يقدم تشويقًا أجوف وإجابات سهلة على كل الأسئلة إما أفسد، أو في طريقه لإفساد حلمات التذوق عند شبابنا، فنرى أن رواية قصيرة قليلة عدد الصفحات كـ «كتاب النحات» تخسر معركة السوق مقابل أعمال أكبر حجما وأقل قيمة.


هل مات الجبلاوي؟

لم يطرح عبد اللطيف هذا السؤال أبدا , لكن تلميحاته على طريقة نيتشه أو تفكير لكريشيوس، هل مات النحات أم رحل؟ أم أنه كما أخبر لكريشيوس نفسه يوما «آلهة روما القديمة تسكن وراء أسوار العالم المشتعلة»؟ أو أن النحات اندهش يوما من مقدرة تماثيله على القتل وصنع الأصنام له. هل كان النحات في طريقه للندم على ما خلق ومن ثم الإطاحة به كله بعيدا في طوفان جديد يذوب الصلصال الفاني فيدرك مدى ضعفه وهشاشة عظامه؟ النحات الذي صنع دنياه في ستة أيام ثم ارتاح في السابع يرحل عن جزيرته المزدحمة ليصنع تماثيل أخرى ربما أو لكتابة يوميات جديدة.

نتصور دائما المؤلف متحكما في شخصياته بخيوط الماريونت، لكننا بين الحين والآخر نصادف مؤلفا يخفي تلك الخيوط جيدا حتى لنشعر بالشخصيات تتنفس وتتحرك مخيرة، وعندما نصادف مؤلفا كهذا نضع اسمه في قائمة قصيرة نحتفظ بها. ربما يجب أن نضيف أن اسم “أحمد عبد اللطيف” انضم لهذه القائمة أخيرا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.