الناظر إلى التجربة البحثية الإسرائيلية ليجد عوامل عديدة وقفت وراء النهضة العلمية والتقدم التقني الذي أحرزته في الآونة الأخيرة، ويلعب الدور الوظيفي للعلم والتكنولوجيا في تكوين وتطوير إسرائيل دوراً مهماً، ولكن تلك التجربة تحمل في خباياه انتهاكات حقوقية لهذه النهضة العلمية، ولكن قبل البدء في بيان الاقتصاد الخفي لتلك النهضة العلمية، لا بد من الإشارة إلى مراكز البحث العلمي والتجربة البحثية بصفة عامة.

لعل أهم ما يميز التجربة الإسرائيلية هي إستراتجية البحث العلمي.

وتتمثل هذه الإستراتيجية في إعطاء البحث العلمي أولوية قومية أي لابد من تخطيط الدول للسياسة التعليمية، وتحديداً التعليم العالي والبحث العلمي، بما يمكنها من تخصيص كل قطاع أو فرع بحاجته من المورد البشرية والمالية.

كما أنها تهتم بالأبحاث المعمقة وتعتمد عليها وتعتبرها من الركائز الأساسية برسم وبناء الإستراتيجيات في جميع المجالات، حيث تمثل المعرفة والعلم ومناهج البحث العلمي مصدراً مهماً لبناء اقتصادها وإنتاجها الفكري والصناعي والزراعي وشئون الحياة الأخرى، ولعل هذا يمثل أحد الفروق الجوهرية بيننا وبين إسرائيل، وهو التخطيط الجاد للبحث العلمي بحيث تتناسب مخرجات التعليم العالي مع احتياجات الدولة من كل التخصصات، وهذا يؤدي بدوره إلى عدم وجود فائض في الخريجين من الجامعات، وبالتالي لا وجود للبطالة، بالإضافة إلى أن مراكز البحث العالمي لا تعمل إلا وفق خطط تضعها الدولة حتى لا يكون الهم لأكبر هو زيادة رسائل الماجستير والدكتورة ولكن بدون جدوى.

وقد أعطت الأيديولوجية الصهيونية دفعة قوية لإيجاد مفاهيم علمية وتأسيس لبنات جديدة للبحث العلمي الحديث، وأولت اهتماما خاصا بالعلوم الفيزيائية والكيميائية والطبيعية لوعيها بأنها تتيح الهيمنة على العالم وتحويل مساره.

فكثير من الكتاب حينما يصف البحث العلمي في إسرائيل أو يتحدث عن الجانب الاقتصادي وأسبابه يهمل الجانب الأيديولوجي، فالأيديولوجية الصهيونية المحرك الرئيس لهذه الطفرة التكنولوجية الموجودة في إسرائيل، فدائما ما يعبر عن هذا الأمر بـ«مبدأ الإرادة»، فأي عمل مهما كان حجمه لابد أن يسبقه أيديولوجيا يستمد منها قوته، ولعل أرنولد توبيني في كتابه مختصر دراسة التاريخ وهو يؤكد نظريته في دور الدين في تاريخ الحضارات يرى أن الدين هو «الحوض الحامل» الذي ينقل الحضارات من طور لطور آخر، ولقد سبقه علامة التأريخ ابن خلدون في رصد هذه الظاهرة التاريخية.

إشراك القطاع الخاص لتسويق البحث العلمي

ينظر المجتمع الإسرائيلي نظرة لائقة للبحث العلمي من حيث أولويته بكثير من الأنشطة والمجالات، وربما يتعلق ذلك بالتنشئة الأيديولوجية التي أكسبت الجمهور الإسرائيلي هذه النظرة الإيجابية نحو البحث العلمي، وأصبح الناس مدركين لخطورته.

وقد ساهم ذلك بدوره في إبراز دور المجتمع فيها لدعم المؤسسات البحثية ماديا ومعنويا، وعدم البخل عليها بالمال والإمكانات، وحتى الدعم اللفظي، حتى إنه في كثير من الأحيان تنظم المسيرات والتجمعات مطالبة الحكومة بالإنفاق بسخاء لإجراء المزيد من البحوث العلمية في مجالات التنمية التي ينشدونها.

وامتدادا لهذه النظرة المجتمعية الإسرائيلية الإيجابية فقد انعكس ذلك على المستوى السياسي الرسمي في تل أبيب، بحيث إن الأكاديميات العلمية والمؤسسات العلمية والمؤسسات البحثية تتمتع باستقلالية في أداء دورها، مما يساعد على اتساع دورها، وعدم خضوعها لسلطة الحكومة، لتصبح مجرد هيئة ضمن الهيئات التابعة للحكومة، كما هو الحال في بلادنا.

كما يعد القطاع الحكومي هو الممول الرئيس لنظم البحث العلمي في إسرائيل، في حين تتراوح حصة القطاع الخاص في تمويل البحث العلمي 52%، وهذا الإسهام للمؤسسات البحثية يرجع إلى تقدير القطاع الخاص لقيمة البحث العلمي وجدواه.

فالدور الذي يلعبه المجتمع في دعم البحث العلمي هو الأساس الذي يقود هذا القطاع للتطور.

فعندما تزيد تكاليف البحث العلمي على القطاع الخاص لابد للدولة من التدخل لدعم الفجوة التي تكاد أن تطيح بقطاع رائد مثل قطاع البحث العلمي، وهذا ما فعلته الولايات المتحدة الأمريكية عام 1980م، فكانت شركات الأدوية تتجاهل نحو خمسة آلاف مرض من الأمراض النادرة، وذلك بسبب ارتفاع تكاليف البحث العلمي، وعدم وجود أمل لديها في استعادة تكاليف القيام بالبحث العالمي حتى إن وجدوا العلاج، فأصدر الكونجرس عام 1983م قانون صناعة عقاقير الأمراض النادرة، وأعطت الدولة المنح الشركات من أجل القيام بالأبحاث، وكذلك الخصم الضريبي، لقد دخل السوق أقل من عشرة عقاقير لأمراض نادرة قبل إصدار القانون بعشر سنوات، أما بعد إصداره فقد وصل الرقم مائتي عقار لأمراض النادرة، وهذا يوضح مدى تدخل الحكومة مع القطاع الخاص من أجل إحراز طفرة علمية.

وحتى نقف على حجم البحث العلمي ومخرجاته قمنا بعمل مقارنة بين الدول العربية وإسرائيل فيما يصدر من تكنولوجيا متقدمة، وصادرات التكنولوجيا المتقدمة هي منتجات ذات كثافة عالية من حيث التطوير والبحوث مثل مجال الفضاء الجوي، وأجهزة الحاسوب، والمنتجات الصيدلانية، والأدوات العلمية، والأجهزة الكهربائية، لنقف على حجم الفجوة التكنولوجية التي تعيشها البلدان العربية.

فآخر بيان متاح للبنك الدولي لهو أمر مخزٍ، فصادرات الدول العربية مجتمعة تمثل 21% من إجمالي الشرق الأوسط، بينما تنفرد إسرائيل بـ 79% من إجمالي الصادرات.

فالإنفاق على البحث العلمي والتطوير في إسرائيل يصل إلى 4.7% ، بينما يصل متوسط الإنفاق على البحث والتطوير في الدول العربية متجمعة إلى 0.3%.

بالإضافة إلى الدعم الخارجي للدولة الصهيونية في مجال العلم والتكنولوجيا، فالهبات التي كانت تحصل عليها من الدول والقوى الاستعمارية الغربية كانت تمثل حبلا سريا، كفل لها أسباب الحياة، وقد أخذ الدعم أشكالا متعددة، من أبرزها:

الإعانات المالية والاقتصادية التي تلقتها إسرائيل من الخارج، والتي كانت سببا في انتشال الخلل في الهيكل الاقتصادي لإسرائيل في القرن العشرين، يقول فيليس بينيس: «معونة واشنطن لإسرائيل تصل إلى ما يزيد على 640 دولارا للإسرائيلي في السنة، في حين أن الإنفاق الفيدرالي المحلي بالولايات المتحدة كان يصل في المتوسط، خلال السنوات الأخيرة، إلى ما يقل عن 112 دولارا للفرد الأمريكي في السنة، وما يزال آخذا في الهبوط».

وتشير مصادر صحفية ألمانية أن ألمانيا دفعت أكثر من 200 بليون مارك (122 مليار دولار أمريكي) كتعويضات لليهود وغيرهم من ضحايا النازية، صب أغلبها في خزينة الدولة الصهيونية.

دعم وإنشاء الجامعات والمؤسسات العلمية، والتبادل العلمي بين المؤسسات العلمية والتكنولوجية الراسخة في الولايات المتحدة والغرب، وفتح أبواب الخزائن الأوروبية والأمريكية أمام المراكز الصهيونية العلمية والتكنولوجية للاغتراف منها، وفي أواخر عقد التسعينيات كانت وزارة العلوم الإسرائيلية قد وقعت اتفاقات تعاون علمي مع 26 دولة في العالم (هي الدول المتقدمة بالطبع)، تتضمن تنفيذ برامج أبحاث مشتركة وتبادل الباحثين العلميين، وعقد حلقات ومؤتمرات بحثية مشتركة.

ولكن هذا ليس كل شيء فكما عودتنا الرأسمالية أن ما تحمله في اقتصادها الخفي أضعاف ما يظهر لنا، فلقد عمدت الدول الرأسمالية إلى فرض الاتفاقيات الدولية التي تحد من قدرات الدول النامية من أجل تقنين نهب دول العالم الثالث، فنجد اتفاقية حقوق الملكية الفكرية التي كان هدفها الأساسي ليس الحفاظ على جهود البحث والتطوير التي توصلت إليها الدول في مجالات البحث العلمي، بل من أجل إحكام السيطرة على العلم ومنع الدول النامية من اللحاق بالركب العلمي.

يقول ميشيل أ.جولين في كتابه «الحث على الابتكار»:

إن حقوق الملكية الذهنية بمثابة خبيئة تقدر قيمتها بالتريليونات من الدولارات؛ كما أنها، بالمعيار ذاته، تفرض كلفة مستترة. وتتفاوت مبادئ الملكية الذهنية، من مضللة إلى شبه مبهمة، ويتخذ القائمون على إدارة هذه الحقوق، أحيانا، سمت من ينتمون إلى جمعية سرية… كذلك فإن نظام الملكية الذهنية هو الذي يقرر متى وكيف يصير ابتكار ما متاحا يستخدمه آخرون، وذلك بوضع حدود بين ما هو بالمتناول وما هو عسير المنال، وتساعد حقوق الملكية الذهنية في تحديد أي الابتكارات يكون مشاعا وأيها لا سبيل إليه… وفي النهاية فإنها تساعد أحيانا على جرح آخرين.

فمنظمة التجارة العالمية وكل ما تفرع منها من اتفاقيات كان هدفها هو الحفاظ على المصالح الرأسمالية وفتح أسواق جديدة لمنتجات الدول المتقدمة، فكثير ما تعتبر الاتفاقيات الدولية ما هي إلا تقنين مصالح الدول الرأسمالية، ومتى ما تعارضت تلك الاتفاقيات مع مصالحها فسرعان ما تبدل وتعدل من أجل إحكام السيطرة والهيمنة الرأسمالية، فمعظم الدول الصناعية لجأت إلى انتهاك أحكام الجات بتطبيق ما يعرف بالإجراءات الرمادية، بقصد حماية مصالحها التجارية، ومن أشهر تطبيقات هذه الإجراءات الرمادية في نظر الفقهاء اتفاقية الألياف المتعددة الجنسيات التي وقعت عام 1962م كإجراء قصير الأمد يطبق لمدة عام واحد، ولكنه ظل يجدد عاما بعد آخر بصورة دائمة، وهو اتفاق يقيد صادرات المنسوجات والملابس من الدول النامية إلى أسواق الدول الصناعية بحصص كمية حتى لا تستفيد الدول النامية من المزايا النسبية في هذا الميدان.

وكذلك اتفاقية حقوق الملكية الفكرية «التربس»، فكم من الاتهامات التي وجهت إلى إسرائيل بسرقة بحوث أدوية وتصنيعها دون تصريح رسمي من الدول وفي فترة الحماية، وكذلك تمتلك إسرائيل أكبر شركة في العالم متخصصة في صناعة وإنتاج الأدوية الجنسية، وهي شركة تيفع الإسرائيلية، فاتفاقية TRIPS أدت إلى فرض فترة عشرين عاما كحد أدنى لحماية براءات الاختراع، وهو أمر غير منطقي، حيث تنتهي دورة حياة المنتج قبل مرور العشرين عاما، وهو الأمر الذي يؤدي إلى تأخير الاستفادة العامة من المنتج بواسطة العالم الثالث، لكن تلك الاتفاقية لعبت دورا اقتصاديا في تحقيق مصالح وأهداف إسرائيل في الهيمنة والسيطرة الاقتصادية على العديد من الدول وتوسيع مساحة نفوذها في العالم، فإسرائيل تمتلك أكبر عدد من الفنيين والخبراء والأكاديميين المتخصصين في صناعة الدواء على المستوى العالمي، وتنشئ فروعا لها في العالم من أجل إجراء التجارب ومعرفة الأمراض وأنواعها وطرق الوقاية منها وتسويق منتجاتها الدوائية، وإقامة شركات ومصانع ومكاتب علمية بصفة دائمة في العديد من دول العالم، بل منافسة دول العالم المتقدم في هذا المجال، الأمر الذي يعني تحجيم دور مصر والعالم العربي في مناطق عديدة من العالم، وانفراد تل أبيب بالمشهد السياسي والاقتصادي للعديد من دول العالم.

المراجع
  1. مراكز البحث العلمي في إسرائيل، عدنان عبد الرحمن.
  2. مختصر دراسة للتاريخ، أرنولد توينبي.
  3. منظمة التجارة العالمية، علي إبراهيم.
  4. البيانات الخاصة بالبنك الدولي.
  5. اتفاقية الملكية الفكرية وأثرها على القطاع الدوائي في إسرائيل، فيكتور بولس.
  6. المتحكمون بأقوات البشر، جيوف تانزي.
  7. الدور الوظيفي للعلم والتكنولوجيا في تكوين وتطوير الدولة الصهيونية، أحمد بهاء الدين.
  8. الإعانات المالية لإسرائيل وأثر المقاطعة العربية لها، أحمد الدماصي.