فيما يخص الصناعة والبيئة، إذا كانت هناك أمنية واحدة لدى البشرية غير الحصول على موارد طاقة قادرة على استبدال الوقود الحفري تمامًا وبنفس الفعالية، ستكون التخلص من كميات ثاني أكسيد الكربون المطردة التي يتم إنتاجها من الوقود الحفري حاليًا.

نعرف بالفعل العديد من الطرق التي أثبتت قدرتها «النظرية» على تخفيف حدة آثار تراكم ثاني أكسيد الكربون حتى وإن كانت غير فعالة بالشكل الذي نأمله. تضم هذه المحاولات اصطياد الغاز المزعج وحبسه ثم التخلص منه، أو اللجوء لمصادر طاقة مختلفة لا ينتج عنها ثاني أكسيد الكربون. مع هذه الأفكار البديهية تظل محاولة محاكاة الطبيعة في إعادة تدوير الكربون، كما في دورتي الكربون قصيرة وطويلة المدى، أو القيام بتثبيت (fixation) ثاني أكسيد الكربون في بيئة تحتاجه كما يحدث للنيتروجين في التربة، هي الهدف الأعظم الذي يطارده الباحثون.


من الوقود وإليه

للوصول لأمر كهذا، كان على الكيميائيين اكتشاف طريقة ما لتحويل الكربون إلى مركب آخر لتبدأ الدورة أو أن يصبح ثاني أكسيد الكربون مادة خامًا لتقنية صناعية ينتج عنها مادة مفيدة صناعيًا. توالى ظهور العديد من الأبحاث والتقنيات التي نجحت في ذلك بالفعل ولكن ليس بالشكل المرضي. في وجود النحاس كعامل حفاز على سبيل المثال، يمكن أن يتحول ثاني أكسيد الكربون لعشرات المركبات الأخرى، ولكنها جميعا تفاعلات تتم بشكل متوازٍ؛ مما يعني أن نسبة كل ناتج من هذه النواتج تظل ضئيلة ولا يعتمد عليها لتكون خطوة أساسية في حلقة يمكن الاستفادة منها، من هنا تأتي أهمية الكشف الجديد.

كان الباحثون في مختبر أوك ريدج القومي بولاية تينيسي الأمريكية يقومون باستقصاء نشاط عامل حفاز كهربي (electricatalyst) يعمل في درجة حرارة الغرفة. صنع هذا العامل الحفاز بتكنولوجيا النانو التي تستخدم قطبًا كهربيًا رقيقًا من الجرافين -باقات كربون سمك كل منها ذرة واحدة- مرصع بذرات النيتروجين، ويحمل جسيمات نانوية الحجم من النحاس؛ مما يؤدي لتكوين شكل يشبه المسامير ذات الاتجاهات العشوائية المختلفة يعرف باسم (carbon nanospike) أو (CNS).

في أثناء محاولة التحكم في التفاعل المعروف الذي يهدف لاختزال ثاني أكسيد الكربون إلى ميثان في وجود العامل الحفاز الجديد –بعد أن كان مزيجًا من متراكبات الزركونيوم ومركبات البورون يستخدم لتحفيز هذا التفاعل سابقًا- وجد الباحثون مفاجأة سارة؛ لم يكن الناتج ميثان أو ميثانول بل كان مادة يمكن استخدامها بحد ذاتها كوقود، كان الناتج هو الإيثانول (Ethanol).

عادة ما يحتاج اختزال ثاني أكسيد الكربون إلى أول أكسيد الكربون CO إلى طاقة عالية. أضف إلى ذلك أن طرق الاختزال التي يتم تنفيذها في وسط مائي تؤدي لظهور مشكلة تنافس بين تفاعلين؛ أحدهما تفاعل اختزال ثاني أكسيد الكربون إلى أول أكسيد الكربون، والآخر تفاعل تكوين الهيدروجين وتصاعده. لهذا لم يكن تكوين جزيئات أول أكسيد الكربون ثم ارتباط كل منها بجزيء آخر لتكوين ثنائيات – الوحدة dimers – وهي الخطوة التي أدت للظهور المفاجئ والسار لجزيئات الإيثانول- متوقعًا بهذا المعدل.


التقنية من منظور واقعي

كثيرًا ما تقرأ عناوين براقة ومقالات حول أوراق علمية حديثة تخبرك بأن مشكلة ما قد تم إيجاد حل فعال لها كما لو كان الأمر يعني أن المشكلة أصبحت من التاريخ. في الوقت نفسه تجد أن «الحل السحري» لم يمس حياتك بأي شكل وأن المشكلة ما زالت جاثمة على حيواتنا ومستقبلنا. يعود هذا إلى إغفال فكرة محورية في البحث العلمي والتقنيات الحديثة، يطلع على هذه الفكرة اسم «استعداد التقنية».

يتم تصنيف الأبحاث المختلفة طبقًا لمعيار يسمى بمستويات استعداد التقنية Technology) (readiness levels، وهي مستويات تحدد النطاق الذي تمت فيه التجربة حتى وقت معين، الشروط التي تطلبتها والعوائق التي ما زال على التقنية التغلب عليا. كونك وجدت نسبة ضئيلة من الذهب في ماء النهر لا يعني أنه من الحكيم إرسال الأساطيل بتكلفة مهولة لشفط مياه الأنهار وتنقيتها من محتواها الذهبي. للأمر اعتبارات كثيرة تتعلق بالمقارنة بين ما تقدمه التقنية وما تستهلكه، وهل من الممكن تنفيذها على نطاق واسع أم لا.

نجد مثلاً أن الإثارة في الكشف الجديد تكمن في تحويل ثاني أكسيد الكربون إلى وقود؛ مما يعني أنه سيتم حرقه مجددًا وسيتجه نحو الجو مرة أخرى؛ مما يجعل التقنية أكثر كفاءة من ناحية الصناعة ولكنها أقل من ناحية تقليل تأثير الصوبة والاحتباس الحراري. في حين نجد تقنيات أخرى لاستغلال ثاني أكسيد الكربون مثل البلمرة، قادرة بحد ذاتها على تقليل ثاني أكسيد الكربون لكنها تستهلك وقودًا حفريًا أكثر بكثير وأكثر ضررًا على البيئة من الطاقة المتجددة التي تستهلكها التقنية المكتشفة حديثًا.

ويمكن وصف المستويات المذكورة باختصار على النحو التالي:

  • المرحلة الأولى: هنا يتم تسجيل الظاهرة التي تم ملاحظتها واستقصاء أساسياتها.
  • المرحلة الثانية: تحويل الظاهرة إلى تقنية؛ أي إيجاد تطبيقات عملية للاستفادة منها. ما زلنا حتى هذه المرحلة في نطاق النقاش النظري.
  • المرحلة الثالثة: الاختبارات الأولية للتقنية وإثبات فكرتها.
  • المرحلة الرابعة: إتمام إثبات الفكرة الأساسية في ظروف معملية.
  • المرحلة الخامسة: إتمام إثبات الفكرة الأساسية في ظروف شبيهة بالظرف الواقعي الذي صممت له التقنية.
  • المرحلة السادسة: الاختبار المبدئي للتقنية على ظروف معملية.
  • المرحلة السابعة: التطبيق المبدئي للتقنية في بيئة واقعية ولكن مبسطة أو قابلة لتتحكم فيها.
  • المرحلة الثامنة: تم استكمال بناء التقنية واختبارها بشكل ناجح وأصبحت في متناول اليد كحل للمشكلة.
  • المرحلة التاسعة: يتم إثبات نجاح التقنية من خلال تطبيقها مرات عدة.

بهذه المراحل، يمكننا تصور أن معظم التقنيات الحديثة للغاية تقع ما بين المرحلة الثانية والرابعة؛ مما يجعل الضجة –المستحقة بالنسبة للباحثين- مُساء استخدامها وفهمها. على المرء أن يدرك أين يقف فعلاً من مسيرة البحث العلمي ليدرك كم تبقى من الطريق نحو الحل النهائي للمشكلة.

كانت قدرة العامل الحفاز الجديد في تقليل الطاقة المطلوبة وتثبيت المركبات الوسطية في التفاعل ليسير في اتجاه تكوين المركب الهيدروكربوني -الإيثانول- بدون تشتت هي الفكرة المحورية للتقنية الجديدة، التي رغم كونها تحتاج للمزيد من التعديل لرفع كفاءتها من منظور الطاقة، إلا أنها تعد بأن يصبح الأكسيد المذموم مادة خام ثمينة تصب نحو المزيد من الإنتاج وتدور في المزيج من عجلات الإنتاج.

المراجع
  1. High-Selectivity Electrochemical Conversion of CO2 to Ethanol using a Copper Nanoparticle/N-Doped Graphene Electrode (Chemistry select)
  2. Styring, Quadrelli, Armstrong- Carbon Dioxide Utilisation Closing the Carbon Cycle
  3. Michele Aresta (editor) –Carbon dioxide as a chemical feedstock